أسامة غانم

ليس من الممكن أبداً أن نستبعد قيام قراءات نقدية متعددة – قراءة جدلية – قراءة بنيوية – قراءة رمزية – قراءة شكلية – قراءة وجودية – قراءة سوسيولوجية – الخ في قراءتنا لرواية (ظلال على النافذة) * لغائب طعمة فرمان ، والبعض من هذه القراءات ستظهر في أثناء تحليلنا للنص الروائي ، والبعض الآخر نشير إليه مجرد إشارة ، وأحياناً قراءتين في ذات اللحظة ، رغم التزامنا بالمنهج النصي – السوسيولوجي ، فعصرنا هذا يخضع (للرجعيين) والثوريين ، عصر الخروج الجذري على المعتقدات السابقة عن المعنى والقراءة والنقد الأدبي ، ولابد للمرء أن يعتنق الثورة ، أو أن يدافع عن التقليد السائد ضدها )(1) ، وعليه يبقى النص – الروائي مغلقاً لحين مجيء الناقد ليفض أسراره ، وليفضح المعنى الذي يتولد من القراءات النقدية المتعددة .

الناقد أسامة غانم

لم يحد فرمان في روايته (ظلال على النافذة) عن تناوله للمجتمع البغدادي ، كما في رواياته السابقة جميعها ، ففي هذه الرواية يتناول فرمان حياة عائلة بغدادية ، وما يجري لها من خلال الواقعة التي تصبح (مأساة العائلة) ص40 ، مع تشخيص ردود الأفعال الإنسانية المختلفة لكل واحد منهم تجاه هذه الواقعة الاجتماعية التي زلزلت بنية تكوينهم ، ومدى عمق الرد ، وما تتركه في الذات الإنسانية من ألم و تمزق ، مع تبلور موقف واضح ينشأ من الصراع المتفجر مع بدء الأزمة للكشف عن حدة التناقضات الباطنية المغلّفْة باللامبالاة ، وحين تعرضها لأول صدمة حقيقية تظهر وتبرز بشكل حاد وعار ، وتطفو على السطح لعيان تاركة عوائقها وراءها .

تبدأ الرواية بفصل تدميري(2)  ، وذلك بهروب زوجة الابن الأوسط من الدار الجديدة التي انتقلوا إليها في حي الوشاش ، وتكون الزوجة – حسيبة قطب الجذب والشد في الرواية ، مع كونها مرآة عاكسة بانورامية لما يعتمل في دواخلهم من انفعالات وأفكار وسلوكيات مختلفة متباينة أزاء الموقف الحاصل ، وسيكون هذا الانعكاس متبادل معها بطريقة جدلية متشعبة مفتوحة على كافة الاتجاهات ، ولكن جميعها تدخل نقطة واحدة .

والغياب هو الوحدة الوظيفية الأولى(3) ، في بداية الرواية حيث (تغيب فجأة إحدى الشخصيات الأساسية غياباً مفاجئاً وقد يترك هذا الغياب 5ضرراً)(4)  بالغاً للآخرين ، وستلحق بها وحدة وظيفية ثانية هي البحث عن الغائب – حسيبة ، وتكون بموازاة الوحدة الوظيفية الأولى – الغياب(5) .

وهذا الغياب كان نتيجة هروب حسيبة من الدار لأسباب كما يعزوها الأب عبد الواحد الحاج حسين إلى :

[1-زعل واختفاء عن الأنظار .

2-تمرد وعصيان .

3-أم خفة تصرف أرعن ؟] ص 10 .

الفقرة الثانية تقرب كثيراًٍ من التحليل الموضوعي الجدلي ، فالمنهجية الجدلية بكونها (معرفة الواقع ليست ممكنة التطبيق إلا من وجهة النظرة الطبقية)(6) فلقد حوصرت حسيبة مع مقاطعة علائقية ضمنية داخل الدار رغم أنها تعيش وسطهم بسبب النظرة المتعالية والشعور الشوفيني تجاهها ، وأنها دخيلة على العائلة لأن زواجها تم بطريقة غير مألوفة ، وهي ريفية تركمانية ( أنا من قزرباط) ص106 والبعض يعتبرها لقيطة من (أحشاء المجتمع) ص215 ، فهذه النظرة الطبقية خلقت صراعاً اجتماعياً ايديولوجياً محتدماً منذ دخولها الدار ، ولا يزال الصراع مستمراً حتى حين غادرته بصمت ، بل ازداد ليكون صراعاً ضارياً بين أفراد العائلة الذين كانوا يبدون بنية واحدة متماسكة ظاهرياً فقط ، لكنهم في داخلها متناقضين ، كصورة ورق اللعب : (إن طرفي التناقض يجتمعان مع بعضهما وينظر أحدهما في وجه الآخر وينعكس أحدهما في الآخر ، ويعرفان ويفهمان بعضهما البعض )(7) ، لكن حسيبة لم تستطع اختراق وضعها بمغادرة الفسحة التي وضعوها فيها ، ولم تستطع أيضاً التفاعل مع الآخرين لأن الآخرين عاملوها كنكرة وكطارئة مفروضة عليهم وكبنية لا تنسجم معهم ، لذا لم يفسحوا لها موضعاً لائقاً بينهم ، إلا بحدود متوترة تتغذى على الوهم والشهوة من جانب الأخ الأكبر ، فكانت المعادلة كالتالي بينهما : هي المشجعة على التغزل بها ، وهو تجتاحه الرغبة في قضمها ، ولم تبين لنا الرواية مدى عمق العلاقة بينهما ولا إلى أين وصلت ! .

إن حسيبة دخلت الدار وغادرتها كـ (جسد) فقط ، أي عن طريق المهبل ، اللذة – الوجود ، فالمهبل في هذه الحالة يقوم بأداء وظيفتين مهمتين ، منح الذكر المتعة الجنسية القصوى ومنحه البدائل من الذكور ، ولكنها أخفقت في إنجاب البدائل ، وماتت كـ (جسد) من وجهة (نظرهم) وأصبح وضعها لا يطاق لذا (قامت بعمل احتجاجي صارخ)(8) على ظروف معينة موجودة فانسلت هاربة متوارية ولتعاقب (جسد) ها بتعهيره .

كانت حسيبة الشخصية الإيجابية الوحيدة في الرواية باتخاذها موقفاً تجاه الأحداث فهي لم تتكلم ، لم تصرخ ، لم تعاتب ، بل تمت المخاطبة بلغة قوية مؤثرة هي لغة الصمت ، وكانت تدري ما يدور حولها وتقابل بالمثل فالأوسط تزوجته والأصغر احتقرته والأكبر احترمته ، وهذا يثبت بأن لها تجربة حياتية ولها وعيها ووجهة نظرها في الآخرين ، ورد فعل متحفز مع علاقة بالعالم غير مقطوعة ولا مفصولة ولا محصورة نهائياً و (وحدهم المجانين الذين يجهلون كل شيء عن العالم)(9) ، ورغبتها في البديل الأفضل وفي الحرية من وضعها المأزوم تترك الدار هاربة طلباً للخلاص ، ولكن خلاصها يكون في بيت للعاهرات تنبعث منه صدى الضحكات الفاجرة ورائحة الشهوة ، فقد داست حسيبة على البلاطة – اللغم الذي فجّرها وفجّر العائلة تاركة الجميع ينزفون باستثناء شامل فأن (حب الحياة يجاور التعطش لتحطيم الذات، الطهر والعفة يفهمان الإثم والشهوانية)(10) .

اللافت للنظر أن حسيبة هي المهيمنة والمسيطرة على الحدث بل هي الحدث للرواية ، وهي البؤرة ، وكما قلت هي مركز الشد والجذب ويبقى الصوت الإشاري لها هو المتحدث ، رغم عدم وجود الصوت الحسي لها ، فالصوت الإشاري ( السيميولوجي) يكتسب سمة إنسانية قوية ويكون موجوداً في كل الحوارات للرواية . ويكون كطابع البريد ملصقاً على طرف كل ظل من ظلال الرواية . هنا نتساءل بقصدية ، ماذا أراد فرمان من حسيبة كرمز ؟ أو نعيد السؤال بصيغة أخرى ، ما هو الرمز الذي تقترن به حسيبة كما أراد فرمان من ذلك ؟ عندما نوزع الشخصيات والمواقف والأحداث على رقعة لعبة الشطرنج ، تظهر لنا المفارقة الحادة بكون أن حسيبة صممت أصلاً كرمز ، وهذا ما يقوله فرمان في إحدى مقابلاته :

(أنا كنت أرمز بشخصية (حسيبة) لشيء معين)(11) .

فما هو هذا الشيء المعين الذي يقصده فرمان ؟ .. لنحرك ببطء بعض قطع الشطرنج، لابد أن تتغير الرؤية وتتضح الصورة أكثر من ذي قبل ، مما تسمح لنا هذه الرؤية بأن ندلف إلى المعاني – الرمزية على اعتبار أنها (ليس الرمز صورة ، إنه تعددية المعاني نفسها)(12).

على هذا النحو تبرز لنا حسيبة وهي تحتوي على المعاني الرمزية المتعددة منها – وهذا ما أتصوره الشيء المعين – أن ترمز إلى مرحلة تاريخية – سوسيولوجية – سياسية مر بها العراق أواسط الستينات ، وهناك وجهات نظر رمزية عند بعض النقاد ، كالناقد العراقي ياسين النصير الذي يرمز إليها – ربما – على أنها ثورة 14 تموز:

(يعطي غائب لحسيبة رمزية واضحة ، فيرمز لها بقضية عراقية أوسع – ربما كانت ثورة 1958 أو شيئاً من هذا القبيل)(13) .

لكنه يذكر فيما بعد أن حسيبة يمكن التعامل معها على عدة مستويات رمزية مع النص، وان النص – الروائي يمتلك مجالات كثيرة للتعامل معه على أساس هذا التوجه وقابلية هائلة على احتوائه على إشارات تدلل على الرمز ، وهذا يفسح المجال لنشوء معانٍ رمزية متعددة أو تأويلات لا تحصى لإشارات موضوعية والتعدد في التصور الرمزي يمنح حسيبة والرواية قيمة جمالية عالية شفافة .

ويمكن أن تكون المرحلة التي تلت هزيمة حزيران والتي جاءت لتكشف عن مدى عمق المأساة التي يعيشها الوطن آنذاك الزمن وعن عمق الأخطاء والسلبيات قبل الهزيمة التي كانت تمارس من قبل الأنظمة الرجعية اليمينية في المنطقة والفوضى التي سادت وسيطرة الفكر اللاعقلاني والغيبي على الساحة الثقافية وتكريس هذا الفكر بين المثقفين والعمل على نشره وتكريسه من قبلهم بين الجماهير ، ومن الأمثلة على ذلك أن بعض المثقفين العراقيين كانوا يعتقدون بأنهم ( يستشرفون صفاء العالم من خلال ثقب في جورب مومس)(14) .

لقد جعل فرمان من كل شخصية في الرواية تمثل فئة اجتماعية فأفكار وأحلام وتداعيات وتصورات الشخصية تكون أفكاراً ومنطلقات وأيديولوجيات تلك الفئة ، أي أن هذه الشخصية تكون الممثل الرسمي لتلك ( الفئة) على المستوى الدلالي .

الأب يراعي العائلة كلها ويعمل على تحسين مستواها الاقتصادي – الاجتماعي دائماً وعلى الحفاظ على التقاليد والشعائر التي نشأ عليها ، وحين تختفي حسيبة يستفز ذاته للبحث والاستقصاء عنها وحده ويدع الأسرة مغلقة ، والبحث يتم بمساعدة امرأة اسمها نعيمة كان لها سابقة مع الأب عبد الواحد أيام شبابه ، ولم يرغب بمساعدة أحد غيرها ، وتعثر عليها عند عطية العمية ولكن لا تخبر الأب عبد الواحد عن مكان مبيتها إنما تخبره عن مكان اشتغالها لأجل الانتقام والتشفي منه ، لأجل الملامسات التي لم تكتمل في الخرابة . وهذه المرأة (نعيمة) هي من الخارج والأب عبد الواحد من الداخل يربطهما حب قديم ، حب محنط ، لم يبق منه إلا لفافات متيبسة هو من أعطاها كلمة السر رغم أنه يعتبر ان الهروب (فضيحة للعائلة كلها) ص10 وهي من حلت لغز هذا السر ، فالعائلة كلها لم تفعل شيئاً إزاء الهروب ، ولم يستطيع احد منهم العثور على الهاربة ، ولكن هذا البحث يتم بواسطة شخص من خارج دائرتهم ، وتُسلم حسيبة على طبق من زجاج ملون ، وحال ملامسته يتكسر ، يتفتت ، ساحقاً معه فترة زمنية عاشتها حسيبة عندهم ، و(البيت يتحول إلى سجن حقيقي) ص105 ، فالأب ينهار والابن يتيه في عوالمه البائسة ويبدأ بمقاطعة ومعاقبة نفسه والآخرين من خلال انغماسه بمعاقرة الخمرة التي تصبح طقساً يومياً له ، مع عدم مواجهة أحد ، وإذا تواجه يكون نائحاً مستشرفاً اللاعودة لزوجته ( فهربت ولن تعود) ص49 ، وانسحب هذا الوضع على زمنه المتوقف عند نقطة الاختفاء نقطة الذكرى المجمدة ويبقى فاضل يعاني ، يتألم ، كالجواد المجروح دون أن يسقط .

نحن عرفنا أن رواية ( خمسة أصوات) هي رواية أصوات خمسة مثقفين ، بعدها رأينا صوتاً مثقفاً واحداً في رواية ( المخاض) ، ثم يظهر لنا صوتان مثقفان في رواية (ظلال على النافذة) ، وهما مختلفان عن الأصوات السابقة مع تباين وتناقض ، لأن فرمان جعل من كل رواية لها صوتها الخاص بها ، أي أن كل صوت في الرواية له ظروفه التاريخية والسياسية والاجتماعية ومواقفه ، من هنا يكون الصوت صوتاً لشريحة المثقفين في تلك الفترة ، فـ (خمسة أصوات) فترة ما قبل ثورة 14 تموز ، و ( ظلال على النافذة) فترة بعد الثورة والعراق على مفترق طرق ، فترة أواسط الستينات ، عندئذٍ قام فرمان برسم شخصيتين مثقفتين تتناسبان وتلك المرحلة الصعبة فكراً وسلوكاً ، فـ ماجد الأخ الأكبر وشامل الأخ الأصغر يتوسطهما فاضل العامل الأجير ، ماجد درس الهندسة في أوربا وعاد ، خروجه من العراق كان شبه نفي إجباري لآرائه السياسية ولاشتراكه في المظاهرات ، وماجد قريب الشبه والملاح لـ (سعيد) فهما لا يعرفان ماذا يريدان أو عن ماذا يبحثان وما هو هذا الشيء ؟ويسافران لكن الأزمة تظل ملاصقة لهما وهذا إنعكاس للظرف السياسي – الثقافي – الاجتماعي في فترة الخمسينات والستينات وتبقى أصواتهم (أصوات مزدوجة)(15) ما بين الخلاص من الظرف المأساوي لهم ، وبين أن يسود السلام والطمأنينة حياتهم هذا على المستوى العام وبين الانفتاح على المنحى الشخصي ومغادرة نقاط الضعف على المستوى الخاص ، وبين العام الموضوعي والخاص الذاتي علاقة جدلية تبين لنا أن (ما يتسم به المثقفون من تذبذب أيديولوجي ومن انجذاب إلى فئات اجتماعية أخرى)(16) ، ولكشف (الخرافة الفكرية)(17) التي يعيشها هؤلاء المثقفون البرجوازيون ، لتركهم المنهجية الجدلية الحية في دراسة الظواهر والتطورات في كل مناحي الحياة .

إن ماجد كانت له علاقة جنسية مع خادمة ، عندما كان يختفي في دار مخدومها لمدة خمسة أشهر ، وعندما يرى ( حسيبة) يتذكر فوراً ( زهرة) التي تحسسه بالذنب وتكون تداعياته متداخلة متشابكة يحتاج القارئ إلى تركيز إضافي لمعرفة عن من يتكلم وأحياناً ليس في الاستطاعة التفريق بين الاثنتين ( حسيبة) و (زهرة) ، ولتوضيح الصورة بشكل أعمق ولبيان التداخل بينهما أقتبس هذا النص :

(من أين انت ؟ ومن عندك في قزرباط ؟ يعني العائلة كلها

هاجرت ؟ بقيت خالتك وجدتك ؟ طابت لكم بغداد ؟

بغداد تبتلع كل شيء . وكانت تنظر إلي بعينين رائعتين عطوفتين ،

كأنها تنظر إلى عجلٍ ولد لتوه . وكنت أحس بفوران الدم في

شراييني ، وهي ترمقني رمقاتها القصيرة الساجية . وكانت

تأتيني بالمجلات التي يشتريها أهل البيت ، وأغلبها مصورة

صادرة من أرض الكنانة . وتشير زهرة إلى بعض الصور

المترفة ) ص201 .

بعدئذ نكتشف من خلال قراءتنا لفصول ماجد ، أن علاقته هذه ليست علاقة جنسية فقط ، بل علاقة حب عارم ينخر في ذاته إلى النهاية ، وحسيبة تذكره بهذا الحب الضائع ، وعند بحثه عن وظيفة في دوائر الدولة وعدم عثوره على وظيفة يحول ماجد حسيبة من (قضية للأسرة إلى قضية للبلد ، وثورة ورمز)(18) وتبقى زهرة وشمه المحفور في قلبه ، رغم سفره وعودته الطويلة وتكون حسيبة بديلة لزهرة في الطيبة والنقاء والعفوية وليس بديلة في مكان آخر كما يوهمنا به فرمان ، ويوحيه إلينا، وشغفه بـ زهرة وما تركته من فراغ وإحساسه بهذا الفراغ الذي يمزقه يحاول أن تمليه حسيبة ولو بالأنوثة النقية فقط لا أكثر ولحساسية تلك الفترة التاريخية جعلت يعكس ذلك على الرواية وعلى مثقفي الرواية ، فـ ماجد مفرط الحساسية تجاه الأحداث التي تمر بها العائلة والأحداث التي يمر بها البلد وعطالته ، وكذلك شامل لديه حساسية مثقف مغايرة تماماً لحساسية ماجد ويمثل فترة ما قبل الهزيمة ويمثل واقعاً مستوعباً من قبله ، مغرور ، أناني يؤمن بالطريقة الميكافيلية في الحياة ، و (يسبغ على الحياة جدية مزيفة)(19) ، لايهمه أي شيء يجري حوله ، فقط كل ما يهمه نفسه ، أما عائلته والآخرون فلا تهمه، لا يتعاطف مع أحد ولا أحد يتعاطف معه ، برغماتي (زمن لا تحلق فيه غير الخفافيش، ولا ينعم فيه بالعيش غير المقاولين) ص289 ، يحوّل مأساة عائلته إلى مسرحية لكنه لم يستطع أن يضع لها نهاية ، وتبقى انطباعيته تتقدم على عقلانيته انطباعية ممسوخة بوعي ممسوخ وعقلانية مدموغة بالإحباط (عش كلمة " إحباط " بقدر ما تستطيع وعندئذ ستفهمني) ص291 ، هذا ما يقوله لأخيه ماجد في نهاية الرواية ، طموحاته بلا حدود طموحات تولد في ذهنه ميتة طموحات غير متواصلة مع الناس مع المجتمع ، لكنه يصدم بالواقع الذي يعيشه .

ومن أجل الكشف لغطاء بطل فرمان المثقف ، علينا أن ننطلق من المعالم الاجتماعية والثقافية له ، لأن بطل فرمان المنفصل عن التقاليد السوسيولوجية الثقافية وعن المكونات الحقيقية للإنسان المثقف المنحدر من روح الشعب المنحدر من صفوفه هو ممثل لجيل زائل وهذا الإنسان المثقف يؤمن بفكرة ، وهذه الفكرة قد استولت عليه ودمرته ، ذلك لأنه لم يتحد ولم يوثق صلاته بالحياة اليومية ، لم يوثق صلاته بالمجتمع الحقيقي ولم يؤمن بالتقاليد الثقافية الثورية فكل هذا خلق روح لا منتمية ، روح انهزامية لا تستطيع أن تتعايش مع الواقع وضياع الدلالة الثورية .

يتسم سلوك وتصرف أغلب الشخصيات بالخنوع واللامبالاة والانكماش والنكوص ، ومن ضمنها الشخصيات الثانوية النسائية ، فالأم لا يتعدى دورها إلا مضايقة حسيبة وحالما تغادر ينتهي هذا الدور ، أما الأخت فضيلة فهي خُلقت في هذا البيت للخدمة وتوفير الراحة لأفراد العائلة ، ووقوفها طوال اليوم في المطبخ فأنها كالإنسان الآلي (الروبوت) لا أحاسيس لا شعور لا عواطف فقط عليها القيام بالأعمال المنزلية ، هكذا ينظر إليها الآخرون ، لكن في الحقيقة هي أخت محبة وطيبة تعمل على إرضاء الجميع وتحزن على مصير العائلة الذي آلت إليه .

قسّم فرمان الرواية إلى أربعة أقسام (ظلال) وكل ظل يتألف من ثلاثة فصول ، الفصل الاول من كل ظل أفرد لـ الأب بضمير الغائب والفصل الثاني من كل ظل أفرد لـ ماجد بضمير المتكلم والفصل الثالث من كل ظل أفرد لـ شامل بشكل حوار مسرحي ، وهذا الأسلوب في الروايات العربية لم يستخدم ، فمن تقنية روائية بحتة من سرد ضمائر ، تداعٍ ، فلاش باك ، أحلام يقظة منولوجات ، أصوات متعددة متداخلة الخ .. أن يلحق فصل كامل في نهاية كل قسم على شكل حوار مسرحي ، فهذا شيء جديد لم يسبق أن استخدمه أي روائي عراقي أو عربي – على ما أظن – حوار على شكل مناقشات بين الطلبة وإبداء الرأي وتفاعل الآراء للوصول إلى الأصوب مع تعليقات موضوعية صميمية ، ويقول فرمان عن سبب استخدامه لهذا الأسلوب :

(وكان " شامل " في ذهني يلعب دوراً كبيراً وكنت أريده أن يكون شخصية بارزة في الرواية عند سير الأحداث في مجرى كتابة الرواية لم أجد (شامل) يبرز فيها بالصورة الواضحة والقوية المؤثرة التي كنت أنا أريد أن أظهره بها ، بعد تفكير طويل لجأت إلى أن أكتب قسمه ، خصوصاً وهو طالب في معهد الفنون الجميلة ، بهذا الأسلوب )(20) .

رغم أن الحوار هو التقنية الوحيدة في المسرح تقريباً – البعض يستخدم الملصقات – الأفلام – الصور – لكن بالمقارنة مع رواياته ، أشعر أن هذا الأسلوب المسرحي لم يأتِ متلائماً مع الرواية رغم أنه لم يضعفها أو أصبح جزء غير منسجم مع بقية الأجزاء المنسجمة، أما فصول ماجد فجاءت قمة في الروعة ، عالية التقنية من أساليب مختلفة – تيار الوعي – المنولوج الداخلي ، تداخل الماضي بالحاضر بالماضي – الحوار الدقيق ، لذا أتى النص مزدحماً بالجمالية داخل بنية الرواية مع رؤيا فنية للناحية التاريخية السياسية .

ومن خلال هذه الأساليب الثلاث تبرز لنا جدلية الأصوات ، الأصوات التي تعيش العصر الاجتماعية ، السياسية ، الأيديولوجية ولتكون الرواية بصمة المستقبل لامتلاكها حضوراً داخل صراع القوى المتعايشة حاضراً ومستقبلاً . كان فرمان يمتلك حرية واسعة في داخل فضاء النص – الروائي لأنه كان على اطلاع عميق بالمراحل التي يكتب عنها لأنه (كلما كانت معرفة الكاتب بفترة ما أعمق وأكثر تاريخية على نحو أصيل كان أكثر حرية في التحرك داخل موضوعه)(21) .

الهوامش والإحالات :

*رواية " ظلال على النافذة " – دار الآداب ، بيروت / لبنان ، 1979 .

  1. وليم راي – المعنى الأدبي : من الظاهراتية الى التفكيكية – ت / د. يوئيل يوسف عزيز ، ص9 دار المأمون بغداد 1987 .
  2. ياسين النصير – الصيانية والتدمير – ص51 مجلة الأقلام العدد 7-8 تموز / اب 1992 .
  3. فلاديمير بروب – مورفولوجية الخرافة – ت / د. ابراهيم الخطيب المغرب 1986 .
  4. فاضل ثامر – الصوت الآخر : الجوهر الحواري للخطاب الأدبي – ص115 دار الشؤون الثقافية بغداد 1992 .
  5. يقول فاضل ثامر بأنه يمكن اختزال الوحدات الوظيفية الأحدى والثلاثين كما ( أقره بروب وأقرته الدراسات الحديثة التي أشارت إلى إمكانية اختزال الوظائف إلى وظيفتين فقط) ص120 المصدر السابق .
  6. جورج لوكاش – التاريخ والوعي الطبقي – ت الدكتور حنا الشاعر ص29 دار الأندلس ط2 بيروت 1982 .
  7. م . باختين – قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي – ت / الدكتور جميل نصيف ، مراجعة الدكتورة حياة شرارة ص260 – دار الشؤون الثقافية بغداد 1986 .
  8. د. نجم عبد الله كاظم – الرواية في العراق : 1965 – 1980 ص237 دار الشؤون الثقافية ط1 بغداد 1986 .
  9. جورج لوكاش – التاريخ والوعي الطبقي ص212 .
  10. م. باختين – قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي ص260 .
  11. دز نجم عبد الله كاظم – الرواية في العراق ص237 .
  12. رولان بارت – نقد وحقيقة – ت . د منذر عياشي ص82 مركز الإنماء الحضاري – دمشق .
  13. ياسين النصير – الصيانية والتدمير ص53 .
  14. شوكت الربيعي وآخرون – بيان الى المثقفين العراقيين – ص157 مجلة الثقافة الجديدة العدد الاول حزيران 1969 ، نشر هذا البيان الموقع من قبل (4) مثقفين عراقيين هم : شوكت الربيعي ( رسام وناقد ) وعبد الرزاق المطلبي ( قاص) ، سليم عبد القادر السامرائي ( ناقد أدبي ) محمد ياسين المطلبي ( شاعر ) ، رداً على البيان الشعري الذي أصدره : فاضل العزاوي (قاص وروائي – يقيم منذ سنوات خارج العراق) . فوزي كريم (شاعر – غادر العراق صيف 1978 إلى لندن وقد أصدر في لندن مجلة اللحظة الشعرية) وسامي مهدي ( شاعر) وخالد علي مصطفى ( شاعر ) / في مجلة الشعر 69 العدد الأول مايس 1969 ، ونحن نعلم بأن فاضل العزاوي وفوزي كريم يمتلكان رؤية وفكراً وأيديولوجية غير التي يمتلكها الشاعران الآخران بل هما على طرفي نقيض منهما .
  15. م.باختين – قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي – ص238 .
  16. جانفيف مورييو – ت رشيد بنحدو ص111 – (البنيوية التكوينية والنقد الأدبي) مؤسسة الأبحاث العربية بيروت 1984 .
  17. جورج لوكاش – التاريخ والوعي الطبقي – ص27 .
  18. ياسين النصير – الصيانية والتدمير ص52 .
  19. م. باختين – قضايا الفن الإبداعي عند دوستويفسكي ص256 .
  20. د. نجم عبد الله كاظم – الرواية في العراق – ص236 .
  21. جورج لوكاش – الرواية التاريخية – ت / د. صالح جواد كاظم ص239 . وزارة الثقافة والفنون العراقية – دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت 1987 .

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم