د. نادر عبد الخالق

يعتمد السرد في بنائه على فنية التصوير باعتباره ركنًا أساسيًا في تشكيل المعنى وفى رصد العلاقات التعبيرية التي يتشكل منها البناء الفني للعمل السردي، وفى ذلك يقوم المجاز بوظائف عديدة أهمها إحاطة النص وصوره بأنواع متعددة من الخيال ومن الرمز والدلالات التي تفتح الرؤية على أبعاد متعددة من الفكر والعاطفة، في أنماط تتناوب فيها الأفكار وتبدو الصورة من عدة وجوه.
والسرد يعتمد على الوصف والتصوير وبناء العلاقات التعبيرية في نمط متجدد ينتج الأحداث والأنماط ويبتكر الشخوص وينشىء المعاني ويدير الحوار الناتج عنها محددا صلتها بالخارج، ويكون الزمان والمكان وسيلتا النص في تعيين المعيار الفني في هذا التشكيل وتحديد مسيرة النص ورمزيته القريبة، ومن هنا فإن دلالات التصوير هي التشكيل الذى يؤدى هذه الأدوار ويقيم الوظائف داخل البناء السردي، ويطرح الوقائع والمتغيرات التي تنتج عن مخيلة الكاتب وتجربته التي يستعرضها في دلالات التعبير ووقائع النص.
وفى رواية “عين مسحورة” للروائي عبد العزيز دياب نقف على توظيف دقيق لفكرة التوظيف الفني، الذى يؤدى إيحاءً مركبًا من الخيال حيث يعتمد النص في مسيرته على توظيف الصورة المجازية التي تظهر الفكرة النصية محملة بالعديد من الصور الجزئية، التي تعتمد على فنية التركيب لواقعين الأول واقع النص وتصوراته، والثاني الواقع الخارجي الذى يحاكيه النص، ويؤدى ذلك إلى استلهام الأفكار السردية التي تنتج الدلالات والأخيلة وتتيح للتجربة الذاتية أن تستعرض الواقع بطريقة مبتكرة تجمع بين واقعية الفكرة وطرافة التشكيل.
ولا تقتصر وظيفة الصورة المجازية عند الوجه الرمزي الذى يضمر في طياته حقائق سردية استعارية، تعكس الواقع وتشير إلى إشكالياته إنما تقوم بوظائف عديدة وأدوار سردية تتشابك فيها الدلالات، منها وما هو واقعى ظاهر يتشابك مع واقعية النص بطريقة الفنتازيا الساخرة، ومنها ما هو خيالي رمزي يؤدى وظيفة داخلية تتعلق بمسيرة النص والبناء، ومنها ما هو عجائبي أسطوري لا يخلو من النقد الاجتماعي معتمدًا على فكرة التدوير السردي وإحاطة النص بهالة من التعبير الشعبي والنمط النفسي العاطفي، كل ذلك في علاقات تصويرية متعاقبة تتوالى في دورة واحدة لا تغادر فكرة النص الأولى.
وإذا كانت الصورة المجازية معناها التجاوز والتعدي والانطلاق نحو دلالات متعددة تتعلق بصرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح بقرينة، أي أن اللفظ يقصد به غير معناه الحرفي بل معنى له علاقة من علاقات المجاز المعروفة….، فإن ذلك يفتح التأويل على اتجاهات متعددة من الخيال ومن الأشكال التعبيرية التي تسمح بتداخل الأنواع الأدبية، والتحليق في فضاء مركب من القص في عمومه والسرد الذى يعتمد على تجدد الخيال وإنتاج الأركان تباعًا دون توقف حتى النهاية، بطريقة انفعالية تستوعب الحياة ومتناقضاتها دون زيف أو ملل.
والصورة المجازية هي صورة مركبة كما سبق وأشرت وهى تنطلق من فكرة استعمال اللفظ في غير ما وضع له في الأصل استنادًا على المجاز وهو “كل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في الحقيقة” وتكون الصورة المجازية الوصفية ذات دلالة متعلقة بنمط السرد حينما تكون وسيلة الكاتب الروائي، وهو ما يكون إدراكه في بناء القص السردي المصور بصفته معتمدًا على الوصف كنتيجة إدراكية تفرق بين الخيال والواقع.
وفى النص السردي “عين مسحورة” نلاحظ أنه قائم على فكرة التصوير الآلي الذى يصرح بحقيقة الفكرة ويضمر في طياته حقائق أخرى تبدو مضمرة بطريق المجاز لكنها واقعية حقيقية تقيم واقعًا بديلا عن الواقع المعروف، مع الاحتفاظ بعناصر التشويق وعدم الصدام السردي، والتحرر من قيود الصنعة الروائية، واستعارة الفكرة المصورة بديلا عن المواجهة الواقعية القائمة على نقد الواقع والذات، يساعد على ذلك وجود الشكل الفني المركب من القص التصويري القصير، واستخدامه وسيلة فنية منفتحة على تأكيد رواية القص والدخول مباشرة في عالم الرواية، واقتناص الفكرة ومواصلتها في سياق بانورامي، لا يتقيد بأحادية الجنس بقدر ما هو معتمد على خاصية التوظيف الفني الحكائى من منظور القص والروى مع الجنوح إلى مسرحة الفكرة دون اللجوء إلى عملية بناء متكاملة تختص بجنس فنى يمكن الارتكاز عليه.
وهنا تبدو فكرة تدوير الصورة هي الأقرب إلى توظيف المعاني وترجمتها إلى أحداث، فتصبح الفكرة حدثًا وتبدو المعاني فضاءات سردية جاذبة للحقائق التي يبحث عنها القارىء، وقد تحددت الرؤية التعبيرية في النص من خلال آلية التصوير المباشر “الكاميرا” وهى آلية تقوم شكلا على تجسيد دلالات الصورة الواحدة المتعددة الأنماط أو المنشطرة فنيًا وذهنيًا على مشاهد وأوصاف وأفكار دقيقة وعجيبة، وموضوعيًا تقترب من الواقع ومن نقد إشكالياته.
وتعد فكرة “الكاميرا” العين المسحورة هي وسيلة الكاتب في تحطيم الشكل التقليدي المعروف في بناء السرد، حيث سمح له ذلك بعملية تجنيس فنى فتح النص على مصراعيه أمام الفنون الحكائية الأخرى فقد تعددت المشاهد وتنوعت الأفكار والشخوص، وكان ذلك سببًا في تحول المشهد إلى صورة فوتغرافية مجازية، تسير في نمط درامي يطرح الصراع ولا يقف عند حقيقة ثابتة، إلا في الجانب الآخر للمجاز حينما تكون الصورة متعلقة بنقد الواقع وتعول على فكرة الدمج الفني.
ومن منطلق الصورة المجازية التي تعتمد عليها عملية السرد في النص الروائي “عين مسحورة” فإن الرواية تطرح سؤلا عامًا وهو أين تكمن الدلالات الواقعية التي تربط الخارج بالداخل وتنشىء العلاقات بين الصورة الداخلية والصورة الخارجية…؟
يمكن الإجابة على هذا التساؤل من خلال سرد وقائع النص الفنية، وشرح أبعاد الفكرة السردية التي قام عليها التعبير في أنحاء النص، حيث تناول الكاتب الفكرة النقدية الاجتماعية معتمدًا على التأكيد من سخرية الواقع، ومحاولة بناء واقع مختلف يستلهم الحداث الخارجية، وترجمها وقائع نصية تمد الفكرة بدلالات تتحول مباشرة إلى مشاهد درامية، وتناقش الواقع مناقشة سردية واقعية في فضاء ساخر.
وقد تجلى ذلك بداية من العنوان والمفتتح والشكل الفني الذى ورد فيه النص وهو البناء المقطعي المناسب لفكرة التدوير والتصوير، فالعنوان “عين مسحورة” يؤدى وظيفة ازدواجية مركبة من دلالتين: الأولى تعيّن النص من خلال الصورة البصرية، والثانية الدلالة العجائبية السرية التي تنفتح على مجالات من التصوير والتركيب، مما يؤكد أن فكرة التدوير التي اعتمد عليها الكاتب كانت عاملا مهمًا في ترسيخ البعد النفسي الذى يعد فضاءً جانبيًا ينطلق منه السرد ويحلق في أجواء الخرافة تارة، وفى عمق الواقع المهترىء تارة أخرى.
ومن بين التصوير البصرى والسرد العجائبي نلاحظ وجود تأكيدات نصية على وجود الخيال من خلال المفتتح الذى يقر فيه الكاتب على المخادعة يقول “هي ليست عمياء ولا حولاء لكنها مخادعة” وتلك وظيفة أخرى من وظائف التعبير النصي التي انطلق منها الكاتب، تجعل من الخيال اتجاهًا عامًا في مخيلة السرد، وهى تسمح بوجود الغريب والعجيب حيث تبدو في باطن الصورة الحقائق والدلالات الرمزية التي تسير في طريق التأويل الواقعي لتشخيص الأحداث والوقائع، مقابل الفكرة التعبيرية السائدة في النص والتي تواكب الأشخاص وطبيعة الفعل السردي.
وجاء النص في مقاطع تصويرية بلغت ما يقرب من ستين مقطعًا وهى عبارة عن مشاهد مصورة بدقة تتلاحم مع بعضها البعض بعناية فائقة، ولا تقف حجر عثرة في مسيرة النص، رغم وجود العتبات التفسيرية التي تشير في رمزية واضحة إلى محتوى الصورة والمشهد، وقد تصدر كل مشهد تصويري عتبة تمثل نصًا مختصرًا موازيًا للنص السابق أو العتبة السابقة، مما يعنى أننا أمام ظاهرة سردية خاصة لا تقف عند فكرة التصوير والبناء المقطعي، وإنما تفتح التأويل على مقاربات حسية ووجدانية تبعا لعملية التعبير والتصوير.
وفى سياق النص المقطعي جاءت المشاهد مصورة تنتج الشخوص الأفكار وتطرح القضايا، وتقدم الفكرة السياسية بطريقة مبتكرة متجاوبة مع منطق الأحداث، وعرض الدلالات التي تتجسد فيها عمليات البناء زمانيًا ومكانيًا، حيث تتعلق عمليات التطور الداخلي بطرح الأفكار وانتقال الشخوص من صراع إلى صراع جديد.
ولم تكن اللغة العربية بعيدة عن واقعية التصوير وبناء المشاهد التي يدور في فلكها النص بشخوصه وأحداثه المنطقية والعجائبية، ويجب الإشارة هنا في صراحة على البناء اللغوي التي لم تستغرق من الكاتب حيزًا كبيرًا من التفكير بقدر ما هي ملائمة لمنطق الشخوص في واقعيتها وفى خروجها عن المألوف حيث تلاحمت مع الشخوص ومع الفكرة التعبيرية، مما يؤكد أن عملية البناء التشخيصية هي نفسها عملية البناء اللغوي، وأن النص في جملته يتمتع بوحدة فنية وموضوعية دقيقة، تساعد في بناء الفضاء النصي المكتمل الأركان الذى يهتم ببناء الخيال والفكرة والنقد الاجتماعي والسياسي.
وأدى ذلك إلى الاستفادة من فكرة التدوير في الصورة والمشهد وتناوب الفكرة مع من صورة حقيقية إلى طريقة وصفية سردية تنفتح على عدة أساليب مختلفة تساعد في طرح العمل وفى تأكيد خصوصيته واستقلاله الفني، رغم اعتماده الواضح على فكرة القص المباشر وعلى حرفية التعبير المشهدي الذى يعد خصوصية من خصوصيات القصة القصيرة.
ويلاحظ أن عملية البناء النصي جاءت في مراحل وصفية متتابعة حيث اهتم الكاتب في المقاطع العشرة الأولى بعملية التأسيس وعرض الشخوص وطرح الأفكار وتقديم القضايا المنطقية والعجائبية التي مهدت لانحراف الصورة من حقيقتها التعبيرية إلى صفتها المجازية، ويمكن تتبع مراحل التكوين السردي في نصوص التقطيع الأولى لمتابعة ذلك يقول الكاتب في مقطع “قطع مفاجئ”:
البنت البطة البيضاء. المهرة. الفرسة، مع فارس هذا الزمان في مطعم أنيق، أو كازينو تطعمه بيدها، يطعمها بيده، أمامهما مائدة طازجة فواحة بأشهى الطعام والفاكهة والمشروبات الروحية والغير روحية، رواد المكان باركوا بياض جسدها، كتفيها العاريتين، همسوا بياضها فوق كل احتمال، اهمس أنا خلف الكاميرا: حقا بياضها فوق كل احتمال.
يصرخ الفرعون:
جاهزين…..
أكشنننننن……
تركض وراءها عين الكاميرا/عيني، تلمع عين الكاميرا، لترصد بطة بيضاء ترقص بكل ما أوتيت من بياض، لكن المشهد قد اهتز أمامي في عين الكاميرا وحل محله مشهد آخر لتلاميذ مدرسة ابتدائية، الأطفال. العيال. أحباب الله وهم يأكلون وجبة البسكوت الفاخرة، تساقطوا واحدا وراء الآخر من التسمم فيما كانت سارينات الإسعاف تصرخ في الشوارع سعيا لنجدتهم.
اسطب.. تبكى بديعة، تخر دمعا مالحا”
في هذا المقطع يستعرض الكاتب عدة مناظر تكوينية تقوم على التشخيص وسرد دلالات البناء، من خلال تتبع حركة الكاميرا ورصد وقائع اجتماعية وأحداث نقدية في مزيج من الواقعية والتصوير المجازي، وجاءت فكرة التبادل التصويري التي جمعت بين واقعين أحدهما حقيقي والآخر مجازى لتؤكد أن النص يسير في اتجاه العرض البانورامى الذى ينتج الفكرة والشخصية معا ويفند الواقع في صورة درامية ممتدة.
وفى تطور آخر لحركة الصورة في النص يطرح الكاتب شخصية مقرونة بفكرة، وصورة مجازية مقدمة على الحقيقة الواقعية من خلال شخصية معتز، وفكرة الدولة السيارة التي يحلم بها، وقد كان لهذه الشخصية الأثر الكبير في خلق صراع وجودي يحل محل الكاتب وتجربته في طرح الأفكار البديلة، وفى الخروج من واقعية المنطق الاجتماعي إلى آفاق أرحب من الخيال في تحقيق المجتمع الموازي لحركة الحياة السلبية على جميع مستوياتها يقول في مقطع الدولة السيارة:
معتز كان يحلم بالمدرسة السيارة بعد أن نجحت محكمته السيارة، وها هو الحلم قد تحقق، اليوم حفل افتتاحها، ازدحمت حافة النهر بقوات الشرطة تؤمن المكان، تراص أفرادها بطول الحافة بدروعهم وعصيهم المعهودة، يقوم الضباط الأشاوس على رعايتهم وتنظيمهم، ساعات طوال يسدون مداخل ومخارج حافة النهر، حتى جاء السيد المحافظ ووزير التعليم، لمتابعة هذه التجربة الفريدة، المحافظ دعمها بالمال والوزير دعمها بما تمتلكه الوزارة من خبرة، توافدت الجماهير إلى المكان المخصص لها لسماع كلمة المحافظ، وكلمة السيد الوزير، وتمكن الأستاذ معتز المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة أن يلهب الجماهير وكل الحضور بخطبة عصماء، تحدث عن تجربته الفريدة في إنشاء المحكمة السيارة، وكيف أن هذه وتلك قد لبت حاجات الجماهير وقوى الشعب العاملة وغير العاملة، متمنيًا أن يكتمل حلمه في إنشاء المستشفى السيارة، والنادي الرياضي السيار، وقصر الثقافة السيار، والجمعية الزراعية السيارة، والمجلس المحلى السيار، ببساطة هو يحلم بالدولة السيارة، بأن تحل الدولة السيارة مكان الدولة بشكلها الحالي، بأن يتحول العالم كله إلى عالم سيار، فالأرض للجميع، وكنوز الأرض للجميع وخير البحر للجميع، الدولة تملك ما تحت قدميها وترتحل فتمتلك مكانًا آخر، وخيرات أخرى، وقال هذه ليست دعوة للردة إلى العصور القديمة، إنما هي دعوة للتغيير، وقال سمو ما أقول حلم سموه خرافة، سموه ما شئتم، لكن هذا ما أحلم به…
ويستمر النص في عرض مشاهد من الحياة التي يرصدها الكاتب بعين الكاميرا في محاولة لنقد الواقع وسرد أحداثه، فيقول في مقطع لقطة ممزوجة بالدم وهو من المقاطع التصويرية المركبة التي تتفق وطبيعة النص:
أكشننننن
ألصق عينيه بعين الكاميرا وأغمض الأخرى، يا الله لا أرى المشهد أمامي، مشهد لقاء البطل مع حبيبته لكنني أرى مشهدا آخر، مشهد انفجار عنيف، أشلاء أجساد تتناثر في الفضاء، تساقط هنا وهناك، نهيرات الدم على الأسفلت، رجع الصدى لدوى الانفجار، صوت سارينة الإسعاف وصوت سارينة عربة النجدة، عزل موقع الحدث عن منطقة الجمهور المتزاحم عن بعد.
صرخة الفرعون:
اسطبببب….
……………
فيركشششش
…………..
وهو هنا يرصد صورة مجازية تحل محل صورة البطل والبطلة في رمزية تفتح التأويل على عدة احتمالات منها ما يتعلق بالواقع وانتقاله على مرحلة أخرى من التردي، في إشارة إلى الإرهاب ومنها ما هو متعلق بفكرة التصوير وانتقال النص بطريق الصورة البصرية إلى مراحل متعددة من الفكر السردي الواقعي رغم مجازية الصورة.

                            ****************

  • عن موقع المجلة الثقافية الجزائرية 2018

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم