مصطفى عبيد

التفرد في الكتابة يعني تحررا كاملا، وانحيازا تاما للجمال، ومحاولات لا تنتهي للتجريب، وسعيا حثيثا للتطور وتجويد الصناعة الفنية. ما يُميز الأديب المصري محمد المنسي قنديل، هو أنه قليل الإطلالات الإبداعية، وعظيمها من حيث التأثير.

احتفى المجتع الثقافي في مصر أخيرا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بتعاقد قنديل مع دار الشروق على إصدار رواية جديدة له بعنوان “طبيب أرياف” يسرد فيها جانبا من حياته الحائرة والمتذبذبة بين الأدب ومهنة الطب.

وجاء الاحتفاء انطلاقا من حسن اختيار أعمال الرجل، والتجاوب الدائم للجمهور معها، خاصة أنها تُقدم سردا واقعيا يؤصل لجانب من التاريخ المصري الحديث، وتستخدم لُغة حية متطورة قادرة على الوصول إلى قلب وعقل القارئ وملامسة ذائقته للجمال. كما أن غياب الرجل عن المشهد العام وهجرته إلى منفى اختياري في مونتريال بكندا، جعل طلته محل اهتمام.

الولع بالتجريب

يبدو قنديل، وهو يعبر عقده الثامن، كشاب في العشرينات، ما زال مولعا بالتجريب، وهي صفة حاكمة لشخصيته منذ بداية مشروعه الأدبي، حيث قال وكتب إن “التجربة هي أكبر إغراء له في هذا العالم”.  من هُنا يُشرّق الرجل ويُغرّب ويُجرب كل جديد، وكل مُستحدث، مفضلا السير في دروب لم يطرقها من قبل، ويدخل في أنماط جديدة كل يوم، ويبحث عن اختلاف وتفرد، كاسرا ملل القراء ورتابة الاعتياد.

فيلمه "فتاة من إسرائيل" بطولة محمود ياسين، ورغدة، جعل قنديل يشعر في النهاية أن الأدب، وحده، يُمكن أن يحقق تأثيرا كبيرا دون تحويله إلى عمل فني
فيلمه "فتاة من إسرائيل" بطولة محمود ياسين، ورغدة، جعل قنديل يشعر في النهاية أن الأدب، وحده، يُمكن أن يحقق تأثيرا كبيرا دون تحويله إلى عمل فني

تتجاوز هذه السمة الأصيلة أساليبه الإبداعية، وتمتد إلى حياته الشخصية ككل، فهو يُجرب العمل طبيبا في أماكن ريفية، ثم يعمل في القاهرة المزدحمة والمتخمة بالنماذج المتنوعة، ثُم يُجرّب اعتزال مهنة الطب تماما، والتفرغ للكتابة، ويُجرّب أدب الرحلات، ثم كتابة السيناريو السينمائي، ويُجرّب أيضا كتابة قصص الأطفال، ثم نجده يُجّرب الهجرة والاغتراب ويواصل التعلم من جديد للتأقلم مع المجتمع الكندي.

سلسلة لا تنتهي من التجارب والمحاولات لتحقيق الذات عبر حقول عدة لا تعترف بسن، ولا تتقيد بمجتمع، غير أن هناك مظلة حاكمة لكافة محاولات التجريب تكمن في الولع والبحث عن الجمال، والسعي الحثيث نحو سعادة البشر من خلال مساندتهم بالطب، وإمتاعهم بالكتابة الأدبية.

ثمة تصور آخر يراه الرجل ويُكرره في أحاديثه مع الأصدقاء والقراء، وهو الرغبة في العيش طويلا، لذا فكثيرا ما يردد مقولة الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس التي تقول “الأدب مثل المرايا، ومثل الجنس يُطيل العمر”.

يرى أن الأديب يعيش حيوات عدة، فكل قصة أو حكاية يُقدمها يعيش فيها، وكل شخصية يُقدمها يأخذ عمرها ليضيفه إلى عمره، ويعني ذلك أن الأديب طويل العمر لأن عمره على الأرض يتجاوز عمره الفسيولوجي، فمبدع مثل نجيب محفوظ المولود عام 1911، ما زال حيا رغم رحيله منذ 14 عاما.

يتصور البعض أن الرواية الجديدة التي لم يُفصح عن تفاصيلها بعد، تحكي قصته عندما كان طبيبا في الوحدة الصحية في ريف مصر، عقب تخرجه في كلية الطب سنة 1975، ومعايشته لأوجاع الفلاحين والبسطاء واقترابه من حيواتهم وتأثره بمعاناتهم لتمثل جزءا ثانيا لروايته “انكسار الروح“.

وقدمت هذه الرواية جانبا من حياته وهو طالب خلال حقبة السبعينات وما حفلت به من تحولات سياسية، وصعود للتيارات الدينية، وانحطاط للقيم الأخلاقية وشيوع لفكرة الثراء السريع، ولسيادة سمات الفهلوة والاستغلال والاحتيال في المجتمع المصري.

اعترف الأديب في إحدى حواراته الصحافية أن هذا العمل هو الرواية الأساسية التى تفرعت منها جميع مؤلفاته، حتى وإن لم يلحظ القارئ ذلك، وقد كتب فيها عن شخصيات مقربة جدا عرفها وعايشها في الواقع، ومن خلالها بدأ تجريب رسم عوالم جديدة للشخوص ومد خيوط جديدة مُتخيلة داخل الحكي. وقال الرجل إن هذا العمل ظل لصيقا بروحه الإبداعية، مُحلقا معها واستغرق الأمر منه وقتا طويلا للتخلص من أثقاله والتحرر تماما في تجارب أخرى بأنماط إبداعية جديدة.

ميلاد الموهبة

المجتع الثقافي في مصر يحتفي، هذه الأيام، بتعاقد قنديل مع دار الشروق على إصدار رواية جديدة له بعنوان “طبيب أرياف”
المجتع الثقافي في مصر يحتفي، هذه الأيام، بتعاقد قنديل مع دار الشروق على إصدار رواية جديدة له بعنوان “طبيب أرياف”

ولد قنديل في مدينة المحلة الكبرى، بمحافظة الغربية شمال غرب القاهرة عام 1949، وهي المدينة ذاتها التي خرج منها كُتاب ومثقفون كبار مثل، جابر عصفور، ونصر حامد أبوزيد، وسعيد الكفراوي، واشتهرت، ولا تزال، بصناعة المنسوجات، حيث تضم أكبر تجمع لتلك الصناعة في مصر.

كان والد الأديب أحد الصناع المحترفين في مجال النسيج، ويملك ورشة كبيرة تقوم على صناعة النسيج اليدوي من خلال الأنوال، يعمل بها عدد كبير من العمال، إلا أن إنشاء حكومة ثورة يوليو 1952 لمصنع ضخم للنسيج أدى إلى إغلاق ورش الصناعة اليدوية، بسبب تفضيل العمال العمل في المصنع الحكومي، ما جعل الرجل يجلس وحيدا في ورشته دون عمل.  وكما حكى الأديب المصري في ما بعد، فقد كان والده يُبدد وحدته وفراغه بأن يطلب من ابنه الصبي أن يقرأ له قصص وروائع الأدب العربي والعالمي، بدءا من حكايات أرسين لوبين، وشارلوك هولمز، وحتى روايات جرجي زيدان، ورافائيل سباتيني، وغيرهم، ووقتها ولد عشق الأدب في قلب الصبي اليافع، وبدأ محاولاته الكتابة كتجربة إنسانية خالدة.

التحق قنديل بكلية الطب جامعة المنصورة، شمال غرب القاهرة، وانسحق مع أبناء جيله بهزيمة العرب أمام إسرائيل في يونيو سنة 1967، ومثلت تلك الهزيمة ضربة شديدة القسوة لأحلامه وطموحاته، وانشغل بالبحث عن أسباب الهزيمة في كتب التراث العربي، فعاد إلى كتب الأغاني، والعقد الفريد، وتاريخ الخلفاء، وغيرها من المؤلفات الخالدة، وحاول نبش جراح العالم العربي باستحضار مشاهد التاريخ المضيئة، ووقائع التحولات المحزنة.

كتب قنديل وهو طالب قصته القصيرة “أغنية المشرحة الخالية” التي جسدت مشاعر طالب طب فقير، ونشرت في ما بعد في العديد من المجلات الثقافية ولاقت إعجابا كبيرا، وقام بضمها إلى مجموعة قصصية بعنوان “من قتل مريم الصافي” التي فازت سنة 1988 بجائزة الدولة التشجيعية في الآداب.

فتح احتكاك الطبيب المباشر بالفقراء والمحتاجين في وحدات التأمين الصحي بمحافظة المنيا، جنوب القاهرة، مدارك قنديل للتعرف على قطاع واسع من البشر المهمشين والمنسحقين تحت وطأة الفقر والجهل والأمراض الفتاكة، ومن ثم استحضارهم ورسمهم في أعماله الأدبية.

يبدو أن إغراء الأدب انتصر سريعا على إغراءات مهنة الطب، فلم يلبث أن قرر في إطار ولعه بالتجريب اعتزال الطب نهائيا، وهو ما زال في الثلاثينات من عمره، والتفرغ التام للكتابة الأدبية.

في تلك الأثناء تعاقدت معه مجلة “العربي” الكويتية ليصبح مراسلا متجولا لها في كثير من بلدان العالم، ما أثقل ثقافته ووسع مداركه ومنحه القدرة على الاطلاع والتعرف على ثقافات وشعوب وأفكار متباينة، وأنضج حسه الأدبي، ثم قاده إلى محاولات تجريب متعددة.

سينما ضد التجديد

رواية قنديل “وادي الملوك” التي تم تحويلها إلى عمل درامي من بطولة النجمة سمية الخشاب
رواية قنديل “وادي الملوك” التي تم تحويلها إلى عمل درامي من بطولة النجمة سمية الخشاب

برع قنديل في كتابة مجموعات قصصية لافتة مثل “من قتل مريم الصافي”، و”احتضار قط عجوز”، و”بيع نفس بشرية”، و”آدم من طين”، و”عشاء برفقة عائشة”، فضلا عن كتاب تاريخ قصصي بعنوان “تفاصيل الشجن في وقائع الزمن”.

دفعت فكرة التجريب بالأديب إلى كتابة أول فيلم سينمائي للمطرب عمرو دياب وهو فيلم “آيس كريم في جليم” سنة 1992 من إخراج خيري بشارة. قال عن ذلك “لقد أهدرت كثيراً من الطاقة بعيداً عن الرواية، وأشهد أنني فشلت في اختراق عالم السينما كما كنت أتمنى، وعدت بهزيمة ساحقة والعديد من السيناريوهات التي لم تنفذ، كنت أريد أن أفعل شيئاً كما فعل نجيب محفوظ، لكن ماذا أفعل مع سينما مريضة ترفض أي تجديد”.

وتابع “في إحدى المرات التي قابلت فيها الممثل الشهيرعمر الشريف، قال لي في أسف إن كل الذين أتوا إلينا في عالم السينما كانوا كتاباً من الدرجة الثانية، ولم يأت إلينا من كتاب الدرجة الأولى سوى نجيب محفوظ، ولا أدري لماذا جعلني هذا الأمر أصر على الكتابة للسينما أكثر من مرة، لكن اكتشفت أنها سينما مريضة تقوم بطرد المبدعين”.

ورغم تحويل إحدى قصصه إلى فيلم آخر حمل اسم “فتاة من إسرائيل” بطولة محمود ياسين، ورغدة، وفاروق الفيشاوي، من إخراج إيهاب راضي، إلا أنه شعر في النهاية أن الأدب هو الوعاء الأوسع الحاوي لكل إبداع وفن، والقصة يمكن أن تتحول إلى دراما أو مسرحية أو فيلم سينمائي، ويُمكن أن تحقق تأثيرا كبيرا دون تحويلها إلى عمل فني.

احتكاك الطبيب المباشر بالفقراء والمحتاجين في وحدات التأمين الصحي بمحافظة المنيا، جنوب القاهرة، يفتح مدارك قنديل للتعرف على قطاع واسع من البشر المهمشين والمنسحقين تحت وطأة الفقر والجهل والأمراض الفتاكة، ومن ثم استحضارهم ورسمهم في أعماله الأدبية

وانطلق قنديل محلقا في مجال الرواية بعد النجاح اللافت لأولى رواياته التي حملت عنوان “انكسار الروح”، فكتب بعدها رواية “قمر على سمرقند”، والتي فازت بجائزة ساويرس بمصر في الأدب سنة 2006، وترجمت إلى اللغة الإنجليزية.

ونشر في عام 2009 روايته “يوم غائم في البر الغربي”، والتي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر العربية في العام التالي، وتم تحويلها في ما بعد إلى مسلسل تلفزيوني بعنوان “وادي الملوك” بطولة سمية الخشاب، وصابرين، ومجدي كامل، ومن إخراج حسني صالح. وتحكي الرواية جوانب من قصة اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون في مدينة الأقصر، جنوب مصر، وكيف غيّر هذا الحدث من وعي المواطنين وأبان هويتهم وأقام جسورا حقيقية بينهم وبين العالم الخارجي، بعد أن عاشوا قرونا في ظل غياب تام ونسيان واضح خاضعين لنظرة فوقية استعلائية من الغرب أو من حكام البلاد. وتوالت إبداعات الرجل ليصدر رواية “أنا عشقت”، ثم رواية “كتيبة سوداء”، فضلا عن كتاب “شخصيات حية من الأغاني”، مع العديد من كتب الأطفال القصصية مثل “حكايات صغيرة لريم”، و”سندباد في مدينة القرنفل”، و”رحلة على أرض الأفكار”، وغيرها من الأعمال.

وللمبدع رواية ضائعة بعنوان “جواز سفر” كتبها من وحي عمله كمراسل متجول لمجلة العربي في مختلف أنحاء العالم، وقد فقدت منه مع مجموعة من أوراقه، ما أصابه بحسرة شديدة. وانفعل الرجل مع احتجاجات يناير 2011، ومناصرته للشباب، ثم أحبط مما آل إليه الحال بعد ذلك، حيث صدمه استيلاء الإخوان على الحكم ولجوء الجماعة إلى الإرهاب، ما دفعه للقول في ما بعد بأن ثورة يناير ليست ثورة، وإنما مجرد صحوة، وهبة عفوية، لأن شيئا لم يتغير أو يتحسن، والشارع ضاق ذرعا بالسياسة، وصار مهموما أكثر بالأمن والاستقرار.  يرى قنديل أن الغياب والاغتراب ضرورة للتأمل والتدبر وملامسة حدود الثقافات الأخرى، لذلك فضل الهجرة إلى مونتريال، ومنها يعود لشهور قليلة يقضيها في مصر.

عن العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم