قراءة: نجيب كيَّالي

تنتمي هذه الرواية- كما شعرتُ بعد قراءتها- إلى الأدب التوثيقي، وهذا الأدب المعروف عالمياً أكثر مما هو معروف عندنا يحتاجه الواقع خلال الأحداث العظيمة: انتصاراتٍ كبرى أو كوارثَ كبرى، مقترنةٍ بنزف الجراح، والظلمِ الفادح الذي قد يطحن بلداً بأكمله كما جرى عندنا في سوريا.

       يستطيع هذا الأدبُ دونَ تزويق من الكاتب أو استعانةٍ بالخيال أن يغترفَ من بحيرة الواقع الغنية، ويُسلِّطَ الضوءَ على أمر إيجابي أو سلبي جرى، على أن يكون ذلك الأمر لافتاً غيرَ عاديّ ببهائه أو فظاعته.

       أعتقد أنَّ الملحمة الدموية السورية أو التراجيديا التي فاقت كلَّ تراجيديا عرفناها هي التي جعلتْ صاحبَ هذه الرواية يلجأ لهذا الأسلوب التوثيقي، فهل صدَّقنا روايتَهُ؟ وهل قلنا بيقين: هذا ما جرى حقاً؟ توضيحاً لهذه النقطة أذكرُ الآتي: إنَّ الرواية المنتمية إلى هذه النوعية يكاد لا يكتبها المؤلف، بقدر ما تتقدم الحوادثُ والشخصياتُ لتكتبَ نفسَها أو يُفترَضُ أن تفعل ذلك ليكون العمل بمجمله شاهداً، وكلمةً من فم الحقيقة، غيرَ أنَّ التوثيقية كأيِّ أسلوب آخرَ في الأدب قد تصيب نجاحاً أو فشلاً أو تقع بين هذا وذاك، ومن هنا سأحاول تقديمَ مناقشة بسيطة لهذه الرواية:

       التوثيقية والمكان:

     اهتمَّ كاتب هذه الرواية برسم مواقع الأحداث التي جاءت في روايته، بل قدَّمَ أحياناً جغرافيا تفصيلية للشوارع، والحارات والأزقة. لم يكن الهدفُ من ذلك استعراضَ ثقافته الخاصة بالمكان، كما أنَّ روايتَهُ ليست من أدب الرحلات الذي يُعنَى بالأمكنة، لكنه أقدمَ على هذا الأمر، لأنَّ توثيقَ الحوادث يتطلب ذلك، فالمكان هو حاضنٌ للفعل الذي يجري، وربما نستطيع القول: إنه مشترِكٌ في هذا الفعل أيضاً، لأنه يجعله يجري بطريقة معينة تتلاءم مع طبيعته، مثال ذلك أنَّ حياً ضيقاً يفرض في القتال استعمالَ نوع خاص من الأسلحة الفردية، ولا يسمح باستعمال المصفَّحة أو الدبابة.

       موقعُ أحداث الرواية كان مدينةَ إدلب السورية الحاملة للوجع والصبر كقلب عيسى، ومع المدينة دخلتْ أماكنُ أخرى من الأرياف القريبة منها، من الأماكن التي جرى وصفُها: موقع دار أبو دياب الذي يسكن مع والدته فدوى داراً قريبةً من حي القصور تقع خلف القصر العدلي، مُحلَّق المدينة الذي يحيط بها كسوارٍ جميلٍ أخضر، معسكر الطلائع الذي جرى منه اعتراضُ القادمين من الريف للتظاهر في إدلب، حي القصور، وحي البيطرة، مشفى الهلال المطل على مدخل البازار، وغرفة أبي اسماعيل المُعدَّة لغرامياته. معظمُ الرسم  الجغرافي كان ضرورياً ومتشابكاً مع الحدث، لكنَّ القليلَ منه بدا زائداً عن الحاجة وبلا جدوى كوصفه مثلاً لفرن هزبر بأنه يقع تحت اتحاد الكتَّاب العرب. خطرَ لي أنَّ هذا الأمر قد يتعلقُ بمحاولة حفظ المكان في صندوق الذاكرة حيث تهدده الحرب الوحشية بالزوال أو لعل ذلك من قبيل التغنِّي به على ربابة الحنين بعد أن اضطر الكاتب مع كثيرين للنزوح عن بلده.

التوثيقية والأحداث:

تتحدث الرواية عن انفجار الوضع الداخلي في وجه كتلة السلطة، وترصد ملامحَ من أهم ما جرى في إحدى مناطق الشمال السوري، وتحديداً محافظة إدلب. الكتلة السلطوية- كما تقول الرواية- تسير على نهجها المعروف في اتِّباع العنف بكل وسائله: سجن، قمع، شبيحة، أنشطةُ مُخبِرين، أمَّا الطرف القائم بالتمرد والانفجار فكان سلمياً يكتفي بالتظاهر في بداية الأمر، لكنَّ الطليعة السلمية المثقفة جرى إقصاؤها أو محاصرتُها- كما يومئ الكاتب- بفعل تحالف ضمني بين المنتفعين من استمرار الحكم وبين فئات دينية غلبَ عليها التشدد المتصاعد، والرغبة في الانفراد في القرار.

نرى في قلب الأحداث عائلةَ فدوى أم نذير حيث ينقسم أفرادها بين الطرفين المتصارعين المشارِ إليهما، وقد جرى هذا الانقسام في معظم الأسر السورية، فكان الشرخ الاجتماعي من أول الثمار المُرَّة لهذا الصراع! يتخذ صاحبُ الرواية موقفاً موضوعياً، فيشير بوضوح إلى أخطاء الطرفين معاً، رغم أنه عضو بارز في المعارضة. هذه الموضوعية هي نقطة إيجابية لا شك في صالح الرواية، فالقارئ من جهة والأجيال القادمة من جهة أخرى يجب أن يعرفا بصورة موضوعية محايدة دقائقَ ما جرى، وأظنُّ أنَّ هذا الحدث الكبير الذي انقلب إلى حرب كارثية ستدفع ثمنَهُ سوريا وأهلُها عشراتِ السنين، وربما سيغيِّر الخرائطَ والمصائر!

مع الجانب السياسي يفتح لنا الكاتب نافذةً على الجانب الاجتماعي في عائلة فدوى، ومَنْ حولها، ومن له علاقاتٌ معها. فنعرف أنَّ فدوى أرملة معلمة سابقة تدنو من الخمسين، لكنها ذاتُ قلب شاب جعلَها تتعلق بإبراهيم البربريسي فيعاشرها معاشرةَ الأزواج، وهو- على الأغلب- موجود في بيتها تحت اسم: صديق العائلة، وهنا لا بدَّ أن يتحفظ القارئ المتعلقُ بالتقاليد على علاقة من هذا النوع، ويرى أنها ذاتُ طبيعة أوربية أو لعل الكاتب أراد أَوْرَبَة إدلب!

من الأمور التي أظنُّ كثيرين سيعترضون عليها أو يخرجونها من حدود المعقولية جرأةُ أبو دياب المفرطة أو لامبالاتُه العجيبة بنتائج ما يقوله، مع أنَّ ما يقوله خطير للغاية، وأكثرهُ موجهٌ إلى جهاتٍ تحترف العنف، فهو مثلاً في سجن إدلب المركزي يُعلِّق على شتيمة العنصر الأمني الذي زعقَ قائلاً بأنه سيفعل ويفعل في أمهات المساجين! هنا يسأله أبو دياب بما معناه: أنَّ بعضَ أمهاتنا ميتات فكيف يمكن الوصولُ إليهن للفعل بهن، ونكحهن؟!

التوثيقية والشخصيات:

جاءت الرواية غنيةً بشخصياتٍ كثيرة تنتمي إلى مشاربَ اجتماعيةٍ متنوعة، ووضعياتٍ حياتية متعددة، والكاتب ينجح- كما أرى- في قيادةِ غابة الشخصيات هذه ويُدخلنا إليها من دون أن تختلطَ شخصيةٌ بأخرى أو تضيعَ ملامحها، ومن أبرز الشخصيات التي خطفتِ الضوءَ الروائي أربعُ شخصيات، هي: أبو دياب- فدوى أم نذير- عبد الكريم الطحنجي أبو اسماعيل- فوزية.

* أبو دياب: شاب طيب القلب، نحَّات، يمتاز بالتلقائية، أبرز ما فيه لسانه المنفلت في طريقةِ كلامٍ خاصة يختلطُ فيها الجِدُّ بالهزل، والجدبنة بالتعقل، وهذه الشخصية متأثرة في تركيبتها العامة بشخصية: (الجندي الطيِّب شفيك) في رواية عالمية مشهورة حملتِ اسمَ: شفيك نفسه للروائي الكبير: يارورسلاف هاشيك. يبدو أبو دياب قريباً من القلوب في مواقفَ كثيرة، إلا أنَّ هوايته في النحت تبدو ملصقةً به إلصاقاً، فلو أنه كان يهوى زركشة الجزادين بالخرز مثلاً لكان ذلك أقربَ إلى المعقولية.

* فدوى: تبدو هذه الشخصية سلَّةَ متناقضات وعجائب قياساً إلى مفاهيمنا الاجتماعية، فهي مثلاً خجول يصعب عليها النظر إلى جسمها عندما تتعرى، رغم أنها تمارسُ الجنس بكل بساطة مع عشيقها البربريسي، وإلى جانب التفاتها الكبير لغوايات جسدها نجدها أمَّاً حنوناً، فكيف لا تخشى على سمعة أولادها فيما لو ظهر المستور بينها وبين البربريسي! والأعجب أنها معلمة متقاعدة، وشخصية المعلمة في العادة تنطوي على مضمون آخر.

* عبد الكريم الطحنجي أبو إسماعيل: له ماضٍ عظيمُ الثراء في الولدنة، والمراهقة وتضييعِ المستقبل، وبعد تقاعده يتفرغ للجلوس على ناصية الرصيف لتأمُّلِ مؤخرات الصبايا، وعنده غرفة يستعملها لصيده النسائي الذي تتيحه له الظروف، وهو- مع ذلك- له علاقة بانتفاضة المدينة، ويلعب دوراً إيجابياً في إنقاذ فدوى من المتشددين الذين يريدون إقامةَ الحد عليها.

* فوزية: هي أخت فدوى، مرتبطة بأبنائها، وشديدة الحب لهم، وحين يأخذهم أبوهم إلى القرية لإبعادهم عن جحيم الأحداث الدائرة داخل المدينة تقوم بزيارتهم بعد أن أحرقَ الشوقُ إليهم قلبَها، وفي الطريق يتمُّ خطفها، وتلعب قصتها دوراً هاماً في تطوير أحداث الرواية، وفي الكشف عن أخطاء الجانب المنتفض على الكتلة الحاكمة.

ولعل من المهم أن أشيرَ إلى شخصية المدينة، أعني: إدلب التي ظهرتْ من وراء الأحداث، فتبلَّور كيانُها الوجودي المحترق بمعاناة مبهظة، وهي صورةٌ مصغَّرة لشخصية الوطن: سوريا الذي فتكَ به داءان هما: الاستبداد والجهل!

التوثيقية ولغة الرواية:

أظن أنَّ أكثرَ ما لا يرضي القارئَ في هذه الرواية- ولا سيما القارئُ الحنبلي في موقفه من العربية هو: لغةُ الرواية أو جانبٌ منها اعتمد على ما يمكن أن أسمِّيه: السفور اللفظي، فالكاتب يُصرِّح بأسماء الأعضاء الجنسية عند الرجل والمرأة، ويسمِّي المعاشرة التي تقع بينهما باسمها الشائع الذي مازلنا نرى استعمالَهُ من الأمور الفجَّة في النصوص الأدبية. ربما لديه موقف خاص يختلف عما تَواضَعْنا عليه، ومن المعروف أنَّ تراثنا القديم كألف ليلة وليلة فيه الكثير من ذلك رغم وجود الفقهاء يومئذ، ورغم الحرصِ العالي على الأخلاقيات الاجتماعية، والأدبية، والدينية. هل كان القدماء يمنحون الأدبَ رخصةً أوقفنا نحن العملَ بها؟ أم أنَّ ما قام به الكاتب جنحَ نحو الإسراف؟ فقد يقول قائل: إننا حتى في حياتنا الواقعية خارج حدود الأدب والروايات، ومهما كانت طبقتنا الاجتماعية لا نلجأ إلى كلِّ هذا الكم من الألفاظ الصريحة التي قد يسميها بعضنا: فاضحة أو بذيئة.

هنا أحبُّ أن أحلل هذه الظاهرة اللغوية التي برزت عند خطيب بدلة بأنها ربما تكون من ثمار حالة التوثيق التي اشتغل عليها في روايته، ففي أماكن الاعتقال والتعذيب هكذا يتكلمون! وقد يردُّ المؤلف على انتقادنا له قائلاً: لستُ مستعداً لتجميل لغة هؤلاء، أو منحهم لغةً نقيةً تخصُّ غيرَهم، وبالمناسبة- رغم حساسيتنا من هذه الحالة اللغوية- لا بدَّ من القول: إنها حالة جديدة أو شبه جديدة بدأت تنتشر في دول المغرب العربي حيث التواصل مع الثقافة الفرنسية التي تتضمن تياراً قوياً يؤمن بالكشف، والتصريح، وقولِ الحقائق لا بمعانيها فقط، وإنما بألفاظها أيضاً.

ملاحظات عامة:

1- العنوان غير مناسب للرواية فيما أرى، لأنَّ أبو دياب كان يتكلم في الأحزان لا في الأفراح، أقترح عنواناً آخر للرواية هو: ماكينة حكي مزيتة.

2- لا تغوص الرواية كثيراً فيما وراء الأحداث، لكنها تبدو- في الأغلب- صدىً لها أو موالاً حزيناً عنها.

3- بدا لي أنَّ احتمال نادر أو قبوله بسلوك زوجته إلهام ذاتِ الشخصية النسائية الإغوائية النهمة للرجل بدا ذلك من الحالات الغريبة عن مجتمعنا إلى حد كبير!

4- لم تكن حالة التشويق في مطلع الرواية في أحسن حالاتها، لكنَّ السخونة تدخل في شرايين الأحداث بقوة بدءاً من اختطاف فوزية.

أخيراً.. هذه رواية يقال فيها الكثير، وقد يرفعها بعضُ النقاد إلى أعلى عليين، بينما قد يرميها بعضهم بعد قراءة صفحتين أو ثلاث. مهما يكن الأمر فهي عملٌ جريء من الناحية السياسية يرفرف بأجنحة الصدق، ويطالبنا بأن نباشر الحقائق لا أن نقومَ باللف والدوران حولها. لقد سقطتْ كلُّ الأقنعة، وظهرَ عرينا نحن السوريين فاضحاً مُشيناً، وأعني به: عريَ العقل والخُلق، وضياعِ البوصلة، ولا بد من أعمال أدبية مختلفة، تمارس على القارئ دورَ الزلزلة والإيقاظ.

*

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم