د. عمر الخواجــا

                       تقول الروائية العراقية عالية ممدوح عن شخصيات رواية التانكي  (  ... كانت الشخصيات في الرواية تبحث عن عفاف أيوب الشخصية المركزية في التانكي . هكذا تبدو الصورة من الخارج لكنّ الذي يجري داخل عقول أفراد العائلة فقد ظلوا يبحثون ولوحدهم عن ذواتهم التائهة) ...  تصفُ الرّواية مأساة عائلة عراقية تبحثُ عن ابنتها، وتعرضُ من خلال فصولها السـبعة حكــاية كلّ فرد منهم وطريقة تعاطيهم مع غياب عفاف وهجرة هلال وانتحار الخال سامي ...   ربما استطاعت عالية ممدوح أن تخوضَ مغامرة الشّـكل الرّوائي بطريقة مميّزة فهي قد أوكلت مهمة الســّرد لشخصيات الرواية الرئيسة ولم تظهر إلاّ للحديث عن ( البطل – الغائب : عفاف أيوب )  وابتعدت عن الشـكل النّمطي للحكاية كبداية وحبكة ونهاية ... لقد تمرّدت الكاتبة على الاطار الكلاسيكي للراوية وركّزتْ بشكل مُكثف على عمليات البوح الذاتي للشّخصيات الرئيسة  ... نلاحظُ بأنّ  الفكرة المركزية في الرواية   "اختفاء عفاف أيوب " تسيطرُ على أغلب مفاصل الحدث وتظهر بشكل واضح في رسائل  افراد العائلة للطبيب النفسي  الدكتور كارل فالينو الذي أشرف على علاج عفاف أيوب في باريس ، لم يكن البحث عن الفنانة التي اختفت في باريس سوى طريقة تحايلت بها الكاتبة من أجل أن تترك لشخصيات الرواية حرية التّحدث أو البحث عن ذواتهم ، عنوان الرواية ( التانكي ) يثيرُ لدى القارئ عددا من الأسـئلة المُلحّة، فهو اسم لشارع  في حيّ من  أحياء العاصمة العراقية بغداد ... التانكي يدخلُ في تفاصيلِ ومسار معظم شــخصيات الرواية ،  حتى أننا نشعرُ به كشـخصية مهمة تتفاعل مع  الأفكار والأحداث والحكايات   (  ...  هذا هو شارع التانكي دكتور، وهو كائن وسط الصليخ الجوّني والذي سنعاود ونكرر ذكره ... اسمه وسكانه وقصوره وجنرالاته وموتاه وعاهراته ، وهو الشارع ذاته المؤدي للكلية النازل من الكورنيش فنصادف دار"حكمت سليمان"رئيس الوزراء في الثلاثينيات ويقع في الجانب الغربي من الشارع يقابله سكن الفاذرية بعدما صار الآن سكناً للراهبات سنعاود ذلك بعد ان تم طردهم في العام 1969 في حكم الرئيس احمد حسن البكر اما الكورنيش نفسه فهناك كان يطلّ بيت "رشيد عالي الكيلاني " في الجهة الجنوبية والذي صار فيما بعد مقرا ل "الجمعية البغدادية " التي أجّرتهُ من الورثة  ص 31 ) ... تعمدت الكاتبة أن تذكر وصفاً دقيقا لهذا الشارع بل وذكرت مواقع بعض المنازل التابعة لشـخصيات مهمة في التاريخ السياسي العراقي  وقد أتت هذه المعلومات لتلعب دوراً مهماً في ســياق الرواية دون التّطرق لأمور تاريخية أخرى أو الدخول في تفاصيل مُطوّلة ... عفاف أيوب   شــخصية متمردة تبحثُ عن ذاتها بطرق شتى ( خالتها فتحية قالت لها في أحد الأيام : لا أتخيلك يوما زوجة لرجل وأماً بيدك طفل وصميم قال لها في زيارته الخاطفة لباريس في العام الثاني من دراستها انت امرأة واحدة ووحيدة ص 227 ) ...   اما في المرحلة "الباريسية "من حياتها (... تظهر يومياً في الفرندة وتقوم بالغناء أغاني عربية وبصوت عال وفي ساعات متأخرة من الليل، ثم يتحول الغناء إلى أصوات هستيرية ، ونداءات وصراخ ، ثم تعود للغناء ... وتبدأ بضرب رأسها في الحائط فتصل حدّ الإغماء ، فيصعد رجال الإطفائية مادّين سلما من الخارج ، فيجدونها مدمّاة ومغمى عليها ، وما ان تفيق قليلاً فتصرخ باسم كيوم ... كيوم  ص 133 )  وهنا يظهر السؤال من هو "كيوم "؟ ... عفاف أيوب تُجسّـد سياقاً اجتماعياً يمثلُ حالة من التّشظي والغربة وتظهرُ كفنانة عراقية تبحثُ عن طموحها الفني في" باريس "حيث تجدُ مكاناً للتعبير عن عشقها للفن والابداع ولكنّها أيضا تكتشف عاطفتها المكبوتة حيث تغرقُ في تجربة حبٍ مُلتهب مع  النّاقد الفنان (مسيو كيوم فيليب )  تقودها نحو المجهول ...

           عالية ممدوح تكتب في رواية التانكي عن عائلة تبحثُ عن ذاتها حيث  يبدأ حديثُ الكاتبة عن عائلة أيوب كمشهد ســينمائي من خلال صورة تجمعُ أفراد العائلة بترتيبٍ مقصود كما ورد في الصفحة 13 حيث تتحدثُ الروائية عن هذه الصورة بطريقة تقود القارئ لتخيّل صورة جماعية بالأبيض والأسود لعائلةٍ تتكوّنُ من أشخاص مُختلفي الأعمار والأشـكال والهيئات بملابس تعود لعقود خلتْ وتتميّزُ بالبساطة والكلاسـيكية ، ومن خلال هذا المشهد التصويري يتّضحُ بأنّ العلاقة بين أفراد هذه الاسرة تَحكُمها اعتبارات ومُحدّدات مختلفة فلقد تطلّبَ التقاط صورة لهم تحضيراً دقيقاً من حيث التركيز على اختيار مكان كلّ منهم  ومراعاة السنّ ودرجة القرابة مع الإشارة للغائبين وسبب عدم تواجدهم ... هذه الصورة العائلية  تُشـكّل المحور الآخر المهم في الرواية بعد شـارع التانكي وهي بمثابة مدخل رئيس يضيءُ مساراً واسعاً نحو فكرة وغاية الرواية .

الوالدة مكيّة جالسة على كرسي نظراً لكبر سنّها وإلى جانبها الخالة فتحية ثم الخالة الأصغر سنية حيث نجد أن هذا الصفّ الجالس المكوّن من الأخوات الثلاث يُشكّل مقدمة الصورة أمّا الرجال فنجدهم واقفين خلف صفّ النساء حيث نشــاهد الوالد أيوب والعم مختار أما الأماكن التي بقيت فارغة فيمكننا أن نتحدث عن الجدة فاطم بيبي والتي لم تظهر في الصورة لأنّها بقيت في الطابق الأعلى والخال المنتحر سامي والأبن البكر المهاجر هلال والابنة الفنانة المختفية عفاف ...يمكننا ان نلاحظ محدودية دور الأب والأم والجدة في سرد الاحداث بينما تركت عالية ممدوح شخصياتها الأخرى تتحدث عن عفاف أيوب وتتورط  في بوحٍ تلقائي  فيما يشبه اعترافات أو تصريحات شـخصية  وكأنّهم يبحثون عن أنفسهم   حيث تقول الخالة فتحية : ( ... أنا الخالة فتحية التي  استفحل مرضي وأنا أصوغ الجمل البسيطة التي كانت تحبها علها تعود فصرت أحادثها يومياً ، وأنادي عليها كما تبدأ القصص عادة وحسب ما نشاء ، نقدر ان نوقف البنت هنا ونقرب الكاميرا من كل وجه من وجوه العائلة ، ذكرني يا سيد صميم فيما اذا نسيت واحدا منا سيبتسم طبيبكم قليلا فهي كانت الأصغر سنا  بين العائلة يوم انتقلنا الى شارع التانكي ... ص 18 )   

 يتحدث العم مختار قليلا عن علاقة الاب أيوب بمدينة بغداد حيث يقول في بوح شاعري ( .... أيوب لم يتذكر المدينة يوماً كما أكتبها لك الآن دكتور فهو ليس لديه سواها كان يسمع نبضها ويستيقظ على صمتها ويحبّ لمسها في الفجر ، فيذهب إلى الكورنيش ويطلّ على النهر لكي يفتتح يومه ويأخذ حظه منها يعرف صورها الثابتة والمتغيرة أوصافها ومن ألفها وكيف يتم تفكيكها رأسها وكعبها ووجهها وقفاها وأفخاذ عوائلها وعشائرها أنفتها وحشمتها وأسرارها شبابها ورتب وظائفها واحتضارها الطويل ... ص 80 )... لقد عملت الكاتبة على رسم شخصية العم مختار المحامي بطريقة واضحة فشاهدناه مُسنّاً سـكيراً يطارد النساء  ولا يتورع عن التّصرف بما يخالف الأعراف والآداب العامة  ( .... فالخمرة وطقوس تناولها تتطلب الكثير من الفنون والذوق العالي والمزاج الراقي وبالتأكيد من الخيال فأعود وأتفاهم مع نفسي وبالدرجة الأولى فأستطيع الدخول إلى سرسرة هذا الشارع وجميع أزقة وبارات وحارات وملاهي وأسواق ونوادي وحانات المدينة السرية والعلنية وأبدو رقيقا ... ص 70 )   .. وتواصل الكاتبة حديثها عن هذه العائلة من خلال تناول شـخصية الخال سامي وهي شخصية لا يملك أفراد العائلة كثيراً من المعلومات عنها بحيث تبدو سـيرته الذاتية مجهولة ولكنّه أحدث بانتحاره هزة عميقة لدى افراد العائلة أما الابن هلال فيظهر كشخصية حسـاسـة تأثّر كثيراً بحادثة انتحار الخال سامي واختار الابتعاد عن أفراد العائلة والإقامة في لندن .  

               في رواية التانكي نجد أن الروائية عالية ممدوح قد اهتمت بالشكل والمضمون ونجد أن طريقتها في سـرد الأحداث على ألسنة المُتكلّمين واستخدام عدة رواة في الرواية قد أعطتها حريةً في وصف علاقة كلّ فرد بالبطلة وهو ما ساعد على انتاج مستويات مُختلفة من السّـرد وبالتالي جعل من مهمة القارئ متابعة وجمع الأحداث وربطها والتنسيق بينها ورسم الشخصيات وتتبع مصائرها وأفكارها ...  نلاحظ أن بعض الفصول جاءت على لسان عدد من الأشخاص خارج نطاق العائلة والذين  لهم تأثير كبير في مجريات الأحداث مثل الكاتب صميم  مؤلف سيرة الفتاة المختفية عفاف أيوب والمهندس المعماري معاذ الالوسي  صاحب المشروع الهندسي الطموح المكعب والدكتور كارل فالينيو الطبيب النفسي المعالج، والنّحات يونس الهادي صاحب الحظ التعيس التائه بحثاً عن نفسه وأحاسيسه وفنّه ،  شــكليا نجحت الكاتبة في استخدام الجملة البسـيطة لغوياً دون تقعير أو تفخيم أو اطناب مع استخدام  اللهجة العراقية الدارجة  وعدم التّحرج في ذكر كلمات قد يجدها بعض القراء شاذة أو خارجة عن السياق  أو مغرقة في المحليّة مثل ( قندرة و البايب واستكان والمكرود و...... ) ولكنّها في أغلبها جاءت ضمن ســياق حوار الشّـخصيات ذات المسـتويات الفكرية والاجتماعية والثقافية المختلفة .

على صعيد المضمون فإنّ الروائية عالية ممدوح حرصت على تضمين رواية التانكي كثيراً من الأفكار والمعاني آخذةً بعين الاعتبار مُجمل التحوّلات السياسية والاجتماعية  التي عاشتها مدينة بغداد بشوارعها ومعالمها وحاراتها مع الابتعاد عن السطحية  والتقريرية والمباشرة في الطرح ... لقد لاحظنا بأن الجانب الفنّي والمعماري والفلسفي والأدبي والغنائي والموسيقي  قد أخذ حيزاً كبيراً من اهتمام الكاتبة بل كان ركناً أساسـيا في حياة شـــخصيات الرواية  ( ... .... الذي يسعده  ويثريه الاستماع لموزارت لا يستطيع الاستماع بالأذن نفسـها للحماقات التي تُغنّى في الإذاعات ، والذي يتمتع حقا بلوحة لتيرنر أو دوستال لا يتوقف أمام أشـكال شـــائهة تحمل الوباء ، الذي يحبّ هذه النماذج الذي ذكرتها ، ويجد مفهومه الجمالي متعة فيها ، يُشكّل حياته بأكملها بشكلٍ مختلف تمام الاختلاف عن الشــكل السائد ، أستاذ معاذ ألا تتذكر مقولة ارسطو في الفنّ الذي يرى أنه يشبه الجسم الإنساني ، فلا هيكل عظمي وحده ولا شرايين وحدها ، وإنما يجب ان يكون جامعاً كلّ شيء ويدلّ على كماله الخاص المتفرّد كما أعمال دويستويفسكي وشكسبير وغيرها ص 53) ...  حاولت الكاتبة عالية ممدوح  بقدر كبير من النجاح استخدام عملية انتحار الخال سامي شـنقا في تناول فلسـفة الموت والحياة والصّراعات النفسية التي تمزق الشخصية العربية ... لقد علّق نفسه بحبل على نخلة عالية تاركاً وراءه كماً كبيراً من الحزن والتساؤل والأسى  ، لم انتحر الخال سـامي ؟ أيّ ألم وضياع قادهُ لمثل هذا العمل؟...  ربما نجد بعضاً من الايضاح فيما قاله الابن هلال عن خاله المنتحر ( ... وها أنا أستخرج من أعماقي السـحيقة خالي في البداية ، فأنا معطوب مثله ، فتتفجّر البراكين على غير توقع لمرأى التدمير .... ص 106) ... نشــاهدُ هنا كماً هائلاً من العطب والخراب والتمزّق فسـامي لم يجد حلاً لمعاناته سوى الموت خلاصاً من هذا الألم الذي يملأ روحه وفكره ... تطرح الكاتبة في هذا الموضوع عديدا من المآزق والتساؤلات التي يثيرها الانتحار بين أفراد العائلة حيث يرى هلال بأنّ الخال ســـامي قد تعرض لعملية قتل غير مباشــر ( ... اذا ما عدنا للخال الغائب سيدي ، هل ما حصل هو القتل ؟ أم الانتحار ... ص 109 )  وهو يحاول أن يرسم صورة واضحة للخال سامي ويغني حزنا وألما على فراقه ... ربما يظهر هذا التأثر الكبير على شخصية هلال نظرا لتحرره كما قال من أوهام ومعتقدات العالم العربي وتقبّله لحرية تصرف الخال سامي الطالب في كلية بغداد  او العم مختار المحامي مدمن الخمرة والنساء ولكنه يعاني من الشكّ المزعج في سؤاله الصعب حول انتحار أو مقتل سامي  ومن الذي دفعه لمثل هذا التصرف العدمي ؟  وهل كان لأحد من العائلة دور في دفع سامي لمثل هذا الخيار؟ (... هل هنّ القتلة دكتور، خالاتي وأمي وأبي؟ أم نحن؟ أم أنتم، ولم لا ... ص 110)  

       عالية ممدوح في رواية التانكي تطرحُ أسئلةً بلا إجابات وتصنعُ شـخصيات بلا نهايات واضحة ، نحن أمام رواية تتميزُ بتعدد القراءات الممكنة وبأحداثٍ قابلة للتأويل والرفض والقبول ، وهي من خلال فصولها السبعة تثيرُ عاصفة من التساؤلات المفتوحةِ على كل الاتجاهات وإن شئنا أن نقول بان الكاتبة قد اختارت خاتمةً مفتوحة للرواية فإن الشخصيات الرئيسة والثانوية  تطرح قضاياها الذاتية وبحثها الوجودي وتمضي دون نهايات واضحة تاركةً في نفس القارئ صدى وأثراً كبيراً ...عالية ممدوح كاتبة عراقية تولي الجانب النّفسي لشخوص روايتها أهمية كبيرة فهي درست علم النفس في الجامعة المستنصرية 1971 وهي تستخدم خبرتها الصحفية  من خلال عملها في تحرير  العديد من الصحف والمجلات الفكرية والثقافية والأدبية في نسج كثيرٍ من الأحداث الفرعية وربطها بالفكرة والموضوع الرئيس وهذا ما ظهر بشكل كبير في رواية التانكي ( منشورات  المتوسط  إيطاليا 2019 ) ...

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم