رواية ليل العالم رواية أجيال سورية عاشت في سواد ظلمات معتقة، وتقاذفتها ليال أشدُّ إظلاماً إلى سواد جديد يطمس كل الآفاق التي ترتجى منها شمس قادمة...

حكايات سوداء عن ربيع طُمست خضرتُه وقطعت أغصانه، تروى من خلال (منيب حسين الخلف) الذي يعود بأصوله إلى مدينة الرقة لكنّ والده خرج هارباً منها قبل الستينيّات من القرن العشرين خوفا من ثأر جريمة ارتكبها أخوه، ففر بحياته إلى دمشق وغيّر اسمه هناك، وتزوج من امرأة من بانياس التي مات فيها غريبا بعيداً عن مسقط رأسه، وتعود الأقدار بابنه منيب إلى الرقة مدرساً للغة العربية، وذلك في بدايات وصول البعث إلى حكم سورية. يعود مصحوباً بصوت أبيه الذي يحذره من كشف هويته خشية الثأر القديم، ويرمى به إلى قرية نائية في أريافها، وبفضل الرفيق البعثي (محسن) الذي يجمعه بمنيب رابطة  "الساحل" يُنقل إلى ثانوية خديجة في المدينة، وهناك يتعرف إلى طالبته هفاف التي يقع في حبها، وتبادله هذا الحب مدة أربعين عاماً، وهي الفترة التي حكم فيها البعثيون سوريا، ولعدم تعاون منيب مع الجهات الأمنية والبعثية يهدد بكشف سر أبيه، وحين يُكتشف نسبه يحكم عليه قبلياً بالنفي كأبيه من جديد فيغادر إلى دمشق فبيروت ثم يعود بعد صلح إلى الرقة لتبدأ فيها الثورة على النظام الحاكم في عام 2011 وتحرير الرقة منه، ثم هيمنة داعش على المدينة لتحل مكانَ دولة البعث الدولةُ الإسلامية (داعش)

فوضى الحرب تطال جميع البُنى حتى بنية الرواية:

في الصفحة الأولى نقرأ عتبة مفتاحية جاءت على لسان ماكبث في مسرحية شكسبير يلخص فيها رؤيته لعبثية الحياة واستهزائه بالمحاربين وهو يرى زوجته المنتحرة والجيوش التي تتقدم نحوه فيقول واصفاً الحياة: (هي حكاية معتوه ملؤها الصخب والعنف)

وما إن تطأ العين السطور الأولى للرواية حتى تظلم الرؤى أمامها، وتجد نفسها منجرفة في دوار من (الوغى) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من غبارٍ وصياحٍ وعياطٍ وجلبةٍ في ساحة المعركة، هناك حيث تُمحى تفاصيل الأشياء، وتتداخل الوجوه والأصوات والأشلاء، وتفقد الحواس قدرتها على استكناه حقيقة ما حولها، بل ويصبح كل شيء شبهاً لا أكثر لما كان عليه... واستناداً إلى هذا (الوغى) يبني نبيل سليمان روايته بدءاً من تقسيماتها فيضيف إلى (المقدمة والمتن والخاتمة) كاف التشبيه والتشكيك لتصبح (كالمقدمات وكالمتون وكالخواتيم) أي لا شيء على حقيقته في الحرب حتى تقسيمات الرواية، والتي بدورها  تكاد تخرج عن تجنيسها الذي قيدت به على الغلاف الأول –رواية- لتجنح نحو المذكرات واليوميات والرسائل والخواطر- فالحرب تعصف  في كل مكونات النص من سرد ووصف وحوار ومنولوجات داخلية وتداعيات أفكار، إضافة إلى تداخل الأحداث والأزمنة والأماكن، حتى أصوات الرواة يتداخل فيها ضمير المتكلم والغائب والمخاطب في تداعيات الراوي الواحد، ومن ذلك ما جاء تحت عنوان ليلة رأس السنة:

 أنت منيب وأنا هفاف: صديقان ولكن قديمان عاشقان....ما همني أن العشيرة عفت عنه – عن منيب- ولا أنه بات قادراً على أن يجاهر بانتسابه إلى الرقة ولا أن يحدد: بانتسابي إلى هفاف العايد؟ ما همني أنه ضاع منذ ضيعني فصرت طريدَكِ يا هفاف كأن لا يكفيني ان أكون طريد العشيرة، ثم صارَ طريد قطاعيّ الرؤوس والذباحين ..... وها أنا بانتظارك كل صباح حول ثانوية خديجة .... لا تتأخري .... ما همني هو أنني افتقدت كل ما كان يمور في كياني نحوه منذ رأيته أول مرة يملأ باب القاعة: صباح الخير يا بنات. صوته يا ربي يا ربي أنفاسه تحرق أنفاسي .... هذا الذي ظل يجتاحني اياماً غبطة هي أم خوف؟ نفض النهر ما كان قد توشى به من الثلج وبصوت الحكيم همس لهفاف: لا غبطة ولا خوف بل هما معاً وإذ بدا له أنّ هفاف لم تدرك مرماه أضاف: هذا هو الحب" ص 315

نلاحظ الالتفات من ضمير الأنا لهفاف إلى ضمير الأنا لمنيب والتداخل بينهما على لسان هفاف التي تتكلم بلسان الراوي العالم اللامتموقع، ثم يتدخل راو عالم آخر ليروي بلسان الفرات.

وكأنّ طبيعة الحرب عصفت بالشكل والتقنيات الفنية التي اعتمدها الكاتب، فأصبحت صفحات الرواية هي الساحة الحقيقية لذلك الوغى بكل ما فيه، وجاء نصاً مروياً بألسنة لهيب تلك الحرب أكثر من ألسنة شخصيات الرواية.

أجيالٌ تجرف من ليل إلى ليال:

من خلال تتبع أجيال الشخصيات نرى أربعة أجيال؛ الأول ما قبل منيب، والثاني جيل منيب وزملائه من المدرسين والمدرسات والأصدقاء، والثالث جيل طلابه، والرابع جيل طلاب طلابه.

ومن خلال استقراء الواقع الذي عاشته شخصيات تلك الأجيال، وشبكة العلاقات التي تربط بينها نستطيع استقراء الرؤيا التي ترصد الرواية من خلالها الحدث السوري وأسبابه وتحولاته ومآلاته.

فمن خلال الجيل الأول ومأساة (حسين الخلف) والد منيب نكتشف مدى تخلف العادات والتقاليد التي كانت تحكم المجتمع السوري، وذلك قبل وصول النظام البعثي الحاكم، فقد سلبه هذا المجتمع هويته بدءاً من اسمه الذي اضطر إلى تغييره، إضافة إلى مسقط رأسه، ومرابع طفولته التي لم يستطع مكانٌ آخر أن يعوضه عنها، فبقي منفياً حتى مات، محتفظاً بلهجته الرقّاويّة وحبّه للفرات الذي لم يستطع البحر في بانياس أن يعوضه عنه.

ونقرأ أثر هذا التخلف أيضاً على النساء من خلال شخصية أم فرحان التي زوّجت من رجل في عمر أبيها لا يكاد يستقر في فراشها، والتي ما لبثت أن جذبت منيب إلى صدرها الظامئ التائه بين شبق الأنوثة وحنان الأمومة... كما يتجلى في زميلات منيب المدرّسات في ثانوية خديجة اللواتي فرض الشارع عليهن العباءة السوداء التي تركن خلف الباب في المدرسة لتتحرر منها الأجسادُ التي تخشى العنوسة من جهة، وسكين الشرف من جهة أخرى. إضافة إلى أن بعضهن يؤمن بالخرافات والشعوذة وهن المتعلمات المعلمات.

وبعد وصول النظام البعثي إلى الحكم لم يتغير شيء بل استمرت لعنة ذاك المجتمع، وتمثل ذلك في انتقالها من الآباء إلى الأبناء، فحلّت على منيب من جديد بجرم عمه وليس أبيه؛ فأجبر على مغادرة الرقة مهدِ حبّه إلى دمشقَ فبيروت هارباً بروحه.

وثمة إشارات إلى اشتداد القبضة الأمنية في ظل النظام البعثي الجديد حيث أصبح مطلوباً من المدرس أن يكون جاسوساً على الطلاب باسم التقييم الأمني، ومن الطالب أن يكون جاسوساً على أساتذته بحكم كونه في اتحاد الطلبة، تقول هفاف لمنيب:

" وهذا المكتب يا أستاذ صار بين يوم ويوم قلعة النضال، الأوصياء علينا من الطلاب يهربون من دروسهم ليشاركونا النضال في هذا الموقع المتقدم ضد الرجعية، وربما ضد الصهيونية، صارت المسكينة التي ابتليت منا بالانتساب إلى الاتحاد على كل لسان يريدون من الواحدة منا أن تتجسس على زميلاتها وعليكم يا أستاذ" ص 193.

 

وهنا تبرز شخصيات الجيل الثاني –جيل منيب وزملائه-  الذي شهد وصول النظام بتنوعها واختلافها فقد كان جيلا حالماً بالتغيير، تتنازعة عدة تيارات فكرية، ففيه البعثي الانتهازي كالرفيق محسن، وفيه المؤيد للنظام بعد كل ما ارتكبه من وحشية وفظائع بحق سورية كعبد العفيف غنام والمسلم المعتدل كمدرس الديانة عبد الجبار الخليل وفيه الماركسي كالدكتور مطر الزغال وفيه الإخواني ومن حولته سجون النظام إلى متطرف كأبي لقمان، والأهم شخصية منيب الذي كان منعتقا من كل الانتماءات عازفاً عن كل ارتباط حتى الزواج، فمنيب حين تُذْكر الانتماءات، ويسأل: من أنت؟ يربكه أن ليس لديه ما يقوله:

(حياة فقيرة ... فيها التعلق بجمال عبد الناصر وليس الناصرية فيها التعلق بسارتر وكامو وليس بالوجودية، فيها التعلق بماركس ولكن ليس بالشيوعية ... أنا قد لا أعرف من أكون، أو من سأكون لكنني أعرف أنني لن أكون من هؤلاء جميعاً، يكفيني أن أكون رأيت بعض ما فعله من يحكموننا، او من يحكمون العراق حتى أقول لهم ألا تكفيني منهم ومن جمال عبد الناصر هزيمة 1967 أما الاخوان فبيني وبينهم الله إذا كنت حائراً وعاجزاً ومستميتاً معا أمام سؤال الدين فكيف يمكن ان أكون مع هؤلاء؟) ص 210

ولعل الانتماء الوحيد الذي يقر به ويجد فيه خلاصه هو الحب الأزلي؛ حبه لهفاف، ففي لحظة ما ينكر أنه لا شيء:

(بل على العكس تماماً وتموجت في صدره الهتفة : انا عاشق هفاف ماذا أريد أكثر من ذلك ماذا تريدون مني أكثر من ذلك) ص 210

ومن أكثر ما يوضح الرؤية المتناقضة لطرفي الصراع في سورية -النظام والمعارضة- الحوار بين طرفين من هذا الجيل الأول هو منيب والثاني عبد العفيف غنام الذي يؤمن بالمؤامرة الكونية الكبرى، وكذبة الثورة وكذبة الربيع العربي، وأن إسرائيل هي المسؤول أولا وآخراً خلف كل أولئك الذين يخططون، ويمولون، ويدربون الفصائل الإرهابية، ويرى في حزب الله فصيل مقاومة مسلحة بينما يرى فيه منيب فصيلاً طائفياً مسلحاً كغيره، ولا يختلف عن إيران:

(يقول عبد العفيف: لو أنكم لم تنخدعوا من البداية بكذبة الثورة وكذبة الربيع العربي لما كنا وصلنا إلى هنا

فيردّ منيب: وانت لو لم يخدعك بصرك من البداية بالسلطة المؤبدة هل كنا وصلنا إلى هنا؟ مئات آلاف القتلى والمفقودين وملايين المهجرين داخل البلاد وخارج البلاد، وكل هذا الدمار وهذا التقسيم من أجل ماذا؟ من أجل سلطة الحزب الواحد من أجل سلطة الدكتاتورية من اجل سلطة الفساد) ص 430

ونقرأ رؤية مستقبلية لما ستؤول إليه الأحداث على لسان الأب باولو:

(المجموعات المتطرفة دينيا أو كيفما كان تطرفها هي سرطان، وعلينا أن نعالج هذا السرطان والا فسوف يفتك بنا)

 

وهذا الجيل انتهى إما الى التطرف كما في تحول جابر الخليل الى داعشي، أو الى التعفن في سجون النظام كمطر الزغال، أو إلى القتل على يد داعش بتهمة التجسس كعبد العفيف غنام أو الى الضياع الموازي للجنون كمنيب.

أما جيل الطلاب ممثلا بهفاف وجيل طلاب الطلاب كموسى العايد أخي هفاف، وسلام وسنية ابني الشيخ عبد المنان الداعشي، وأولاد  قارو الكردي؛ خضر وبيري وزوجها ولات، وباسيل المسيحي وأخته ميرا - ويلاحظ انه جيل من كل الإثنيات المكونة للمجتمع هناك؛  فهو الجيل الذي كسر حاجز الرعب وخرجت مظاهراته السلمية في وجه النظام الحاكم، حتى طرد من الرقة، واستمرت في وجه داعش من بعده، فموسى المسلم، وباسيل المسيحي، وصحبهم من الشبان والشابات يعيدون الصليب الذي كسرته داعش إلى كنيسة الشهداء الأرمنية، وهفاف تنظم اعتصاماً وتهاجم أم هاجر التي اعتقلت سنية بتهمة ظهور حاجبيها من النقاب.

وهذا الجيل بدأ تمرده على الجيل السابق وأفكاره قبل تمرده على النظام، فهذا خضر يقف في وجه أبيه الرافض لجمعة التدخل العسكري أيام بدأ النظام يدفع بالمظاهرات السلمية نحو السلاح لتدافع عن نفسها، يصرخ خضر:

  • ماذا تريدنا ان نفعل يا قارو وأنت ترى الشهداء كل يوم بطول سوريا وعرضها
  • وأرى كيف تنجرون كل يوم من المظاهرات السلمية إلى العنف أو الحرب ,,,

يصرخ قارو بولده: التدخل العسكري احتلال هل تطلب احتلال سوريا يا خضر مهما كان الهدف وكائنا من كان هذا الصديق الذي تبوس يده كي يتدخل فالتدخل احتلال ص 67

وكذلك سلام وسنية يتمردان على حكم أبيهما الديني المتزمت... فسنية الطالبة الجامعية التي كانت في سنتها الأخيرة ترفض الرضوخ لرغبة والدها في الزواج من المجاهد أبي رضوان التونسي، وسلام يرفض التطوع مع المجاهدين، ويغادر بيت أبيه.

ولكنّ هذا الجيل الذي غامر بحياته وجد نفسه ضائعاً بين ليلين، متخبطاً في متاهة لا نهائية، فما كاد يتخلص من ظلمة النظام حتى حلت ظلمات داعش التي أحكمت قبضتها على المدينة شيئاً فشيئاً محولة إياها إلى سجن كبير؛ سُجن الجميع فيه. يقول منيب:

(لست وحدك في الحبس يا ام باسيل، ها أنا أمامك هذا البيت حبس أم لا؟ الشوارع المدارس الساحات دوائر الدولة الفرات السماء صدر الواحد منا حبس أم لا ...) ص 26

وعلى امتداد الرواية نلمح مقارنات ما بين النظام السابق وبين حكم داعش

فكما كان النظام يؤسس للطائفية بتمييز ابن الساحل على ابن الداخل والعلوي على السني تأتي داعش لتفرق بين المسلم والمسيحي، ولتقسم العالم إلى قسمين مسلم وكافر، ونسمع قول بيري من ذلك الجيل معترفة بأنّ النظام الذي رحل جاء من هو أسوأ منه في إذلال الناس:

(هؤلاء يجرون الواحدة منا من شعرها ولا يحسبون حساباً لأصل ولا لفصل، النظام نفسه كان يحسب ألف حساب لعشيرة الواحدة منا أو عائلتها قبل أن يرسل إليها من يسألها عن الكحل في العين أي فرع من فروع الامن كان يتجرأ على اعتقال امرأة ص405

 وكما قامت دولة البعث على الأجهزة الأمنية (فللدولة الإسلامية عيونها التي تخترق الجدران كما كان للدولة البعثية ص 87).

وحتى الجيل السابق يقر بذلك (فعندما انتهى منيب من ملأ الاستمارة بات على يقين بأنها هي الاستمارة نفسها التي ملأها في فرع الأمن السياسي وفي فرع الأمن العسكري، هنا في الرقة سوى أن الدولة الإسلامية أضافت حقولا للحج والعمرة والعشيرة والمذهب) ص 131

تغيَر الأشخاص وبقيت الكراسي في الأماكن ذاتها، فقصر المحافظ أصبح مقراً للولاية، وبقي الكرسي ذاته بجميع سلطاته مع تغير الجالس عليه؛ فقد حل فيه أبو لقمان الذي كان مع منيب في سجن صيدنايا وقد أطلق سراحه مع بدايات الثورة، وفرع الأمن العسكري أصبح مقر المحكمة الشرعية، وقاعة رئيس الفرع أصبحت قاعة لرئيس المحكمة، وأما القاضي فقد أصبح أبو نادر الذي يدرب ولده الطفل على قطع رؤوس المحكوم عليهم بالموت، وكان قبل منصبه الجديد عامل فرن يتنقل بين الرياض والرقة، فمن قال إن القاضي الشرعي يحتاج شهادة في الحقوق؟  يكفيه أنه من المشهود لهم بالورع والتقى، ومن قال إن الذي يحكم الرقة يجب أن يكون من أهلها ولهذا نقرأ أسماء غريبة عنها كأبي علي الأنباري وأبي رضوان التونسي وجليبيب الجزائري وغيرهم.

ويوما بعد يوم تشتد قبضة داعش، وتتحول كلّ الساحات كما دوار النعيم والساعة والحرية إلى منصات إعدام، وبعد أشهر لا أكثر من تمكنها من السيطرة تحكم بالخنق على هفاف... وليتبعثر بموتها ذلك الجيل الذي تبعها، فسنية تنتحر لتتخلص من تزويجها غصباً، وباسيل وأخته يهاجران وسلام وموسى يختفيان، وكأنه بموت هفاف مات الجيل الذي أشعل الثورة في البلاد، جيل كامل اختفى، وإذا حاولت أن تخمن أين هو فعليك ان تضع احتمالات كثيرة تتضح في قول منيب حين يبحث عن موسى:

(ولكن أين موسى؟ هل هو قريب في أي من سجون الولاية هل هو بعيد في أي من سجون النظام لو كان هرب الى تركيا أو غير تركيا لهتف لك، ماذا لو برميلاً متفجراً جعله مزقاً ماذا لو أن قارباً رماه في بحر إيجة ... ص 99)

ونسمع خلاصة الرؤى التي تقدمها الرواية على لسان شخصيات من هذا الجيل الذي سلب ثورته قبل حياته فسلام يقول: (هم وغيرهم سرقوا الثورة) ص 405

واما موسى فيبوح بالحقيقة المرة بصوت يتداخل بصوت منيب من الجيل السابق ليقرّ بآخر الرؤى لتلك الحرب:

قال موسى إنه مهزوم مثله مثل أي سوري، وهذه الحرب ليس فيها غالب يا منيب كل سوري في هذه الحرب مغلوب عندما ألقيت سلاحي قلت لهم تصبحون على موت قالوا لي أنت هكذا تسلم نفسك إلى من سيقتلك سواء كان من الحكومة او من أي معارض لها يحمل السلاح قلت زيدوا ومن لا يحمل السلاح ايضاً.

خلاصة الرؤية من خلال رمزية الأسماء:

يزاوج الروائي بين أسماء ذات مرجعية حقيقية وأسماء متخيلة لكنها منتقاة بقصدية لتجسد بدلالاتها الدينية أو المعجمية ما يرمي إليه الروائي من تحميل رمزي لتلك الشخصيات.

فقد اعتمد أسماء حقيقية  كأبي محمد العدناني وأبي علي الانباري وأبي لقمان  وعبد السلام العجيلي وياسين الحاج صالح والأب باولو، ولا شك أن غرضه من هذا بناء عالم تخييلي مواز للواقع وهذه الأسماء أدوات للإقناع بحقيقة ذلك المتخيل الروائي ولا تجعل من الرواية سيرة ذاتية رغم تقاطع شخصية منيب مع بعض الخطوط من حياة نبيل سليمان الذي عمل مدرساً في مدينة الرقة واعتمد بعضاً من ذكرياته هناك لإقامة عالمه الروائي التخييلي لكنه تمكن من الاختفاء تماماً وراء شخوصه التي كانت تتحرك بكامل حريتها النابعة من طبيعتها التي رسمها لها.

كما اعتمد أسماء ذات مرجعية قومية كقارو وأولاده أو دينية كأم باسيل وأولادها، وذلك ليؤكد اشتراك كافة الإثنيات العرقية والدينية في الخروج على النظام في وحدة وطنية متكاملة، كما أثبت من خلالها ممارسات داعش الإقصائية للأديان الأخرى بدءاً من تحريم السلام عليهم إلى إلغاء اسمهم وتسميتهم بأهل الذمة

وأما الأسماء ذات المرجعية المعجمية التي سنقف عندها فهي التي ستتكشف من خلالها الرؤية الروائية لهذه الحرب:

أول تلك الأسماء (هفاف): الثائرة المتمردة العاشقة، صاحبة أطول وأجمل زغرودة يوم أسقطوا تمثال الأسد، ويوم خطب الأب باولو وقال: الرقة بداية الطريق إلى العاصمة. هفاف التي رفعت لافتاتها في وجه داعش وقد كتبت بخطها (يا شبيحة الإسلام تفوقتم على شبيحة النظام) حتى إنها على نطع الخنق تخاطب جلادها قائلة (دولتكم ملعونة).

وتبدأ الرواية بخنقها وليس بشنقها فإذا أخذنا معنى (الهفّاف) في اللغة وهو البريق؛ نستطيع إخراجها من شخصيتها الروائية الفردية إلى رمزية هذا الاسم وعموميته، فيكون اسم هفاف هو المعادل لاسم الثورة التي ما كادت تبرق حتى خنقت، وبخنقها اختنق الجيل الذي أشعل شرارتها أو اشعلته هي ببريقها.

ولهذا نسمع السؤال يتردد أكثر من مرة: لماذا خنقوا هفاف وتأتي صفحات الرواية لتجيب عن سؤال: كيف خنقوا هفاف.

أما (منيب) ومن معانيه في اللغة (العائد) فمن تتبع سيرته الروائية نستطيع أن نرى فيه معادلاً رمزياً للوطن الذي شرد من تاريخه وأصوله، وقد عاد في بداية السبعينيّات حالماً بالبدء من جديد عاد متمرداً على كل الانتماءات التي فرضت عليه لأنه اكتشف خيباتها كما رأينا، عاد عاشقاً لهفاف الثورة ولكن حيل بينه وبينها، ولم يستطع أن يرتبط بها بأكثر من خطوبه فبقيت حلمه حتى خنقت وتاه من بعدها.

والاسم الثالث هو (موسى) الذي كان في طليعة المظاهرات ضد النظام وضد داعش، والذي تحول إلى كابوس مرعب للدولة الجديدة بعد اختفائه. موسى الذي يقول لمنيب: قاتلت الجيش وقاتلت داعش وقاتلت موسى العايد نفسه هل تعرف موسى العايد؟

وموسى: اسم ذو مرجعية دينية تحيلنا إلى موسى النبي الذي كان كابوساً زلزل عرش فرعون قبل ولادته، وحين شبّ عرف بشيء من الغضب الذي يقترب من التهور، ولم يلبث أن وقف متحديا ألوهة فرعون، ثم خرج بقومه من بطش الفراعنة، وكل هذا ينطبق على شخصية موسى في الرواية وبالتالي موسى هو معادل رمزي للجيل الذي انجرف ثائراً وراء رغبتة في الحرية والتغيير غير آبه بالموت.

 

وخلاصة القول:

رواية ليل العالم من الروايات الأكثر توفيقا وموضوعية في رصد الحرب السورية؛ أسباباً وحدثاً وتحولات وتداعيات، وذلك من خلال نماذج روائية أمسكت بأبعاد الحالة السورية، متوغلةً في الأسباب التي أوجبت الخروج على النظام الاستبدادي، وراصدةً الأحداث وتحولاتها وانحرافاتها من زاوية رؤية أكثر من جيل، وأكثر من مرجعية فكرية، مقدمة كلّ ذلك من خلال عمل يشبه اللوحة الفسيفسائية المتداخلة الأشكال والألوان، ورغم طغيان السوداوية عليها فهي تقدم بذلك السواد رؤيا واضحة جلية للحالة السورية، لكنها لم تستطع أن تتجاوز إطار اللوحة لتقدم  أية رؤية مستقبلية تمتد خارجها. ومع هذا تبقى من الأهم والأكثر موضوعية وعمقاً وصدقاً من الكم الكبير للروايات التي حاولت رصد الحرب السورية.

 

                               ****

 

 

  • رواية ليل العالم -كتاب دبي - 141 يناير كانون الثاني 2016.
  • زياد الأحمد: كاتب وناقد سوري مقيم في تركيا.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم