نجيب كيالي

كاتب يجبُ أن نعرفَهُ

حين يتحدث كاتب عنا.. عن عذاباتنا، ويرسمُ دوائرَ حولَ الأيدي التي تحرمنا من السعادة، فيجب أن نعرفَهُ، ونقرأَهُ، ونضعَهُ في حبَّات قلوبنا. إنه عبد العزيز الموسى ابنُ مدينة كفرنبل، المعجونُ بمحبة سوريا، وأمتِهِ كلِّها، والإنسانِ عموماً، وهو المسافرُ خلف الجراح، وجذورِ الوجع، له ثلاثَ عشرةَ رواية، كلٌّ منها تمسك بالقلب، لكنَّ الأضواءَ تحيد عنه، لأنه وعلٌ جبليٌّ نافر يأبى التدجين. من أعماله الروائية: بغل الطاحون- الجُوخي- كاهن دُورا، بنت الشنفراني- مسمار السماء، اخترتُ مما سبق رواية: الجُوخي لأتحدَّث عنها، ومن خلال سطوري تستطيعون أن تكوِّنوا صورةً ولو أوليةً عن هذا الكاتب/الروائي.

 

رواية (الجُوخي)

تسليطُ الضوء على الزمن العربي المنكفئ إلى الوراء

تغوصُ هذه الرواية عميقاً في ثالوث البُنى المركَّبة من الاجتماعي، السياسي، الديني، وتكشفُ توضعاتِ العفن وأصولَهُ وتشعباتِه في قاع الحياة الريفية خلال أربعينيات القرن العشرين. لقد تراكمت الأكاذيب في قرية (المَغَارة) حتَّى غاصَ فيها الفلاحون إلى رُكبهم وآذانهم! ولم يكن البك قادراً وحدَهُ على تحويل سكان القرية إلى قطيع مسلوب لولا مساعدوه الذين وضعوا أنفسَهم في الجاهزيَّة الكاملة لخدمة مآربه رغم أنهم مطَّلعون على قذاراته، لكنه كان دائماً يُحلِّي أضراسَهم، ويغدقُ عليهم، فالمصلحة متبادلة.

الإسقاط الروائي:

على الرغم من أنَّ الكاتب يركب حافلةَ التاريخ، ويمضي إلى مرحلة الإقطاع، لكنَّ همَّهُ الأول- على مايبدو- ليس إنتاجَ روايةٍ تاريخية، وإنما يسعى إلى استخدام مرايا التاريخ ليرينا أجزاءً من الراهن العربي الذي بات ينكفئ إلى الوراء، ويغرقُ من جديد في الوهم، والغيبوبة، والاستلاب!

ويستفيد عبد العزيز الموسى من خبرته الروائية لتحقيق هذا الهدف، ويبدو ساعياً إلى تطويرها، فهذه الرواية هي الخامسة في إنتاجه بعد (عائلة الحاج مبارك) 1996، (بغل الطاحون) 1998، (الغراب الأعصم) 1999، (جب الرمان) 2000 .

حكاية الجُوخي:

هو أحد الأولياء المزعومين، له في نفوس الفلاحين مكانة خاصة، ولكي يبرز الكاتب أهميته في مجريات الواقع الروائي أطلق اسمَهُ أولاً على الرواية، وجعل مقرَّهُ ثانياً في أسفل المنحدر البركاني الذي يقوم في أعلاه قصر البك المتحكم بما يحيط به من بساتين وحواكير قرية المغارة – مكان الأحداث- أي أنه استعمل الجغرافيا استعمالاً رمزياً ليقول: إن الجُوخي- بالحالة التي يمثلها- قاعدةٌ وأصل لما فوقه ولما حوله.

ومن الإشارات الدالَّة وجودُ عدد من أشجار البلوط أمامَ المزار، وكأنَّ هذه الفصيلة من الشجر المتصفةَ بالرسوخ تُومئ إلى رسوخ حالة الجوخي، واستمرارِها في الواقع العربي.

البُنية السرديَّة:

اعتمد الموسى بنيةً سردية ليست منقطعةَ الصلة مع تقاليد السرد العربي، وليست متقوقعة في داخلها أيضاً، لكنها تسعى للتطوير المتزن أو لتحقيق خصوصية الأسلوب بعيداً عن ركوب رياح الصَّرعات والتقليعات. إنَّ سردَهُ يعتمد الجملةَ الطويلة غالباً، وهو سردٌ متماسك بروابط معنوية، متواصلُ الهوية عبرَ الفصول كلِّها، قد تتنوع سطوحه كتنوع التضاريس في البيئة الجغرافية، لكنه ينتمي في النهاية إلى أرض واحدة، وقد يلتفُّ مع مسارب الأزمنة، لكنه يبقى متحركاً بثقة كنهر يعرف مجراه، ومن الملاحظ أنَّ لغته قد تلجأ إلى الاستعارة والمجاز، لكنها ليست منشغلة بنفسها.. يقول واصفاً تعامل البك مع الفلاحين:))كومةَ إنتاجٍ متحركة يعتبرهم البك، وحشاً حيوياً عملاقاً يحلب في قِدره، آلةً كبيرةً تتنفس بأذرع لا تحصى تدر عليه الفوائد((.

المصداقيَّة الروائية والرغبة في الهجاء:

تنتمي هذه الرواية بوضوح إلى الخط الواقعي الذي يقوم على نقل الواقع بحالاته، وشخصياته، وتفاصيله نقلاً موضوعياً حتى إنَّ الكاتب مطالَبٌ بأن يكون منصفاً مع ما يكره.. يبرز لنا مبرراتِ الفاسدين، والظالمين، وأعداءِ الإنسانية، وأول ما نلاحظه أنَّ عبد العزيز الموسى يجرح حياديتَهُ بشكل مبكِّر عندما يصف في أول الرواية وظائفَ الجوخي التي استقرت في قرية المغارة، فيلجأ إلى السخرية، والسخرية- كما هو معروف- تتضمن موقفاً:((وليُّ الله الجوخي متعدد المهام والاختصاصات، فهو للبشر، وللبهائم، وللربو، والحبل، ووجع الظهر، والأبو صفار)).

ويترك السخريةَ إلى التحليل، ولكنَّ تحليلَهُ يتجه إلى المصبِّ السابق ذاتِه، أعني اللاحيادية ((الناس بطبعهم ميالون لتضخيم كراماته، مؤملون في سرهم أنه بديلٌ جاهز يقظ يضفي القداسةَ على عجزهم)).

لكنَّ الخط البياني للمصداقية يرتفع سريعاً من خلال ما يلي:

1- تصوير الخديعة التي تمدُّ جسدَها الأخطبوطي فوقَ المغارة كلها.. حتى إنها تسللتْ إلى عيون الناس وحواسِهم، فهم يُصدِّقون كلَّ ما يُقدَّم لهم– عبر البك وجوقته- من أوصاف جاهزة لما يجري في القرية، ويُكذِّبون أنفسَهم دفاعاً عن حياة لم يعد بينها وبين الهوان أيُّ فرق! من أكبر الخُدَع التي بلعها الناس في المغارة أنَّ (رحمو) استشهد في موقعة الجرن بين فلاحي المغارة وبدو الحجيرات، ونُسبتْ إليه مراجلُ ومواجهات استغربها سكان القرية وحتى أهله العارفون بطبيعته الضعيفة، ثمَّ صدَّقوها، والحقيقة أنَّ رحمو قضى بيد (شعبو) النهم جنسياً الذي تربطه بأخته الهنديَّة علاقةٌ جسدية، فكان التخلصُ منه مفيداً من هذه الناحية، وهو أكثر فائدةً للبك الذي دبَّرَ الحادثة، ثمَّ استغلها استغلالاً ذكياً ليفوز بحقل الجرن المتنازع عليه، فلم يكن الطابو غيرَ دم رحمو!

2-الدخول عميقاً في وصف البيئة حاملةِ الحدث الروائي وصفاً أساسُه المعرفة التفصيليَّة والتماهي بالمواقف والشخصيات ((أمُّون تعاين من مكانها سخلاتِ أم سرحان، حقلَ الفول، دجاجاتِ عيوش العائدة من الزرع، نشيشَ الرطوبة كبقع البرص الواضح على الجدران الطينية المتقشرة… دوربَ المغارة المعجوقة بأظلاف الماعز وحوافرِ الخيول والأبقار العائدة من مراعيها)).

3- تقديم القسم الأكبر من شخصيات الرواية مُحلَّلة تنطوي دواخلها على أبعاد كثيرة.. أي أنها شخصيات حيَّة تنتمي إلى الوسط الذي نبتت فيه، وليست مجرد أفكار: شخصية البك، أمُّون الحمدو، عصمان، الشيخ علي، رياض، مراد، حسان، أبو دهام، حميد السطام، وسواهم.

4- قصص جانبية تتمتع برصيدٍ عالٍ من الصدق والواقعيَّة تفرَّعت من نهر الحدث الرئيسي، وظلت مرتبطة به، متفاعلة معه في الوقت نفسه، وفضلاً عن مسألة المصداقية، فقد أغنت هذه القصص السياقَ الروائي بالامتدادات الحيويَّة كقصة شعبو والهندية، والإشارة السريعة إلى قصة رياض وزوجته حيث قامت بالتواطؤ مع أهلها، فاستولت على عقاراته بعد أن تراجع عزمه الجنسي معها، فغدت ماركسياتُ رياض تتغذى بحقده العاجز.

من الجوانب السابقة وغيرها تنسج (الجُوخي) عالماً روائياً حقيقياً يعطيه عبد العزيز الموسى نكهته الخاصة، ورغم أنَّ الرواية تضع أرجلَها على أرض الواقع الصلبة، إلاَّ أنها وهي توغل في هذا الواقع تجعلنا نكتشف غرائبيتَهُ، وما فيه من فظائع واستبداد، وخداع، يقابلها من جانب الناس سكوتٌ، وخضوعٌ، ورضى، ومشاركة في التبرير أيضاً، ولعل هذا ما يرفع درجةَ الغضب عند الموسى، فيجعله ينحرف عن مهمته أحياناً إلى الهجاء أو التعرية الحادة التي قد تخرج عن حدود الموقف، ولكي أكونَ أنا أيضاً حيادياً نحو هذه المسألة التي أعالجها أرى أن من واجبي بعد أن حددتُ أهمَّ جوانب المصداقية في الرواية أن أحدد بالمقابل أبرزَ النقاط التي اهتزت عندها هذه المصداقية تبعاً لاهتزاز حيادية الكاتب، فليس تورطه في السخرية من الجُوخي هو النقطة الوحيدة في هذا الأمر:

1- قام الكاتب بإنطاق البك بسذاجة أحياناً ليفضح كلَّ ما في نفسه من قذارة، وكأنه يسعى إلى الهزء به بعد أن انتصر على زعماء الحجيرات، ونال بمساعدة الشيخ علي منزلة الصالحين.. أي أنه صار امتداداً حياً للجُوخي الميت، فها هو يقول لوكيل حساباته: ((هل تراني جوَّعتُ الناس ياعصمان؟ هل أخفتهم؟ … الخوف والجوع جناحا الاستمرار يا عصمان، ليس ثمَّةَ شيخ للمغارة لولاهما)).

ويتوغل في الاعتراف غيرِ المبرر: ((لماذا لا نتعلَّم من الجوخي يا عصمان، الجوخي يقتل أولادَ الفلاحين، وينحرون له الديكة لاسترضائه وكف بلائه ويقدسونه، يخافون منه فيقدِّسونه)). أظن، بل أنا أقرب إلى الاعتقاد أنَّ الأصدق واقعياً وروائياً ألا يعترف البك إلا لنفسه بما سبق، إنه ومن يرمز إليهم من المتسلطين لا يتعرَّون تماماً حتى أمام أقرب مساعديهم، بل لا بد أن يستعملوا ستارةً ما وإنْ كانت قليلةَ الجدوى، وغيرَ مقنعة للطرف الآخر.

2- بدا البك على امتداد أحداثِ الرواية، وكأنه لاعبٌ وحيد يضع في يده كلَّ الأوراق الرابحة. صحيح أنَّ نزاعاً وقعَ بينه وبين بدو الحجيرات، ولكنَّ البدو ليسوا خصومَهُ الحقيقيين في تلك المرحلة، وصحيحٌ أنه كان يختلفُ مع مراد، ورياض أثناءَ مجالسهم في حماة، ولكنه مجرد اختلاف فكري أشبه باختلافات المثقفين ومماحكاتهم، غير أنه عندما يُطبِّق ألاعيبَهُ على الواقع يكاد لا يجد من يصدُّه، مع أنَّ الفترة التي تتحدث عنها الرواية كانت حبلى بالمتغيِّرات التي قلبت الواقع بعد مدة وجيزة رأساً على عقب، كان من الممكن الإشارةُ من خلالها إلى القادم المتأهب أو شبه المتأهب، ومن خلال الآلية الرمزية نرى في حاضرنا  المرموزِ إليه إشاراتٍ لا إلى العفن فقط، وإنما إلى المتغيِّرات النابتة في تلافيف الغيب، أو تربةِ الضمائر والعقول.

3- لم يكن في صالح الصدق الروائي أيضاً أنَّ البك لم يتردد قط نحو ما يقوم به رغم أنه تعلَّمَ في فرنسا، وهو قارئٌ للكتب، وجليسٌ للمثقفين، وعاشقٌ لجيزيل، وهكذا فإن شخصيته المركَّبة تضمحل عند تصريفه لأمور المَغَارة  لتبدو ذاتَ بُعْدٍ واحد وحيد هو: التسلط.

إنَّ ما ورَّط الكاتبَ بالانزلاق إلى المطبَّين السابقين- كما أظن- رغبتُه في هجاء الناس بالسلبية المطلقة، والبك بالظلم الفادح، وبخاصة أنه يستعمل الرواية- كما ذكرتُ سابقاً- استعمالاً رمزياً للحديث عن الراهن العربي.

أخيراً.. إنَّ النقاط السابقة لا تتعدَّى كونَها رأياً خاصاً قد يصيب، وقد يخطئ، ولعله يفتح بابَ الحوار حول هذه الرواية التي تتصدَّى من خلال الرمز لقضية ساخنة في الحاضر العربي هي دورانُ زمنه إلى الوراء في عصر بات كلُّ شيء فيه ينطلقُ إلى الأمام بسرعة الضوء.

  • رواية الجُوخي 127 صفحة. صادرة عن دار الشموس بدمشق عام 2002

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم