نجيب كيَّالي

تمهيد:

أخبارٌ كثيرة ... مواقفُ شتى

صدماتٌ، جراحٌ لا حصرَ لها، عوالمُ كبيرة وصغيرة يحويها (دفتر مايا)، ومايا هي بطلة هذه الرواية المترجمة عن الإسبانية للروائية التشيلية المعروفة: إيزابيل ألليندي.

هو دفتر عادي لكتابة اليوميات.. للتسلية، لكنَّ (لاس فيغاس) المدينة الأمريكية بجبروتها الحضاري، وعربدتها،، وآفاتها العصرية تتربع فوق أوراقه!

بيوت(تشيلَوي) البريئة، الطيبة، الواقفة بلا أبواب على جذوع الشجر تظهر أيضاً على صفحاته، وتشيلَوي مجموعةُ جزر صغيرة تتبع (تشيلي) في أمريكا الجنوبية لجأتْ إليها مايا.

ملذات العصر المستبدة الكاذبة نجدها فوقه كذلك.. تلك التي تسطو على النفوس، فتدمرها.. حتى تغدو ريشةً في مهب الألم!

إنه ليس تفصيلاً صغيراً في هذه الرواية، لكنه الروايةُ كلُّها.. حتى عنوانها أخذته منه الكاتبة.

تسلية ذات معنى:

يبدأ خيطُ الحوادث حركتَهُ في هذا النص فوق مغزل يشبه اللعبة أو التسلية، فـ(مايا بيدال) الشابة الهاربة من مطاردة مزدوَجة في الولايات المتحدة إلى تشيلي يُثْقِل عليها الوقت ببرودته وطوله، فتمدُّ يدها إلى دفتر يومياتها لتكتب عما جرى لها سابقاً في أمريكا، وعما يجري لها حالياً في ملاذها الجديد (التشيلوي).

صحيحٌ أن صاحبة الدفتر غير مختصة بالكتابة، ولا متعلمة جيداً.. حتى إنها تجد-كما تقول في دفترها- صعوبةً في ربط الحوادث، وتنسيقها زمنياً، لكنَّ ما ترويه مدهش.. مدهش جداً، يجعلنا نقول: معقول؟! أف..أف إلى هذا الحد!

والآن.. نجد أنفسنا أمام سؤال مشروع وعاجل: لماذا تقوم شابة من هذا النوع مع دفترها برواية الأحداث؟

الجواب: لم يكن الأمر مصادفةً بالطبع. إنه تدبير من المؤلفة أو مظهر من مظاهر حنكتها، فلعلها أرادت بهذه الطريقة أن تضع روايتَها تحت مظلَّة من العفوية أولاً، وأن تُقدِّم للقارئ - ثانياً- ذريعةً موضوعية تسمح لها باستخدام التفاصيل والاستطالات السردية.. تفاصيل واستطالات  قد تبدوانِ  زائدتينِ عن الحاجة، لكنهما في حقيقة الأمر غير ذلك.

مَنْ هي مايا بيدال؟:

كحولية، مدمنة مخدرات، منتهَكة الجسد، وقد نتسرع، فنقول: إنها خطيئة تمشي على قدمين، عارٌ صارخ، غير أننا يجب أن نتمهل في إصدار الأحكام.

مايا بالدرجة الأولى هي مخلوقٌ معذَّب، يائس حتى من نفسه، ومن بوابة العذاب ينبغي أن ندخل عالمَها، وهاهي تصف نفسها، فتقول:

(أنا مايا بيدال، تسعة عشر عاماً، الجنس أنثى، عزباء، وليس لي حبيب، لانعدام الفرص، وليس لأني متطلِّبة، ولدتُ في بيركلي بكاليفورنيا. جواز سفر أمريكي، لاجئة بصورة مؤقتة في جزيرة بجنوب العالم. أطلقوا عليَّ اسم مايا لأن جدتي (نيني) معجبة بالهند، ولأنه لم يخطر لأبويَّ اسمٌ آخر، على الرغم من أنه كان لديهما تسعة شهور ليفكرا في اسم لي. ومايا بالهندية يعني: (سِحر، وَهْم، حلم)، وهي أمور ليس لها أية علاقة بطبعي. اسم (آتيلا) يناسبني أكثر، لأنني حيث أضع قدمي لا ينبت العشب)(1).

أمَّا ما تقوله عنها الأحداث، فهي نموذج لطائفة كبيرة من الشباب الأمريكي الذي يعصف به استبداد من نوع خاص، اسمه: استبداد المخدرات، حيث الحياةُ العصرية تُغري العيونَ الشابة بكواكب اللذة، لكنَّ اللذة سرعان ما تنقلب إلى اضطهاد واستبداد يطاردان حياتهم، ومع جحيم المخدرات هناك جحيم ثانٍ وثالث ورابع.. الخطف، الاغتصاب الجنسي، العمل في إنتاج نقود مزيفة، الجريمة. كلُّ هذا تعاني منه مايا بيدال، وقد أحرق اللونَ الأخضر في حياتها. حاجتُها إلى المخدر أو تشردُّها جعل منها عضواً في عصابة (براندون ليمان) الذي يأتمنها على كمية من النقود المزورة العائدة لأخيه، وعلى بلاكات طباعة تلك النقود، وحينما يُقْتَل (ليمان) بيد شريكيه في العصابة يطاردها الشريكان من جهة، وتطاردها الشرطة من جهة ثانية، وهكذا.. يصبح الهربُ خلاصَها، ويلوح لها في جنوب العالم عشٌّ آمن.

سيكولوجية مايا:

هذا جانب هام جداً يجب وضعه تحت الضوء الكاشف، والرواية تهتم كثيراً برصد الأنواء الداخلية لـ(مايا) والحديثِ عن تلك الصخرة غيرِ المنظورة المحمولة على ظهرها بسبب التعاطي والسقوطِ في زنزانة الوحدة والكآبة.

باختصار.. لقد عاشت هذه الصبيَّة كارثةَ الذات المدمَّرة من الخارج والداخل! ذاتٌ يقصفها الآخرون، وتقصفها أخطاؤها.

إرادتها عصفور صغير محاصَر، تحاول أحياناً أن تطفو، لكنها تغرق في الوحل من جديد! قد تتمادى في انحرافها دون شعور بالذنب وهي في حالة من الضياع الكامل! قد تأتيها نجدة صغيرة من هنا أو هناك، غير أنها- مع الأسف- قامت أكثرَ من مرة بتخريب محاولات إنقاذها! وهكذا.. ظلَّ دربُ آلامها متشبثاً بقدميها مدةً طويلة.

ما يلذعُ القلبَ بعد هذا كلِّه أنَّ هذه الشابة ليست حالةً خاصة، وأنَّ مشكلتَها ضوءٌ أحمر ينبض أمام أعيننا ليقول لنا: إنَّ الإنسان في أعلى قمم الحضارة الحديثة ليس سعيداً دائماً، فثمة فيروساتٌ مستحدَثة تخلَّقتْ في داخل حضارته، وبدأتْ تهاجمه بضراوة في نفسه، وجسده، وقرارة روحه.

الجد بوبو:

على خلاف شخصياتٍ كثيرة في الرواية منكوبة أو قاسية أو متورطة تحترف الشر يظهر (بوبو) جد (مايا) بشخصيته الإنسانية الفائقة الحضور والجاذبية والإدهاش.

إنه جدٌّ رائع، فعلى الرغم من انشغالاته العلمية كان ينقلب بجانب حفيدته أيامَ صغرها طفلاً ماكراً يلعب معها لعبة الأسئلة الغبية، تسأله:

  • لماذا المطر يهطل إلى أسفل؟

يجيبها ضاحكاً: كي لا يبلل سروالكِ يا مايا.

  • لماذا الزجاج شفاف يا بوبو؟
  • من أجل بلبلة الذباب يا صغيرة.

حتى ضحكتُه تُشكِّل عالماً خاصاً، فهي (مجلجلة، تولد من أعماق الأرض، وتصعد عبر ساقيه، وتهزه كاملاً)(2)!

و(بوبو) أيضاً عالِمُ فلك من أصول (أفرو أمريكية) يبحث، يحاضر في الجامعة، يعتكف مع تلاميذه وزملائه في مكتبه حتى الصباح! وهاجسه الذي لا يفارق صدره هو العثور على نجم هارب في القبة السماوية. لعل ذلك النجم رمز للحلم الضائع أو للسعادة المفقودة.

ويصل حضور هذا الجد في الرواية إلى مرتبة السِّحر أو الميتافيزيقا عندما نراه في لحظات انهيار مرت فيها الحفيدة الشابة يطلُّ عليها بوجهه المهيب أو صوته العميق يطالبها بحزم أن تصحو، وأن تتغلب حتى على الموت!

الجانب السياسي في الرواية:

كشأن الروايات الهامة العظيمة تجمع هذه الرواية في فضائها أطيافاً شتى: اجتماعية، سياسية، إنسانية، جغرافِيَّة، فلكلورية، ميتافيزيقية، وغيرَ ذلك.

في الجانب السياسي تفتح الرواية نافذةً على الانقلاب العسكري العاصف الذي جرى في تشيلي عام 1973م ضد حكومة سلفادور ألليندي الاشتراكية المنتخَبة. تمَّ الإعداد للانقلاب في مطبخ السياسة الأمريكية، وهاهي سنتياغو العاصمة تنقلب إلى مدينة للتعذيب والوحشية، وكذلك بقية المدن في تلك الدولة!

ومن خلال شخصيتين في الرواية هما:(فيليبه بيدال) و(مانويل آرياس) نستطيع أن نرى مقدارَ التدمير الذي طال جسدَ الإنسان وروحه ومشاعره في ذلك البلد.. حتى إنه حوَّلَه في كثير من الأحيان من اسم في سجلات الأحياء إلى اسم في سجلات الموتى.

تتلخص قصة (فيليبه) في موته على صليب عصري هو سرير التعذيب الكهربائي، لسبب بسيط هو: أنه كان صحفياً نقياً وصاحبَ برنامج تلفزيوني، انحاز بمواقفه إلى الحكومة الاشتراكية. أمَّا مانويل فلم يمت، لكنَّ أهوالَ التعذيب التي اختزنها في ذاكرته ورؤيةَ زملائه الذين ماتوا أمام عينيه، هذا كلُّه جعلَه ينكفئ إلى عزلة يابسة صماء تعثَّرَ في إذابتها حتى الحبُّ الأنثوي الذي جرى قريباً منه!

الرُّوكا.. المكان النسوي المقدَّس:

بؤرةُ إشعاعٍ عذب، لها طعمُ السحر أو طعمُ ألف ليلة وليلة نكتشفها عندما تحدثنا الرواية عن حكاية: (الرُّوكا).

والرُّوكا مكان يلجأ إليه بعضٌ من نساء تشيلَوي من أجل الفضفضة، فتلك البلاد رغم بساطتها إلا أن لها مشاكلها التي تُثقل على الصدور.

المكان قبة دائرية، يتوسطها موقد حطب يخرج منه الدخان، بينما تلاصق الجدار مصطبة تجلس عليها النسوة.

أما الطقوس، فتبدأ بتخفف النسوة من ملابسهن رمز الزيف الدنيوي، يلي ذلك تطهُّرُهنَّ بدخان المريمية العطري، ثم يدخلن إلى القبة، وفيها تقرع إحداهن جرساً صغيراً، يعقبه دقيقتان من الصمت. بعد ذلك تذكر إحدى الحاضرات (الياتشاماما) أي أمنا الأرض التي يجتمعن في أحضانها، وتأتي بعدئذ المرحلة الأهم، وهي البوح، ويتم بتمرير قوقعة بحرية من يد إلى أخرى كي يتكلمن بالتناوب. حين تصل القوقعة إلى إحداهن تسترخي، وتقوم بتفريغ الآلام المحمولة.

واقعية مدهشة:

تتميز الرواية أسلوباً بما يمكن تسميته: (الواقعية المدهشة)، ولعلها على صلة بهذا القدر أو ذاك بواقعية ماركيز السحرية.

لم يعد الكاتب بحاجة إلى أن يجلب الخيالَ للواقع، لكنه محتاجٌ إلى اكتشاف ما في الواقع من غرائبية وإدهاش وخيال، والإدهاش الذي يطالعنا على صفحات هذه الرواية أكثره مؤلم، ومرير، ووحشي أحياناً.

من صوره المؤلمة، وغير المؤلمة يمكننا أن نذكر الآتي:

* مدهشٌ لحد الفظاعة ما جرى لكلّ من مايا ومانويل وفيليبه بيدال!

* مدهشٌ لحد التصفيق إخلاص بلانكا شناك وأبوها، وكذلك قانون العون المتبادَل في تشيلَوي!

* مدهش عالَم السَّـحرة وطيران (ريغوبيرتو) بصدار مصنوع من جلد الموتى!

* مدهشة (مارتا أوتير) والدة مايا في أنانيتها وانكفائها عن ابنتها، حملَتْها وهي طفلة كشيء قذر في خرقة ورمتها لجدَّيها!

* مدهشة جدتها (نيني) في نشاطها وتجددها وتسلطها وسجلات عشقها القديمة.

* مدهش كارميلو في وحشيته الجنسية حتى نحو بناته!.

* مدهش كلب مايا (فاكن) المهجَّن بعرجه ووفائه الجميل، ومدهشة أيضاً أسرة الغزلان في أوريغون التي تظهر صباحاً من خلف الزجاج.

* مدهشة أكثر من الجميع تلك الدولة العظمى التي كانت مسرحاً لقسم من أحداث الرواية، تبدو كأنها ملاك وشيطان اجتمعا في جسد واحد!

والملاحظ أن إيزابيل ألليندي لا تسعى من خلال روايتها إلى إدانة أحد أو بلد، وهي أبداً لا تفكر في أن تجلس على كرسي القاضي، لكنها تتيح لنا أن نرى ما يجري في النهر الكبير.. نهر الحوادث، ولنسجلْ بعد ذلك انطباعاتنا الخاصة.. نبكي أو نصرخ أو نتعجب أو نفكر في إعادة ترتيب الأشياء.

والملاحظ أيضاً أن مصداقية إيزابيل عالية المستوى.. حتى مع ما تكره لا يجرفها الغضب، فنحن نجدها تتحدث بإنصاف عن الأبيض والأسود.. عن عواصف القسوة وزخَّات الرحمة. (لاس فيغاس) مثلاً قسمٌ كبير منها يُشكِّل مدينةَ رعب وانتهاك، تحتله المخدرات وابتذالات الجنس والجريمة، لكنَّ قسماً آخر من المدينة تسير فيه الأمهات بسعادة خلف عربات الأطفال.

أما من الناحية الفنية، فنجد الكاتبة حليفةً للبساطة تُقدِّم من خلالها ما هو عميق، وهام، ومرعب، ومسكوتٌ عنه.

ولها عنايةٌ فائقة بالتفاصيل والحقائق الصغيرة، تجمع بعضَها إلى بعض بمهارة لترسم صورةً كليَّة من فسيفساء الأجزاء.

مكنونات العمق الروائي:

ستصنع هذه الرواية - فيما أعتقد- رجَّةً كبيرةً أو صغيرة  خلف جبين القارئ، وربما فكَّرَ في وضع المنديل على أنفه من الروائح العفنة التي تفوح هنا أو هناك، أو همَّ بستر عينيه من البشاعة الفظيعة، وهو- كما أرى- سيجد نفسه أمام أسئلة عميقة كقيعان الوديان:

  • أهذا ما يقدمه المجتمع الأمريكي أرقى المجتمعات على الكوكب للعائشين فيه؟!

- إذا كانت الحياة العصرية تغدق علينا بيدها اليمنى رخاءً وتقنيات ورفاهية مادية هل يتحتم أن تمدَّ يدها اليسرى لتسلب أمننا الداخلي واستقرارنا الأسري، وترمينا في الصقيع؟

- ماذا نفعل لاسترجاع ذواتنا المفقودة؟ هل تنجح مؤسسات التأهيل العصري في ذلك؟ هل ينفعنا الهرب إلى بساطة الحياة كما في تشيلوي أو غيرها؟

- ما قيمة الحب في كل ما يجري؟ وهل نوافق (مانويل) عندما قال: إنه ليس الأهمَّ والأعظم. الأهم هو وحدةُ كلِّ كائن في أعماقه؟

أخيراً.. هذه الرواية ليست عن مايا بيدال أو مانويل أو بوبو.. ليست عن الولايات المتحدة أو تشيلي فحسب. إنها عن تراجيديا الوجود البشري في الكون.. تراجيديا تتواصل على المسرح الكبير، يختلف الممثلون وطرائقُ التجسيد بين عصر وآخر، لكنَّ الطعم في النهاية واحد.

*

دفتر مايا لـ.. إيزابيل ألليندي 415 صفح دار دال للنشر والتوزيع بدمشق 2012 ترجمة: صالح علماني

هوامش:

1- الرواية- ص 10.

  • الرواية- ص 53. 

* إيزابيل ألليندي، روائية تشيلية، 1942، أهم أعمالها: بيت الأرواح- إيفالونا،

* صالح علماني: مترجم عن الإسبانية، مولود في حمص 1949، ترجم إلى العربية كتباً هامة لماركيز، وماريو بارغاس يوسا، وإيزابيل ألليندي،

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم