زياد الأحمد

روايةٌ مُحَجّبةُ السحر، مغويةٌ مشاكسةٌ لعوب، لا تأبه بعابري السطور، لكنها تأخذ بعيني من يحاول اختراق حجابها لتدخلَه عالماً تخييلياً مُقنعاً خلف قِناعها، ينطوي على آفاق من الرؤى التي تتغلغل في مجاهل النفس الإنسانية، وقيودها الميثولوجية، ونزعتها إلى الانعتاق من كل ما هو مُؤطِّر لفطرتها الحرّة.

العتبات النصية:

 تبدأ الرواية إغواءَها بعتبتين نصيّتين مُغريتين بالدخول، إغراءَ أبواب تلك البيوت الدمشقيةِ اليهودية التي تمر عليها الرواية، مرتمية وراء أقفال أبوابها الصدئة، مغلقة على أسرار تلهب الخيال وتدفعه لاقتحامها.

أولاهما العنوان: (يوميات يهودي من دمشق) وقد كتب في سطر واحد، ليوحي بأنه تركيب إضافي، ومع عدم الضبط بالشكل لكلمة (يهودي) يمكن تفكيك العنوان إلى اثنين، عنوان رئيس ( يوميات)  وهو يعتمد الحذف المضموني، وعلى النص ان يتكفل بالإجابة عن صاحبها، وعنوان فرعي يعتمد الجملة الاسمية ( يهودي من دمشق) ومن خلال اعتماد الخبر (شبه الجملة) حرفَ الجر (مِن) يُفهم انتماؤه اصلاً لدمشق، بخلاف إيحاء حرف الجر (في) الذي استعمله المازني في (يوميات نائب في الأرياف) فهذا اليهودي هو أصلاً من دمشق، وليس كذاك النائب الذي كان عابراً في الأرياف عند المازني.  

أما لفظة (يوميات) فتحيلنا إلى التساؤل حول دلالتين لكلمة (يوم) من خلال إسنادها إلى ياء النسبة؛ فاليوميّ قد يدل على تفاصيل المعيش اليومي لتك الشخصية، أو مذكرات كتبت بشكل يومي.

وتأتي العتبة الثانية التي لا تزيد الأسئلة السابقة إلا إغراء أكثر بدخول النص، وقد نصت على:

"هذه الرواية تستند إلى أحداث وشخصيات حقيقية، بعض الأسماء تم تغييرها لضرورات تتعلق بسلامة أصحابها، كتبت هذه الصفحات في كل من دمشق وحلب وسياتل ونيويورك"

وهنا نلاحظ أن الكاتب سواء أكان الروائي أم الراوي يُنمّط عمله تحت نوع (رواية) وليس يوميات أو مذكرات أو سيرة، وهذا يدخلها في احتمال الرواية المكتوبة بطريقة اليوميات ولكن قوله: تستند إلى أحداث وشخصيات يجعل من الراوي كاتباً أو مدوناً لها وليس من الروائي، لأن الروائي الذي يكتب يوميات غيره يستند إلى وثائقه ومخطوطاته وليس إلى أحداث وشخصيات، وفي قوله كتبت في دمشق وحلب و.. يرجح لنا أن هناك مَن دوّن هذه اليوميات غير اليهودي وفي دمشق وغيرها.

ولكنّ العتبة النهائية وبعد آخر سطر فيما سمي رواية تقول:

"لم تنته اليوميات، ولكن تدوينها النهائي يكتمل الآن في مكان آخر".

وهنا نقرأ تأكيداً على تسميتها يوميات، وأن لها أكثر من تدوين بدلالة أن تدوينها النهائي (وليس نهاية تدوينها) لم يكن مكتملاً وإنه يكتمل الآن في مكان آخر، وهذا يوحي باحتمال أن ذاك التدوين كتبه راوٍ ما، ويقوم راو آخر قد يكون الروائي ذاته بتدوينه النهائي.

كل العتبات السابقة مُرتبكة ومُربِكة، وجميعُ ما طرحته من إيحاءات وأسئلة تقترب من همس وعود مغرية، وعلى النصّ أن يفي بالإجابة عنها.

وفي النص سنقرأ حكايا مُقتطفةً باختيار دقيق من حيوات ثلاث شخصيات رئيسة؛ الأول: إخاد اليهودي الدمشقي الأصل، ويسكن بيتاً في حارة اليهود يعود تاريخه إلى خمسة آلاف عام، وهو متمسك بالعيش في دمشق التي يراها لا تقل قدسية عن أرض الميعاد فلسطين التي كان أبوه يحلم بالهجرة إليها، يشاركه العيش أختاه العانستان راحيل التي تنتظر حبيبها المسيحي الذي ذهب إلى حرب حزيران 67 ولم يعد، والأخرى زينب التي كانت تحلم بالهجرة إلى فلسطين لتتزوج هناك، ولكن بموت الأب توقف مشروع أحلام الهجرة...

 والثاني: هو إبراهيم الكاتب والشاعر والمهتم بالسينما، وكتابة الريبورتاجات عن دمشق القديمة، ولهذا يفاجئه إخاد في المقهى؛ ليروي له أسرار بيتهم في حارة اليهود. والثالث: هو محمد شوق أبو المحجن، وهو زميل إبراهيم وصديقه منذ أيام الدراسة وكان حلمه أن يصبح إماماً لمسجد صغير ولكن الثروة التي ورثها من حميه والد زوجته حولته إلى داعية ومتطرف كبير، له مريدوه، يطوف البلاد داعياً إلى الجهاد حتى طلبت قوات التحالف في العراق رأسه بتهمة التمويل والتحريض على الإرهاب فراح يتنكر وراء تحولات شخصية وفكرية بمساعده صديقه إبراهيم. 

تداخلات الرواة والروائي: يتناوب الروايةَ في النصّ ظاهرياً الشخصياتُ الثلاثُ السابقة، وبضمير الأنا، لكن الراوي الحقيقي واحد فقط، هو إبراهيم والشخصيات الأخرى تروي له وليس للقارئ، وهو بدوره ينقل إلينا تلك المرويات، ومثال ذلك: يبدأ الرواية إخاد بقوله:

 "لم تكن تلك الأرض تعني لي الكثير لكنهم يتحدثون عنها في البيت وفي مكان الصلاة و.."  ونكتشف في نهاية حديثه أنه يخاطب إبراهيم بقوله: لا أعرف لماذا أحدثك عن أمور كهذه ... ص 10

 وكذلك محمد شوق يبدأ مقطعاً بقوله: بعد ستة أشهر ينتقل عمي إلى جوار ربه وترث ابنته عدة ملايين، وهي ما تزال بعد في الشهر الخامس من الحمل... ثم نكتشف أنه يحدث إبراهيم الذي يسأله " يعني ورثت أنت" 

شخصيات إبراهيم:

سنلمح تحت هذا الاسم ثلاثَ شخصيات تتماهى الخطوط الفاصلة بينها أحياناً إلى حد التمازج؛ أولها إبراهيم الجبين الذي ثُبّتَ اسمُه على الغلاف، وهو مبدع الرواية؛ خالقُ شخصياتها وأحداثها ومقرّرُ مصائرها. ويتقاطع مع إبراهيمَ ثانٍ داخلها، يصرح أنه مبدع الرواية أيضا، أي أنّ هناك روائيان الأول واقعي حقيقي موجود خارج الرواية، والآخر ورقي تخييلي موجود داخلها، وإبراهيم الروائي الورقي كلّي المعرفة والقدرة على التحكم بشخصياته، والتغيير فيها والتحكم بمسارات حياتها:

"كان يجب أن أغير في أسماء شخصياتي وكان عليّ أن ألاحق تنفسهم ونبضاتهم، بعضهم تركته كما هو بانكسار حنجرته، وبعضهم وتّرته وعقدت تكوينه، آخرون كان تدخلي في حياتهم مدمراً، وكثيرون دفعت بهم نحو هاويتهم" ص 125

وفي موضع آخر، يُعْلمُنا أو يوهمنا بخروجها عن سيطرته، أو بعجزه أحيانا عن تبيّن مصائرها:

 "لم أعد أطيق التحضيرات التي اتخذها أبطالي لإغلاق الدائرة، ولا أريد ان أتدخل أكثر، إنهم يسألون عن المصائر، وكأنهم بلا وعود مسبقة بلا خطة مرسومة ويسبحون في الماء الذي يروي عنهم ما يروي .. إخاد سيختفي الآن والشيخ المتحول سيختفي .." ص 137

وفي موضع آخر يصرح "أصبحت أكثر سطوة الآن، جميع شخوصي معي في المشي نحو الخاتمة، ولكن بم يختتم الذي يحدث.... لا خيارات لديك سوى الاستمرار كفعل مضارع." ص 107 

كما أنه يتلاعب بسيرورة الزمن كيفا شاء، فيبتعد عنه قدر ما يريد متجاهلاً ما تفرضه أجواءُ زمن السرد الذي وضع فيه شخصياتِه:

"يرنّ الموبايل، لم أعد اذكر هل كنت أملك وقتها جهاز موبايل، أو لا على كل حال سيرنّ الموبايل أنظر إلى الرقم.." ص 75

"أنا الآن في ذلك القرن التاسع عشر ما غيره، قررت أنه لم يكن لدي موبايل، ولذلك لن يزعجني أحد لا إخاد ولا غيره، وغيرت القرن الزماني بأجمعه، لم يكن إخاد قد خلق بعد لا هو ولا أبوه ولا جدّه" ص 82

وفي حوار بين هذا الروائي الورقي، وبين شخص لا يظهر منه سوى ظلّه على الجدار؛ ويوهمنا بداية أنه إخاد، ولكنه يهودي آخر أرسل إليه رسالة تهديد يوم نشر في مجلة الدومري مقالاً عن المخلوقات الغريبة التي تخرج من قاع المدينة وقد فُهم منها أنه يريد نشر شائعات لترحيل من بقي من اليهود في دمشق.

 فحين يسأله إبراهيم:

  • "موضوع قديم لِمَ تفتحُه معي الآن
  • أردت أن استردك من شرودك فيم تفكر؟
  • نور
  • نور؟ من نور؟
  • لا أعرف، أفكر أيضاً بمحمد شوق
  • من محمد شوق هذا أيضاً؟
  • وبراحيل وزينب
  • راحيل وزينب؟ من هؤلاء

نظرت في الظل الذي يلقيه جسده خلفي على الحائط الحجري وقلت كلامي الأخير:

  • أفكر في إخاد
  • إخاد؟ ما كل هذه الأسماء هل تعرفت إلى هؤلاء الناس دون علمي مَن إخاد هذا أيضاً؟ ما هذا الاسم الغريب؟ إخاد ص 119

وفي كل ما سبق نرى أن إبراهيم الثاني يخرج من الرواية ليأخذ موقع الروائي الذي يتحكم في شخوصه، وزمانهم، ومكانهم كما يشاء، وهو ليس كلّي المعرفة فحسب، بل هو صانع كل شيء في الرواية.

أما إبراهيم الثالث فهو راوٍ وسيط ينقل إلينا ما يرويه له إخاد ومحمد شوق وما حدث بينه وبين عشيقاته، وغير ذلك من تفاصيل حياته الشخصية، وهو راو متموقع لا يتجاوز علمه ما تبوح به الشخصيات، فحين قدم إليه اليهودي في المقهى يقول:

يقترب من طاولتي شاب أشقر بثياب عادية، أقل أناقة قليلاً مما توحي ملامحه، يشبه سريان الجزيرة السورية، ولكنه ليس سرياناً، هذا واضح من التفاصيل غير الدقيقة في وجهه... هذا الشاب مختلف ولكن من هو..؟ ص 11 

مذهل، كيف يفكر هذا الأشقر؟ ولكنني لا أعرف بعد، أتوقع أنه يفكر بطريقة غرائبية أيضاً لعله لا يقصدني ... ماذا لو كان يتجه نحو ذاك الذي يلعب بالزهر مع العجوز العراقي.. ص 13

ويقول في موضع آخر: بقي محمد بعدها نصف ساعة وهو يفكر، لم أعرف بماذا كان يفكر" ص95

ونلاحظ أن هذا الراوي موجود خارج الشخصيات، وعلمه لا يتجاوز ما يراه ويقال له.

والغريب أنه الأكثر تقاطعاً مع الروائي الحقيقي بدءاً من اسمه إبراهيم ونسبته الجبين ومؤلفاته ومنها كتاب لغة محمد، وهو شاعر وكاتب ومهتم بالسينما وكتابة الريبورتاجات الغريبة، وخاصة عن عوالم بيوت دمشق القديمة ومنها قصر العابد، وهذا كله من سيرة الروائي الذاتية.

 وإضافة إلى ما سبق هو شخص له عالمه الخاص به، فمع حبيبته ليندا اليهودية، التي قد يعود نسبها إلى جَدّة عربية يهودية أندلسية، كانت تكتب على فخذيها أشعار ابن زيدون؛ وجد إبراهيم هذا فيها عالماً من المتعة والانعتاق، فكان يشكّلها كما يريد، وذلك بإضافة أشعاره إلى جمال جسدها، وكأنه يساهم في خلقها، فيزخرفها بقصائده الخاصة ليعلن انتماءها إلى عالمه الخاص.

  • "لست من هذا العالم لا من بدايته ولا من نهايته
  •  من أين؟
  • من عالمي" ص 81

وترسم صديقته نورا شخصيته من خلال مشاعرها نحوه خلال لقاء عاطفي بينهما بقولها: "شعرت أنك تحاول افتتاح عالم مجهول وجديد عالم من الأساطير والأفكار والتفاصيل والألغاز .... أشعر أنك تبحث عن جرة قديمة تحتوي على شيء ما، جرة روحانية ربما" ص 98

كما أن إبراهيم يصلي مع الجميع دون تعصب لدين، أو رفض لآخر، فحين تسأله روبن الصوفية في غابات سياتل: هل تصلي معنا، يسألها كيف تصلون؟

  • "نمسك أيدي بعضنا البعض ونقول بعض الكلمات ثم نغني للحياة
  • أصلي معكم
  • ولكن معنا يهوداً ألا يزعجك ذلك
  • نعم لا يزعجني أعرف من لغتي القديمة أن الصلاة هي الدعاء، والدعاء هو التمني لا أكثر، لا مشكلة.

من هو مدوّن اليوميات؟:  

ويمكن القول إن إبراهيم الثالث هذا هو صاحب التدوين الأول لهذه الرواية بحكم أنه الأقرب للروائي إبراهيم الجبين، والذي صنع الوثائق المطلوبة من خلال ما روت إليه الشخصيات الأخرى، إخاد ومحمد شوق ونورا وليندا وليجعل من حكاية اليهودي خيط حبكة لها، وليس يوميات خاصة به، ثم يظهر المدون الثاني إبراهيم الروائي الورقي، والذي نسمعه بصوت صريح يعلن تدخله ومسؤوليته عن الرواية في الثلث الأخير منها. وهو الذي يعدنا في النهاية بتدوين نهائي. وسيكون صاحبه هو الروائي الحقيقي بلا شكّ، والذي أخرج إلينا هذا الكتاب بصيغته النهائية، مع التلميح أن النهاية لم تأت بعد.

 ويمكن القول من كل ما سبق: أنّ الكاتب لجأ إلى نوع من اللعب الفني، فارتكز   إلى عوالم واقعية وحقيقية كاسمه وبعض سيرته الذاتية، وأسماء الأماكن كدمشق وحاراتها، أو أحداث وقعت حقيقة كمقتل توما الكبوشي، وليبني على هذا الواقعي عالماً تخييلياً مقنعاً يوازي هذا الواقع، ويترك القارئ محتاراً بين سحر الخيال المُقنع، وحقيقة الواقع، وتعدد شخصيات إبراهيم هو البؤرة الإبداعية التي منحت النص الروائي تميزه في الفن الروائي، كما أنها كسته غموضاً شفافاً جميلاً بما خلعت عليه من ضبابية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم