إنّ تعدّد الأدوات والعناصر الفنية في الفنّ القصصيّ يجعل منه فنّاً من أكثر الفنون مرونة، وبوسع الروائيّ أن يختار أكثر الأدوات تعبيراً عن رؤيته وتصوّره للحياة والمجتمع، وهو التصوّر الذي يحدد طبيعة الموضوع الذي يختاره لرؤيته، كما يحدّد مضمونه، ويتحكّم إلى حد بعيد في الأدوات الفنية، التي يعبر بها الروائي عن هذا المضمون وتلك الرؤية، ومع أنّ الأدوات التي بحوزة الروائيّ تتضافر جميعاً في بناء الرواية، إلا أنّ الوظيفة التي تؤدّيها كلّ أداة تختلف عن الوظيفة التي تؤدّيها غيرها من الأدوات، ومن هنا سيكون التركيز بشكل أساسيّ على عنصر الزمن في هذه الرواية، باعتباره مؤثراً في العناصر البنائية الأخرى، وعاكساً لها وكاشفاً عن بنيتها وموضحاً لخصائصها ومبيّناً لجماليتها كما الحال في رواية -أزمنة مختلفة – . اعتمدت هذه الرواية على النسق المتعرّج للزمن، إذ استهلّ الراوي الأحداث من نقطة قريبة من لحظة التأزم كقوله: (أحسست بأنّ الدنيا أظلمت فجأة، رغم أنّه كان هناك قمر منير في بداية الليلة، لم أتبيّن لوهلة هل كان الظلام حقيقيا أم نابعاً من دواخلي المظلمة).. إنّ هذا الاستهلال أكسب الرواية طابعاً درامياً إذ يلقي بنا مباشرة في عملية الصراع بين الشخصيّات الروائية أو صراع الشخصية مع نفسها، بخلاف ما ابتدأ به منذ البداية ثم سار بنا نحو لحظة التأزم بالتدريج، الأمر الذي يفقد معه القارئ الإحساس بالترقب والشعور بالتوتر، فالعلاقة بين الأحداث وكيفية معالجتها زمنيا لهما تأثير على القارئ، فإذا كانت النتائج منبثقة عن مسبباتها فإنهما تشكلان خطّاً يستطيع القارئ أن يسير عليه قدما، دون إحساس بالجهد أو شعور بالعوائق، أمّا إذا كانت النتائج والأسباب غير مترابطة فإنّ ذهن القارئ يسرح ذهاباً وإياباً، وهو يحاول عبثاً الإمساك بخيوط اللعبة الروائية، إذ ليس هناك نقطة معينة تشدّ اهتمامه إليها وترنو عيناه نحوها، من ثمّ تتراخى الحركة ويتقلص الزمن. فالزمن المتعرّج الذي سارت عليه رواية (أزمنة مختلفة) لا يقدم لنا الأحداث المتخيلة بحسب ما وردت في الواقع وفق النسق الأفقي للزمن، وإنما عمد الكاتب إلى ترتيب الأحداث من خلال التقديم والتأخير كما غيّر في نسق الزمن عبر التداخل بينهما ما بين الحاضر والمستقبل والماضي، مما دلل على أن على المتن الحكائي في هذه الرواية يختلف كثيرًا عن المبنى الحكائي من حيث تسلسل الزمن، ذلك أنّ زمن السرد القصصي قصير نسبياً قياساً بزمن الحدث، الذي يتشظّى على الأحداث الروائية على امتداد الرواية، فهو تارة ما يكون ماضياً بعيداً ومرة حاضراً ماثلاً وتارة أخرى مستقبلاً قادماً، وبالرغم من أنّ استهلال الأحداث بدأ من الحاضر إلا أنّ السرد كثيرا ما يعود الى الماضي، عن طريق استرجاعات مزجت بين استرجاع خارجي بعيد يعود إلى ما قبل بدء الأحداث كحكاية جد الراوي وحنينه الدائم الى الماضي - بدءاً بالتعليم والوظيفة والتجارة وانتهاء بالتقاعد. وأحياناً تكون العودة إلى الماضي عن طريق ارتداد خارجي أيضاً يعود إلى ما قبل بدء الأحداث بفترة قصيرة كحكاية أم الراوي (آمنة بنت الدكتور عثمان عبد الفتاح) وانتمائها السياسي الذي جرّ عليها كثيرا من المصاعب حتى تمّ فصلها من وزارة الرعاية الاجتماعية. وسواء أكان الاسترجاع يقع في الماضي البعيد أو القريب عن طريق السرد الموضوعي أم الذاتي، فإنّ لهذا الارتداد أهميّة قصوى في ربط أحداث الرواية بعضها بعضاً، إضافة إلى إدخال القارئ إلى عالم الرواية التخييلي، ما يخلق نوعا من من الإيهام بالواقع ومشاكلة الحياة.. ومما يميز هذه الرواية عن غيرها من الروايات السودانية التي اعتمدت على مراوحة الزمن، في أنّها قامت بتفجير بنية العلاقة التي تفصل بين زمن السرد الموضوعي وزمن السرد السيكولوجي، الذي يعتمد على تقنية (تيار الوعي) من خلال تداخل الأزمنة. فالتداخل الزمني أو مراوحة الزمن في هذه الرواية لا يعني التذكر أو استرجاع الزمن الماضي بل هو وجود الماضي والحاضر في لحظة شعورية واحدة من غير انفصال، من أجل توضيح أقصى حالات الأزمنة النفسية للشخصية الروائية، وهي تعيش مأساتها الاجتماعية والنفسية كحال بطل الرواية (حسام) حينما فقد زوجته إثر تحطم طائرة وهما متوجهان إلى جوبا لقضاء بقية أيام شهر العسل يقول: (كنت أشعر بالوحدة والغربة، لم أتصالح أبدا مع الواقع، لم أشعر بالأرض من حولي ولم تنشأ ألفة بيني وبين الأرض، كنت منقاداً لأشواقي المفعمة بالحزن، لم أدرك مرور العمر ولم أستبن وطأة السنين، استسلمت لأحزاني). فالزمن في هذه الرواية ما هو إلا تكريس السكون في السكون وفق رؤية الراوي السوداوية، التي رأت في حاضرها الجمود والهروب من خلال إحالة ذلك على الماضي فأصبح شعورها تجاهه جامدا ساكنا وكذلك مستقبلها قاتما مظلما. ذلك أنّ الإحساس بالزمن السيكولوجي يترك في النفس شعوراً مبهماً كالنغم الذي يسري في المشاعر دون أن نعرف كنهه، إذ ساعة تعج بالحياة البهيجة تبدو أقصر في العيش وأطول في التذكر من عمر بلا اسم، والعكس صحيح، إذ دقيقة تكدر الحياة تبدو أطول في الزمن وأقصر في التذكر. أمّا الزمن التاريخي لأحداث الرواية فليس ثمة إشارة صريحة إليه، إلا أنّه من خلال الإشارة إلى بعض المعالم التاريخية والمسميّات التقنية التي ظهرت في هذه الحقبة يمكن الاستنتاج أنّ زمن الأحداث كان ما بين عامي 1989 – 1999م كقول الراوي وهو يتحدث عن أمه (بعد الانقلاب الأخير كانت في أول قائمة فصلت عن العمل بدعوى الصالح العام من وظيفتها في وزارة الرعاية الاجتماعية)، ومن المسمّيات الحديثة التي ظهرت في هذه الفترة (أطباق الاتصالات) و (الديجيتال) و (الريسيفر).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • ناقد وأستاذ جامعي سوداني، عضو لجنة التحكيم في جائزة الطيب صالح للإبداع الروائيّ

الرواية نت

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم