زياد الأحمد

في مدينة ما على سطح هذا الكوكبِ؛ لا يُحدِّدُ مكانَها أو هويتَها إلا أسماءٌ أوربيةٌ وديانةٌ مسيحية لسكانها؛ تدور أحداثُ روايةِ آلاء فاعور الصادرة حديثا /2019/ عن دار نون4. وخلال عدة الأيام التي تسبِقُ عيدَ رأسِ الّسنة.

الحكاية:

فجأةً يجدُ الشاب الجامعيّ "أليكس" والمنتمي إلى أسرة ثريّةٍ نفسَه مقبوضاً عليه بتهمة سرقةِ صندوقِ تبرّعات المرضى، وهو يصرُخ:

  • لست أنا، أنا لست الفاعل صدقوني أرجوكم.

 يصرخ مندهشاً، رغم مشاهدته لنفسه في الكاميرات متلبساً بالجرم المشهود.

وفي الوقت ذاتِه يقوم عجوزٌ وقورٌ باختطاف حافلةٍ لتلاميذ مدرسة، ويقودها بجنون كاد يودي به وبهم، ورغم أنّهم قبضوا عليه في الحافلة يعلنُ أنه ليس الفاعلَ ...

وفي مكانٍ آخرَ نجدُ "زاك"؛ موظفَ البنكِ يحصُلُ على ترقيةً في عمله؛ نتيجة إخلاصه، ويحتفل مع زوجته طبيبةِ الأعصابِ "هانا" بهذه المناسبة، وهما يخططان لبناء أسرتهم وتربية أولادهم تربيةً مثاليةً، كما احتفل به زملاؤه في العمل وكرّموه، لكننا في اليوم التالي نُفاجَأ به يهجم على سائق سيارة البنك، يرميه أرضاً ويخّلصه السيارة ويهربُ بأموال البنك التي فيها، وحين تحاصره سياراتُ الشَرِطةِ نسمعه يصرخ:

  •  ساعدوني أرجوكم! هناك شيء ما يتحكم بي، لا أعلم أين أنا، لا أعلم ما الذي أوصلني إلى هنا؟ ص 52

وفي كنيسة المدينة نجد العروسين "هايلي" و"لوكس" وقد وقفا أخيراً لعقد قرانهما بعد سنينَ طويلةٍ من الحبّ، تجاوزوا خلالها صعوباتٍ وتحدياتٍ، وبذلوا كلّ ما أوتوا من عزم؛ ليكونوا تحت سقف واحد، وفي اللحظة التي حلُموا بها طوال سنين نفاجأ بـ "لوكس" يصيح في وجه الكاهن:

  • هذا يكفي أنا لا أستطيع أيها الكاهن، أنا لا أريد إتمام مراسم الزفاف هذه ص91، وينسلّ مغادراً الكنيسة.

ولم يكن هذا الجنونُ قد نزل بالبشر فحسب؛ فالعجوز "باتريشيا" تعلن عجزها عن مقاومة الأعشاب الضارة التي بدأت تتكاثر في حديقة منزلها بشكل غير مسبوق وحتى كلب العائلة "روكي" رفض بعناد غير مسبوق الدخول إلى تلك الحديقة مع صاحبته وكأن شيطاناً غير مرئي يتراءى له بين أعشابها.

المحقق في الجرائم السابقة "بترسون" وهو شقيق العروس "هايلي" أيقظته صدمة أخته في الكنيسة؛ ليعيد تقليب أقوال الذين حقق معهم في الجرائم السابقة، فجميعهم ينكرون ما فعلوه، ويمرون بحالة هستيريا حين يُلقى القبضُ عليهم، وكأن المجرم شخصٌ آخرُ غيرهم، وخاصة بعد أن رأى تصرف "لوكس" وكأن الذي صرخ وخرج من قرب العروس شخص آخر وليس حبيبَ أخته، وقد كان موقناً "أن "لوكس" و"هايلي" تجسيدٌ دقيقٌ لمعنى أن يذوب اثنان في واحد؛ فيكوّنا شخصاً واحداً، فيقرر في ذاته البحثَ عن الحقيقة الكامنة في تلك الأحداث، وفي الوقت نفسه تنضم إليه طبيبة الأعصاب "هانا" التي تسعى لتبرئة زوجها "زاك" وهي موقنة من براءته. ومن قبلهما كانت موظفة الأرصاد الجوية "أنابيل" قد لاحظت أن المدينة بجوّها ونباتاتها وحيواناتها تمرّ بحالة غير طبيعية، وخاصة بعد اشترت لولدها بوصلةً، واكتشفت أنها لا تتعامل مع الجاذبية والجهات بشكل صحيح دائماً.

يتفق الثلاثةُ على التطوّع للوصول إلى الحقيقة؛ الطبيبةُ من خلال مرضاها من الأطفال والذين تكاثر عددُ المصابين منهم بحالات تشبه التوحّد، وموظفة الأرصاد من خلال أجهزتها العلمية، والمحقق في قسم الأمن من خلال أقوال مَنْ حقق معهم. ويصلون إلى حقيقة خلاصتها: إن هؤلاء الأشخاص ينفصمون عن ذواتهم، ويتحولون إلى شخص آخر، لا يمت إلى الأوّل بِصِلة، ويستنتجون أن هناك طاقةً تنبعث من مكان ما، وتؤثر على بعض الأشخاص مدّةَ تعرضهم لها، ومركزها قد يكون البناء 35 الذي يتوسط المدينة، وآلية عملها تكمن في أنها تؤثر على كيمياء دماغ الإنسان والحيوان، وهذه الطاقة إذا تمت معرفةُ ماهيّتها ستؤدي إلى قفزات حضارية بالبلاد؛ بدل أن تكون وبالاً عليها.

ولكنّ ثلاثَ جهاتٍ تقف في وجه المتطوعين لكشف تلك الحقيقة؛ مركز الأمنِ وبنك المدينة، ومؤسسة الأرصاد، ويساندهم التلفاز المحليُّ، فجميعُهم نسبوا محرك الجريمة إلى الشرّ الكامنِ في مرتكبيها، والتلفاز نسبها إلى كائنات فضائية ترسل شيفراتها إلى الأرض حيناً، وحيناً آخر نُسِبت إلى أرواح شريرة، وبمعنى آخر راحوا يبحثون عن مكمن الداء بعيدا عن الجسد المصاب؛ وهو جسد المدينة، ويُهزَم فريقُ الباحثين عن الحقيقة أمام خصومهم الذين سفهوا آراءهم، وهددوهم بالطرد من وظائفهم إن لم يُقلعوا عن ترهاتهم كما نعتوها.

 وفي الصفحة الأخيرة نقرأ أنّ التلفزيون المحليّ كان يبثّ مقابلة مباشرة عن تلك الأحداث مع شخص يقوم بتعليلها قائلاً: أنا على يقين بأن هناك كائنات أخرى أكثرَ عقلانيةً منا هبطت إلينا منذ آلاف السنين من كواكبَ بعيدةٍ، وتعيش معنا منذ ذلك الحين، وإن هذه الكائنات قد ضاقت ذرعاً بنا، إنهم أصحابُ رسالة سماويّة ويوجهون رسائلهم إلينا؛ ليحذرونا، وإن لم نستمع إليهم سيصيبنا بسببهم الجنونُ .. حينها تقاطع "أنابيل" موظفة الأرصاد المتحدثَ مُتهّمةً إياه بتشويه العقول، وبأنه مأجورٌ لقول هذا الكلام، وتصرخ أمام الكاميرا " هناك حقيقة واحدة مؤكَّدة لما يجري هنا، وكلُّ ما ينقُصها هو التفسير العلمي" ص 156 وليس الخرافات والسخافات.

الرؤيا السردية:

 تنصب رؤيا الرواية كما استقرأتها على خمس نقاط:

  1. الداء الكامن في أيّ مجتمع يجب البحث عنه في أعماق ذلك المجتمع، وليس خارجَه فبلاء المدينة كان ينبع من مركزها؛ من بناء /35/ الذي توسط المدينة ومن الخطأ أن نبحث عنه خارجها أو في السماء.
  2. في البحث عن الداء علينا ألا نأخذَ بظواهر الأمور، حتى لو صورتها لنا الكاميراتُ، فهي تصور اللصّ من الخارج فحسب، ولا تصور دوافعَه الداخلية،
  3. المسؤولون عن أي وضع قائم هم الذين يقاومون أيّ كشف لتردّيه حرصاً على استمرار وجودهم ومصالحهم، فأصحاب البنك كانوا حريصين على إثبات التهمة للسارق حرصاً على سمعة البنك، ودائرة الأرصاد لا تريد أي تشويش يصدر عنها نحو أفكار الناس، ومدير دائرة الأمن حريص على أن يُظهر للناس أنه قد أمسك بالمجرمين الحقيقيين.
  4. حالة الترف والاسترخاء التي يعيشها المجتمع الأوربي ربما هي التي دفعته إلى الخروج على تلك الرتابة؛ فتحرك في داخله ذاك الإنسانُ الذي يتوق إلى التمرد والعبث؛ فثار الإنسان السجينُ في داخل ذاك الثري ليسرق مبلغاً بسيطاً من صندوق تبرعات مشفى، وثار الإنسان الكامن في الموظف الأمين في بنك ليسرق أمواله، حتى الحديقةُ التي ملّت رتابتها فبدأت بفوران أعشاب ضارة لا يمكن مواجهتها.  
  5. تعلن تلك الرؤيا في النهاية أيمانَها بالعلم كوسيلة حتمية للخلاص، وليس في نسبتها إلى كائنات خارقة أو روحية.

البنية الفنية:

صنفت الكاتبة عملها تحت اسم "بناء 35" والجميل هنا التنكير في كلمة بناء الذي كان ملائما لصفته في الرواية؛ إذ كان محاطاً بالغموض، ويتوقع أن يحتوي على السر الخطير الذي يفسر كل ما حدث في المدينة. ولكن المشكلة في تصنيف هذا العمل تحت اسم "رواية"

 فالرواية وإن كانت اليومَ هي الفنُّ الأقدرُ على استيعاب كافة الفنون النثرية من قصة ومسرح ومقالة وشعر وحتى المقولاتِ الفكريّة؛ ولكن لكلّ فنّ من هذه الفنون خاصيّتُه التي إذا ما طغت على فن الرواية أخرجتها من تحت تصنيفها أو أضعفت من جمال استقلال فنيتها، وحينها يبدو العمل هجيناً غير واضح الانتماء لفنّ نثري محدد، وهذا ما وقعت فيه هذه الرواية.

فما سمته الكاتبة "رواية" هو أقرب إلى المسرحية أو السيناريو وذلك لطغيان الحوار على السرد والوصف، فالحوار هو متن النص بأكمله ومهمة الراوي المحدود المعرفة والذي يروي من وراء الشخصيات كانت أن ينقل لنا حواراتهم، أما مهمته في السرد والوصف كانت مختصرة ومنحصرة بين أقواس، حيث انحصرت في الإشارة إلى صاحب الصوت، أو المكان، أو مشاعر الشخصية وحركاتها وانفعالاتها وليس أكثر. وكأن الراوي يتخيل أمامه متلقياً أعمى وعليه تحويل روايته إلى أصوات مشروحة. ولنتأمل المقطع التالي ومن بدايته:

  • إنها السادسة والنصف (صوت بترسون ناظراً إلى ساعته المعلقة على جدار مكتبه) حسنا لديّ الوقت لأعدّ كوباً من القهوة قبل أن أباشر العمل
  • صباح الخير جون (بيترسون متجهاً إلى آلة تحضير القهوة) يبدو أنك جئت مبكراً
  • صباح الخير سيد بترسون (يجيب جون) في الواقع كنت في مناوبة ليلية أمس. ص 122

فالسرد والوصف هنا منحصر بين الأقواس وعلى هامش الحوار، كما نقرأ الكثير من الحشو وخاصة في الحوار على امتداد الرواية، ومنه قوله في المقطع السابق (يجيب جون) ومن الذي سيجيب غير جون وهما وحيدان في الغرفة.

اما بالنسبة لتوافق المستوى اللغوي للحوار مع الشخصيات فقد جاءت لغته على سويّة واحدة فلغة الطفل لا تختلف عن لغة أبيه أو لغة الطبيب أو رجل الأمن.

وعلى صعيد سلامة اللغة فقد وقعت الكاتبة في الكثير من الأخطاء التعبيرية والنحوية والإملائية، فمن التعبيرية قولها في وصف اقتراب عيد الميلاد " أحلام كثيرة تغزو سماء المدينة مع اقتراب نهاية سنة جديدة" ص7، فجمعت بين جدّة السنة ونهايتها، والأصح أن تقول مع اقتراب بداية سنة جديدة، واستعمالها في أكثرَ من موضع كلمة "سوية" بمعنى "معاً" كما في قولها و"لنقض وقتاً ممتعاً سوية" ص 88 ومن الأخطاء النحوية قولها "لقد قال بأن لديه عمل مهم" ص85، فنجد ثلاثة أخطاء في جملة واحدة؛ عدم نصب اسم إن وصفته وزيادة الباء في غير موضعها غيرت معنى الفعل قال، والصواب "لقد قال إن لديه عملاً مهماً" ومنها إدخال حرف الجر على حرف العطف في قولها "من ثُم لا شان للعمر في هذا" ص15 أو عدم إدخال الباء على المتروك مما قلب المعنى في قولها "لن أطلب أن يستبدلك بأب آخر" وهي تريد: لن أطلب أن يستبدل بك أبا آخر ص 14  أو تعدية أفعالٍ بحروف جرٍ لا تتعدّى بها كقولها "انطلقت في سيارتها" هي تريد انطلقت بسيارتها لأنها هي التي كانت تقود السيارة والباء تفيد الاستعانة أو "ما عرفتك على نفسي" بدل إلى نفسي أو بنفسي، ومن الأخطاء الإملائية كتابتها "كي لا" موصولة "كيلا" والصواب فصلها.

خاتمة: على الرغم مما سبق لا بدّ من القول إن هذا العمل تميّز بحبكة حكائية شائقة استطاعت الإمساك بالقارئ والمضي به لمتابعة الأحداث، وقدمت رؤيا لها خصوصيُتها للمجتمع الإنساني الذي يجب عليه أن يتعافى بالعلم من أمراضه وأنظمته المهترئة. ولكنها لم توفق في اختيار الشكل الفني الذي يؤطر هذا العمل الذي جاء قلِقَ الشكل يتأرجح ما بين المسرحية والسيناريو والرواية.  

                              ******************  

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم