النص المتشظي في السرد المتجانس
أسامة غانم
تشتغل رواية (آلام السيد معروف) لغائب طعمة فرمان في (مكانين مختلفين كل الاختلاف في آن واحد – جاك دريدا) (1) بمعنى أن الرواية تتكون من نصين متداخلين ، نص داخل / مقروء ، ونص خارج / لا مقروء ، فالنص الأول / المقروء ، يشير خفية إلى النص الثاني / اللامقروء ، الذي يستمد منه خطابه وبنيته وآلياته ، واعتماده عليه في فك رموزه .
إن اللامقروء، هو ليس مناقضاً للمقروء أبداً ، بل هو المتن الذي يمنح المقروء قوة ، وفعالية ، مع العمل على انطلاقه في الفضاء الروائي ، وهذا يجعله يدخل في تجربة رمزية ، تعمل على ترميز مختلفة الظواهر الاجتماعية – التاريخية – الفكرية المنحدرة من الميتانص ، ومن هنا يبدأ تشظي النص ، ومن الممكن العثور على ذلك التشظي إذا ما قمنا بعملية تتبع النص وحضوره في نصوص أخرى جانبية من خلال تفكيك النص والبحث في أجزائه ، فذلك من (شأنه أن يؤدي إلى نمط من أنماط الأرشيف إلى نص ذاكرته معلقة في لا زمانية حاضرة)(2) ، والعثور على استفادة النص المقروء من الذاكرة الثقافية المتواجدة خارجه وكيفية توظيفها لإنتاج نص متشظي ، وهذا التداخل بينهما يكون كبيراً جداً ، بحيث يتعذر علينا التفريق بينهما ، لكنه يحقق قراءة شمولية متماسكة تشتغل على نصين ، ومنتجة للمعنى المزدوج المتشظي ، ومرغمة القارئ في محاولة من أجل إعادة تجميع آفاق النص الدلالية .
والراوي في نطاق الرواية ، ليس مجرد ضمير المتكلم ، اذ هو لا يمثل المؤلف تماماً، وكذلك من الضروري ألا يقع الخلط بين الشخصية الروائية الرئيسة السيد معروف وبين المؤلف غائب أيضاً ، ولكن قد تقترب وجهة نظر الراوي من وجهة نظر الشخصية مثيراً إلى درجة (يتلاشى فيها صوت الرواي في صوت الشخصية ، بحيث يصعب التمييز بينهما في كثير من الأحيان) (3) ، لكن الراوي يبقى حلقة الوصل المتداخلة بين النص المقروء / السيد معروف ، واللامقروء / غائب ، بمعنى أنه يتحرك داخل النصين ، ويتفاعل معهما بطريقة جدلية – حوارية عالية جداً بالخفاء .
ومما يزيد في تمييز وتفرد رواية ( آلام السيد معروف ) ، هو أنها نص مفتوح ، يشكل معاني مفتوحة ، وأحداثها دائرية ، وباستطاعة القارئ أن يبتدئ من أية صفحة ولكن ليس في استطاعته الانتهاء أبداً ، لذا فما على الراوي إلا أن : يروي ، يحكي ، يسرد ، ليجعلنا مطلين على تاريخ الإنسان : المنسي ، المضطهد ، الإنسان الذي يصنع الحياة الحقيقية والتاريخ الحقيقي بصمت ، لذا جاءت شخصية السيد معروف ، متناسقة ، متألقة ، مكتملة ، ناضجة ، فلقد اعتبرها الروائي الكبير عبد الرحمن منيف : ( من أكثر الشخصيات نضوجاً واكتمالاً في الرواية العربية ) (4) ، وإنها شخصية إنسانية – تاريخية ، مشبعّة بروح التاريخ ، ومستوعبة لها ، تموج بالحياة ، والحيوية ، لكنها في الوقت ذاته ، تقوم بالاحتجاج ضد وحشيته ، في مسخ وطمس إنسانية الإنسان ، فإن هناك ( ملايين عديدة تشعر أنها خارج تاريخ البشر ، وربما بلا تاريخ مكتوب ، أو على الأقل لا تحس بالتاريخ ولا تعترف به – ص113) ، وتعمل على تعرية ذاتها بشكل مخيف ، بلا مواربة ، ولا تزوير ، وهذا يعطيها الحق في أن تكون حالة عامة ، أي أن تكون مرآة عاكسة لحياة ملايين البشر ، الذين يولدون ويموتون في صمت ، ودون أن يثيروا أي همس ، أو إشارة تدل إليهم : (لو كان التاريخ هو تاريخ البشر حقاً ، لكان تاريخي – ص127) ، هكذا يقول السيد معروف عن نفسه ، عن وجوده ، في نهاية الرواية فلقد قام غائب بتشظية هذه الشخصية الروائية في عمق الذاتية ، وفي عمق التاريخ ، ولتكون متساوية فيهما ، لأنها : حكت وتحكي ، وستحكي ، عن المأساة الإنسانية : الذاتية – الجماعية ، وعن الحلم الضائع ، المهدور ، المسروق .
والسبب في مجيء هذه الشخصية بهذه القوة ، والرسوخ ، لأن المؤلف كانت له (صلات عميقة بالحياة الشعبية في أكثر تشعباتها تنوعاً ، أي بالحياة الواقعية لجميع الطبقات في المجتمع )(5) ، واستيعابه لوضعه ، ووضع الناس ، والعلاقات الاجتماعية – الاقتصادية التي يمارسونها ، فهو يكتب ( من الناس ، لا من أجل الناس ، إنه يكتب عن تجاربهم ، من روحهم)(6) ، ويرسم خسّة وغباء وفساد الطبقة (الفوق) بسخرية موجعة ، من خلال الرؤية الثاقبة للسيد معروف ، ووجهة نظره ، وعن طريق الشخص الثالث ، الراوي الذي ( حضوره محرر من الجسد)(7) ، كما قلنا ، مع القارئ ، أو مختفٍ عنه ، لكن القارئ يحس به بشدة ، وهذا ما شاهدناه منذ السطر الأول في افتتاح الرواية ، عندما يعلّمنا الراوي : بجملة إخبارية عن افتتان الشخصية الروائية بالغروب ، إلى حد أنه يشترك معها في إعطاء التبريرات لهذا الافتتان (للغروب فتنة لدى السيد معروف لا تعادلها فتنة أخرى في الدنيا كلها . والغروب بعد كل شيء ، صار رمز حياته ، حياة السيد معروف الآيلة إلى الغروب ، حياته الشاحبة المتراجعة المتقلصة ، المتراكضة ، كالغروب نفسه – ص7-8 ) فالمؤلف تاه بين رحلة الحلم في المنافي والمأساة في الوطن ، وبين جواز سفره غير المجدد ، وجنسيته المسقّطة ، فعندما حزم ذاته وارتحل ، ضاع الحلم والوطن ، وخاصة عندما اختار (منفاه في مدينة الحلم) (8) ، فرحلة غائب / كلكامش ، وصلت إلى طرق مسدودة ، وأصبح الحلم من اليوتوبيات ، فالمؤلف ما هو إلا نسخة أصلية من منفيي داخل الوطن وخارجه ، لذا كان على غائب أن ( يلبس الخيبة ويلتحف المأساة)(9) ، لحين رحيله ، لكنه بقي في منفاه عراقياً حتى النخاع ، مسكوناً بروح مدينته بغداد وواقع وطنه ومستقبله ، وهذا لا يعطينا الحق في المطابقة بين المؤلف وشخصية السيد معروف ، ولكن يبيح لنا المقارنة للقيام بإظهار ( المأساة الباطنية)(10) ، المستمرة بين أضلاع التاريخ – الاجتماعي ، والمعاناة ، والغربة ، والمرض ، عند السيد معروف ، ولنعثر على الاختلاف في التفاصيل اليومية ، والحياتية ، والتطابق في رؤية التاريخ – الإنساني عندهما ، ومن خلال ذلك نكتشف وجوهنا ، والوجوه التي تشبه وجه السيد معروف ، ووجه غائب بكل وضوح ، وفي أحيان كثيرة تختلط علينا الأصوات : المؤلف – الراوي – السيد معروف ، ونحسبها لواحدٍ منهم ، بينما هي في الحقيقة متداخلة ، لأنها تمتلك وجهة نظر واحدة مضادة لوجهة نظر المميز منهم والمدير العام : ( في مكاتبة رسمية لنفسك بأن تكتب تحويل تفكير .... تفكير من هذا الذي تريد تحويله ؟ الدائرة ؟ الدولة ؟ ، المجتمع ؟ هذا شيء يحاسب عليه القانون ... هذا – ص46) .
وكلية النص للرواية كلها ، إذا لم تقرأ ، قراءة رمزية – تأويلية ، فإننا سنظل نتصور أن السيد معروف ، (الإنسان النكرة ، المضطهد ، المحروم ، عاشق الغروب)(11) ، الحزين ، الكئيب ، المريض بالمعدة ، الموظف في إحدى دوائر الحكومة ، كاتب طابعة ، وجملته المخيفة الخطيرة ( أنا مجرد آلة طابعة – ص38) ، جملة تجريدية ، في الظاهر ، وتفقد دلالتها إذا لم تفسر ضمن الرمزية – التأويلية ، ومنظورها المستتر ، وقراءتها الموازية للأخرى ، لتوصلنا إلى رؤية داخلية مكثفة ، لأن النصين ، المقروء ، واللامقروء ، مصنوعان أساساً ( من كتابات مضاعفة ، وهو نتيجة لثقافات متعددة ، تدخل كلها بعضها مع بعض في حوار ، ومحاكاة ساخرة ، وتعارض)(12) ، وهذا التداخل بين النصين ، يدفع القارئ إلى حيث لا يستطيع أن يفرق بينهما ، وأن يعرف أيهما الحقيقي أو الضمني ، لأن السيد معروف يمثل الآخر ، والمؤلف من الآخر والقارئ كذلك ، وهكذا (يبلغ إيقاع الرثاء مقامه الأخير ، ويأخذ شكل الهجاء أو شكل الأدب الساخر في عمل روائي قصير وكثيف وبالغ في الرهافة ... والمأساوية هو : " آلام السيد معروف " )(13) ، وهذا ما نلمسه في كل الحوارات التي تجري بين المميز أو المدير العام مع السيد معروف ، حوارات تبين مدى عمق التصادم والتضاد الفعال بينهم ، وكلما يتطور هذا الصراع ، يعمل على فضح تفاهتهم ، وأساليبهم البربرية في التعامل مع السيد معروف ، بشكل أكثر صراحة وعلانية ، في العمل على قمعه ، وتهميشه ، ومن خلال هذا الصراع المحتدم ، نكتشف أن محور الأشياء هو الإنسان ، عند غائب (ولا سيما الإنسان بوصفه كائناً اجتماعياً – اخلاقياً)(14) ، ونرى ذلك بوضوح في الحوار التالي مع المميز :
وضحك السيد معروف ضحكة ، باردة قطعها الأستاذ عبد الرحيم
بجملة غامضة :
- ولكن المهم القصد والغاية ... الفكرة التي تسيطر على الدماغ وتدمره .
- لم تسيطر أية فكرة على دماغي .
- سيطرت ، سيطرت .
- أية فكرة ؟
- كنت تريد تغير لغة المكاتبات الرسمية .
- أبداً والله . ولكني كنت أحب أن ألطفها . وهذا أيضاً تبت منه ... حتى الأخطاء النحوية لا يهمني أمرها الان .
- أخطاء ؟ هذه هي الفكرة المدمرة . كل الذين لا يعجبهم شيء ، ويريدون رفضه أو تبديله قالوا إنه خطأ ، ليأتوا بفكرة من عندياتهم ص43 .
مشهد يصور المؤسسة البيروقراطية ، ووحدانية فكرها ، ووحشية أيديولوجيتها ، عندما تعمل على رفض أو اضطهاد أي فكر آخر ، وقمع أي تطوير أو تجديد ، بل إلى حد اعتباره (فكرة مدمرة) ، يجب تجميدها أو إلغائها نهائياً ، حسب مفهومهم السوسيولوجي المبتذل ، لأن التاريخ حسب منطقهم فوضى ، وهو تاريخهم .
تاريخ القوة والنفوذ والمال والسلطة ، وهذه العلاقة تخضع لجدلية مادية ولا تخضع للمنطق والرؤية الإنسانيين ، ولتساعدنا في الوقت ذاته على فهم المواقف الخفية وغير المعلنة في النص الروائي ، وحتمية وجود التغيير في هذه المواقف الواعية ، الني ترى معاناة وآلام الناس ، حتى ولو كانت في دوائر مغلقة ، لأنه كلما يزداد الصراع والتفاعل في النص ، يزداد وعي القارئ ورؤيته تجاه وضعه وتجاه العالم ، مع ترجمة هذا التفاعل إلى فعل إنساني ، يتسم بالغرابة الواقعية ، الداخلة ضمن عملية فض بنية المجتمع العراقي ، عبر الكشف عن الاتجاهات : الاجتماعية – السياسية – الثقافية .
ولقد رسم غائب طعمة فرمان ، الجانب الإنساني على نحو شاعري ، ولكن بتجسيد رمزي مخيف ، غارق بالتأويل ، لأن ( تأويل البنى الرمزية يدفع إلى الغور عميقا على لا نهاية المعاني الرمزية)(15) ، كما يقول باختين ، وعلى ضوء ذلك يكون هدف القراءة هو الكشف عن الواقع الحقيقي الذي يكون خارج النص ، من خلال تلاقي النصين المقروء واللامقروء ، اللذين نعثر فيهما ، على ( العمق الإنساني مسكوناً بالآخر)(16) ، وللتدليل على ذلك ، نقوم بقراءة الصفحات من 110 الى 114 من الرواية ، مع عثورنا على ذروة الصراع واحتدامه ، المتمثل في الحوار بين السيد معروف والمدير العام ، وفي هذه الصفحات تتلخص كلية النص تقريبا مع معرفتنا برؤية السيد معروف الواضحة والصريحة في موقفه من ذاته ومن العالم ، المغايرة لرؤية المدير العام المزيفة تجاه الناس والأشياء ، المبطنة بإلغاء الآخر ، والمصادرة لفكره ، واستلابه ، وقمع رأيه ، ولاستفاضة الحوار وطوله ، سأقوم باستعارة الجمل المكثفة بالمعاني والمواقف التي تفي بالقصد وتوضحه :
- وهي مذيلة بتاريخ ... حين كنت تعمل في لجنة النشر .
- لا تاريخ يا سيدي
- كيف لا تاريخ ؟
- هكذا ببساطة ، لا أذكر تاريخا .
- هل أنت تنكر وجود التاريخ عليها ، أم التاريخ بشكل عام ؟
- الاثنين ، يا سيدي .
وضع المدير العام القلم على الأوراق مستفزاً ، وقال :
- أنت مجرم إذاً ، غبي ، وغير وطني .
- تؤمر سيدي .
- قلت لك لا تكرر كلمة سيدي .
- أرجو المعذرة : ما هو التاريخ ؟
- أوه ... التاريخ ، يا بهلول . هو تاريخ الناس . تاريخ البشر .
- لا أعتقد يا سيدي . أرجو أن تسمح لي لهذا النداء اللازم . من قبل كان يا مولاي و الآن يا سيدي . ساد سيادة ، هكذا اقتضى التاريخ الذي تعتبره حضرتكم تاريخ البشر ، وأعتبره أنا تاريخ المميزين والمديرين العامين وملاك البيوت والمقاولين وأصحاب الأسواق العصرية ، ومن شاكلهم وأكل أكلهم .
- اسكت سفيه .. هذا تلقين دعاة السوء والمشاغبين ومقسمي الناس إلى طبقات ، هذا تحريف بالقيم .
- هناك ملايين عديدة تشعر أنها خارج تاريخ البشر ، أو ربما بلا تاريخ مكتوب ، أو على الأقل ، لاتحس بالتاريخ ، ولا تعترف له .
- اسكت حيوان ، حشرة .
- وهكذا نفيتني بهذين النعتين من تاريخكم ، يا سيدي .
ومن الملاحظ أن غائب لم يوظف التراث في رواياته السابقة نهائياً ، ولم يقترب منه ، أما في رواية آلام السيد معروف ، فقد وظفه فيها توظيفاً عالياً ، باستخدام الرموز التراثية العربية : المتنبي – المعري – الجاحظ – الزمخشري ، وغيرهم .. وجاء متناسقاً ، ومتجانساً، إلى حد أنه أصبح جزءاً لايتجزأ من النسيج السردي للرواية ، مع اشتراكه في تشكيل جمالية النص اشتراكاً فعالاً ، بالإضافة إلى إعطاء النص قوة وحيوية وزخماً في التعبير ، مع العمل على تعزيزه وتماسكه ، كل هذا انعكس على بنية الشخصية الروائية ، وتم ذلك بكل مرونة وحرية في التشكيل السردي ، واستخدام التراث كمفتاح لقراءة النص ، لاستيعابه ، لتحليله ، لتفكيكه وإعادة صياغته ، وهذا يعتمد على المتلقي ، فكلما كانت ثقافته واسعة أو نشطة ، فإن خياله وتأويله ، سيكونان متمكنين من الإحاطة بخفايا التراث في النص .
وتصل إنسيابية استخدام التراث وعفويته ، إلى حد أن يجعل القارئ يقرأ الحاضر والمستقبل بعين الماض التراثي ، على وفق منظور تاريخي – اجتماعي – سياسي ، كما في الفقرة التالية ، التي تبين مدى تداخل الموقفين وتوافقهما وتماثلهما تجاه وضعية إنسانية معينة، من خلال رؤية تهكمية ساخرة ، بين الجاحظ – السيد معروف ، والزيات – المدير العام :
والجاحظ طيب الله ثراه اتقى تنور الزيات برسالة موجعة مفجعة ، في الجد والهزل ، ينفي عنه التهم الباطلة ، ويفرق بينه وبين صاحب نعمته . أنت طويل وأنا قصير . أنت أصلع وأنا أنزع . أنت صاحب براذين وأنا صاحب حمير . أنت شاعر وأنا راوية . أنت ملك وأنا تابع . أنت مميز وأنا كاتب طابعة . ص61 .
ومن حق القارئ أن يتساءل : كيف نستطيع أن نقيم تجربة السيد معروف ؟ بالإضافة إلى ما عرفته آنفاً ، فإنه كان يقوم بإعالة (أم عجوز ، وأختان عانستان – ص25) ، وإنه يمثل أو يشكل : الذات – الآخر ، وهو لا يمر في حالة موجود لكنه غير مفكر ، أو مفكر لكنه غير موجود ، بل هو يمر في حالة موجود وهو يفكر ، (أنا موجود ، إذن أنا أفكر) ، لكن أين يكمن التقاطع ؟ يكمن في أنه ليست لديه حرية التعبير أو الحق في طرح وجهات نظره ، مفارقة حادة ، أنه النموذج الملغي السائد في المجتمع ، مهمش ومعزول ، فقط المطلوب منه تنفيذ ما يؤمر به ، والخضوع للآخر – السلطة ( مؤسسات – شركات – أرباب العمل – دوائر أمنية ...الخ ) فهذه ( التجربة تتجاوز الواقع من أجل أن تحسن الغوص في داخله ، وتحسن استقصاء ما يضمره) (17) ، وكشف أسرار الذات ، والواقع ، والمتخيل . وهنا يبرز دور النص اللامقروء – الخفي في دعم وإيضاح المقروء – الظاهر ، وفي منح القارئ الرؤية الشاملة ، العميقة ، ومعرفة الكثير عن قصدية النص ،عبر القراءة الرمزية – التأويلية ، والعثور على (أن عيش اللامعقول بمعقولية جامدة وباردة ، تثير الدهشة ليس من غرائبية اللامعقول بل واقعيته ، بل تثير الذهول من درجة واقعيته التفصيلية) (18) ، وينسحب هذا أيضاً ، عندما يتناول غائب تفاعل الذهنية الدينية في بنية المجتمع ، ومدى رسوخها وتأثيرها فيه ، واعتبارها من العوامل التي تحكم تطور وتغير الوعي السوسيولوجي ، وفي تكوين رؤيته تجاه الأشياء ، يقوم بتناولها ضمن رؤية مدروسة ومحسوبة بدقة ، مع تجانس في كلية السرد :
لا ، لست متزوجاً . قسمة ونصيب ، لا تدخل نفسك في أمور لا تعرفها ، يا سيد معروف . سر على ما كنت تسير عليه دائماً ، لا تعرف ، ما لا تعرفه ولا تتدخل فيما لا يجوز التدخل فيه . نعم . قسمة ونصيب . أم عجوز ، وأختان عانستان . لا . قسمة ونصيب . ص25 .
هذا تحليل القدري للظواهر السوسيولوجية ، والأخلاقية ، يدفع بهذه الشخصية – النموذج ، إلى ناصية التاريخ وناصية المجتمع ، (فتحس ذاتها منعدمة بالاغتراب ، وتستلمح به عجزها وحقيقة وجود لا إنساني – ماركس) (19) ، لكن هذا لا ينفي من كون السيد معروف – النموذج، يمتلك وعياً بوضعه الاجتماعي ومعرفته العميقة بحاضره ، لأن هذه المعرفة ( تعمل تغييراً بنيوياً ، موضوعياً في موضوعها) (20) ، وأن قوته الدلالية تتجاوز النص .
ويشمل هذا أيضاً ، موقفه المتشدد إزاء المشاركة في الفعاليات التي بفرضها المدير العام على الموظفين ، وبقائه للأخير رافضاً عدم المشاركة ، في أي فعالية ، ومقاطعاً لها ، لإحساسه بزيفها وتفاهتها .
وللسيد معروف صوته الداخلي ، الصوت الثاني (ينطق بلسان غير لساني – ص67)، وما لم نفهم ذلك يتعذر علينا فهم هذه الشخصية – النموذج فالصوت الثاني : هو الحوار الداخلي الموجه إلى الذات ، وكأنه موجه إلى إنسان آخر ، يعنفه (أسكت ، يا سيد معروف . ص27) ، ويوبخه ( لا تدخل نفسك في أمور لا تعرفها ، يا سيد معروف – ص25) ، ويستفزه (هل أنت كائن ، يا سيد معروف ؟ ومن أين جاءتك هذه الكينونة ؟ ص97) ، والصوت الأول يتقاطع مع الصوت الثاني في الرؤية والطرح ، فالأول مستسلم ، خانع ، هامشي ، بينما الثاني متمرد ، متحفز ، ويتسم باستقلاليته وعدم اندماجه ، وهذا ما يطلق عليه باختين (المزدوج) في هكذا شخصية روائية ، وأن العلاقة الجدلية – الحوارية المتبادلة بينهما، تزداد وتتبلور ، كلما إزداد احتدام الصراع بينهما ، ولتشكل البنية الحقيقية للرواية .
وعند تناولنا النص ، لا يمكننا أن نغفل جانباً جوهرياً فيه ، ألا هو توظيف غائب للشخصيات التراثية ، والأقوال المأثورة ، والأمثال ، والأشعار ... ، التي جعلت الخطاب الروائي الأصلي ، يستمد منها غايته ووسائله التي يعبر بها عنها ، وفي أغلب الأحيان يوظفها بتصرف مميز إلى حد يتم فيها تغير المعنى ، في محاكاة ساخرة حزينة ، ولتحقيق الوحدة الدلالية الشاملة في النص ، بالإضافة إلى العمل على إثراء النص وتماسكه ، وتكثيف المعنى وتجسيدها ، مع الكشف عن رؤية النص للعالم ، من خلال عملية التناص ، التي تتم فيها التحولات داخل الخطاب الروائي ، وأن (التناص ينتسب إلى الخطاب)(21) ، وهذا يقودنا إلى قراءة النص ، باعتباره نصاً واحداً لا يتجزأ ، وخلاف ذلك يعني ( تشتت هويته ، وتبديد أنظمته الدلالية والخيالية والإيحائية ، بحيث تصير مرتبطة بغيرها من الأنظمة في النصوص الغائبة التي اعتمد عليها الأديب صاحب النص المدروس)(22) .
إن جوهر السيد معروف الإنساني ، يكمن في وعيه العميق بذاته وبالعالم ، وحدة وعيه الطبقي ( وذوو الميزانيات الضعيفة هل سيحشرون ؟ أما كفاهم حشراً في البيوت الضيقة والباصات المكتظة ، والدوائر الخانقة بفعالياتها ومميزيها ومديريها العامين – ص120) ، ومن خلال التصدع الذي يحصل فيه – الألم ، المعاناة ، السخرية ، التهميش ، الإهمال – يقوم غائب بإعادة خلق السيد معروف ، أو بالأصح كلما اشتد عليه الضغط خرج أقوى ، ففي خضم الألم يفخر نفسه مزيحاً القناع عن الوهم ، وإدامة كينونته الاجتماعية – التاريخية ، مع تحديد العلاقة التي تربطه بالعالم ، التي بدورها تكشف لنا ، العلاقة بين النص الروائي والعالم ، ويأخذ التحول مداه في نهاية الرواية ، والذي يعد من أرقى أشكال التعبيرية في الرواية ، عندما يعلن السيد معروف أنه مستعد لمواجهة المدير العام / السلطة ، ولن يتراجع عن ذلك ، فكفى خضوعاً وخنوعاً ، لأنه (لو كان التاريخ هو تاريخ البشر حقاً لكان تاريخي) .
ولابد من التوقف أمام بنية العنوان (آلام السيد معروف) وبنية الإهداء ( إلى الشهداء الأحياء ممن لهم شبه بالسيد معروف) ، فهذه الجمل الإشارية والمرجعية ، تخلق رد فعل فوري إيحائي من قبل المتلقي عند استقبالها ، منطلقة من انفعالية شعورية ، اعتماداً على الإحالة إلى الواقع ، ولأن هذه الإيحائية التوصيلية تجعل المتلقي يشكل صوراً ذهنية وحسية تلقائية ذات دلالات قيمية ، قبل الدخول إلى عالم المتن الروائي ، فأنها ستعمل على إضاءة النص بكامله ، أو ستجعله يخضع لبنية سلطتها ، ولتكون علامة تحفيزية ، لأن المؤلف في هذه الجمل حصر قصدية كلية السرد فيها ، وأن هذه الجمل ملحقة بغائب / النص اللامقروء ، وبالسيد معروف / النص المقروء ، وبهما تتشكل بنية النص الروائي .
الهوامش والإحالات :
- ال . ال . جميز ، النص وما وراء النص ت : د. محمد درويش ، مجلة الأقلام ، العدد الرابع / تموز – آب 2001 .
- م . ن
- د. شجاع مسلم العاني ، البناء الفني في الرواية العربية في العراق ، ص195 ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد 1994 .
- عبد الرحمن منيف ، لوعة الغياب ، ص138 ، المؤسسة العربية للدراسات العربية ، ط2 ، بيروت 2000 والمركز الثقافي العربي للنشر والتوزيع الدار البيضاء ، المغرب ، وانظر كذك : مجلة الهدف ، العدد 1134 في 31/1/1993 .
- جورج لوكاش ، الرواية التاريخية ، ت: د. صالح جواد الكاظم ، ص432- 433 ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد ، ط2 ، 1986 .
- م . ن ، ص417 .
- مايكل . هـ . ليفنس ، أصول أدب الحداثة ، ت: يوسف عبد المسيح ثروة ، مراجعة د. فائز جعفر ، ص21 ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد 1992 .
- د. فيصل دراج ، غائب طعمة فرمان في ذكراه الثالثة (ملف) ، مجلة الهدف ، العدد 1134 في 31 / 1م1993 .
- م . ن .
- نيقولا برديائف ، رؤية دوستويفسكي للعالم ، ت:د. فؤاد كامل ، ص19 ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد 1986 .
- لوعة الغياب ، ص137 .
- رولان بارت ، نقد وحقيقة ، ت: د. منذر عياشي ، ص24 ، مركز الإنماء الحضاري ، دمشق .
- د. فيصل دراج ، الرواية والمجتمع المدني ، مجلة الهدف ، العدد 1123 في 1/10/1992 .
- الرواية التاريخية ، ص184 .
- تزفيتان تودوروف ، المبدأ الحواري : دراسة في فكر ميخائيل باختين ، ت: فخري صالح ، ص38 ، دار الشؤون الثقافية ، بغداد 1992 .
- م . ن ، ص50 .
- أدونيس ، الصوفية والسوريالية ، ص185 ، دار الساقي ، ط2 ، بيروت 1995 .
- د. عبد الرزاق عبد ، سلمان رشدي في المنظور العربي ( ذهنية التحريم ، صادق جلال العظم) ، ص372 ، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي ، ط2 ، دمشق 1994 .
- جورج لوكاش ، التاريخ والوعي الطبقي ، ت: جورج طرابيشي ، ص133 ، دار الاندلس ، ط2 ، بيروت 1982 .
- م . ن ، ص149 .
- المبدأ الحواري ، ص82 .
- محمد أديوان ، مشكلة التناص ، مجلة الأقلام ، العدد 4-5-6 ، نيسان – مايس – حزيران / 1995 .
0 تعليقات