السرد الروائي بين التخييل الذاتي والتفكير في التّجربة الفنيّة
في "وصية هابيل" للبناني شربل داغر لقد تعوّدنا أن يكتب الرّوائي سيرته الذاتية، بالشكل المتعارف عليه كرونولوجيا، حيث ينتدب لذلك راويا يتكلم بضمير المتكلم عن شخصية تحيل وفق جميع المعايير والمؤشرات على المسار الحياتي للكاتب نفسه، بحيث يضع رهن إشارة رواته المفردين أو المتعددين بياناته الشخصية الكاملة، ثم يترك لهم حرية التصرف في هاته المادة ويقف في الخلفية مراقبا كيفية انتقاء هذه المادة وتوزيعها على البرنامج السردي. لكنه، من حين لحين، يتدخل في هذه المادة حذفا وتعديلا وتمطيطا واختزالا، بما يجعل العمل يخضع للتصور الفني للعمل الأدبي. كما أنه أحيانا، يضع على هرم الحكي راويا بضمير المتكلم يتكلم عن شخصية قريبة منه تشارك في الحدث أو لا تشارك، لكن الحكي يكون منصبّا عليها. وفي هاته الحال يكون الراوي والكاتب الفعلي معا متحررين أكثر وجريئين زيادة في كشف غطاء الحدث والشخصية. أما في "وصية هابيل" التي أصر الروائي على نعتها بالعمل الروائي، وفق ما صدر في التعيين الجنسي للمحكي، فقد انتهج الكاتب في استعراض محكيه السيري مسلكا مخالفا، تماما، لما يقع عادة. فالمادة السيرية هنا ارتأت أن تتخذ لنفسها شكل التحقيق البوليسي المتطور، حيث يستغرق الرواة وقتا طويلا في البحث عن المعلومة المتعلقة بالشخصية المتحدّث عنها في النص الروائي، وهي قريبة جدا حدّ التطابق مع شخصية الكاتب، إذ يتتبع راو- شخصية حياة المبحوث عنه بضراوة، مقتفيا كلّ المسالك التي تؤدّي إلى معرفة بقعة من بقاع حياته المتدفقة والغريبة. كما يعمد إلى مشافهة أصدقائه وأفراد عائلته وكلّ من كان يتردد عليهم من سكان الحي القديم الذي ترعرع فيه، مستفسرا إياهم عن سر غيابه المفاجئ. ويستند الروائي في تحقيق التحول على مستوى الصوغ الفني والخطابي وكذا الانتقال من وضع سردي إلى آخر عن طريق تقنية الحوار التي تهيمن بشكل كبير إلى درجة أن السرد والوصف يغيبان معا. وهذا الرهان ليس سهلا بالنسبة لكاتب تعود ارتياد التصوير الشعري الذي يتماهى مع اللغة والمجازات والغور الذاتي في التجربة. حيث كان عليه أن يجتهد ليقول الحوار كل شيء: دواخل الشخوص وانفعالاتهم واعترافاتهم، التحول على مستوى الأحداث والأفعال، أوصاف الشخوص وملامحهم، تحولات الخطاب. وفضلا عن ذلك، نلفي أن الكتابة توازي الحوار بحديث عن التجربة فنيا على سبيل النمط الميتاروائي الذي يتأمل السرد داخليا، وكأنه يمارس نوعا من النقد الذاتي أو الحوار مع الذات من حيث رؤاها الشخصية. فالكاتب يتجرد من ذاتيته الإبداعية ليلبس رداء قناع الناقد الذي ينظر إلى العمل من فوق. وحين يتنصل الكاتب من مهمته في الحكي مستعيرا أصوات الشخوص بطريقة التحقيق، ينتاب المتلقي شعور الفضول نفسه الذي يطول الشخصيات والرواة الباحثين عن تفاصيل ومعطيات حياتية حول شخصية المقصود بالسيرة. إن القارئ يعيش تجربة البحث بالتقسيط، إذ تأتيه المعلومات على التوالي، وبشكل جزئي، مما يجعله متشوقا طيلة تفاصيل الرواية. بل أكثر من ذلك يتحول المتلقي نفسه إلى مخبر يتحقق من المعلومات المرصودة من طرف الرواة ويقارنها ببيوغرافيا الكاتب وبروفايله الشخصي. وتستعير الرواية السير-ذاتية أسماء شخوص قديمة ذكرتها النصوص المقدسة، حيث نلمس ورود إشارة إلى قصة أول قتل في تاريخ البشرية التي قام بها قابيل في حق أخيه هابيل بعد أن اختلفا في أمر الأخت التي سيتزوجانها. ويستعيد الروائي هذه القصة لأنه يراها تتكرر عبر التاريخ، ففي نهاية الأمر التاريخ يعيد نفسه بأشخاص متعددين في أزمنة وأمكنة مختلفة، لكن الجوهر الإنساني يبقى هو هو، حيث تتحكم الرغبات الذاتية والمصالح الشخصية والنزوات في الإنسان وتجعله يرتكب حماقات قد تعود عليه بالندم الشديد في المستقبل، غير أن الروائي يحور القصة ويدخل عليها تعديل بما ينسجم مع رؤياه الفلسفية. فليس قاين سوى قابيل بصيغة أخرى، وما هابيل إلا رمزا للضحية القتيل عبر كل العصور، يقول: "لك أن تسأل عن المحبة التي يحملها لأخيه، فلا يرد له طلبا، ولو كان الصعود الأليم صوب المذبحة. لك أن تسأل عن ساعات اللهو المشتركة بينهما. عن الدفء الهانئ قرب الموقد، عن النية الطيبة التي نمَتْ بسرعة أكبر من الأشجار التي زرعاها معا. أو هذا بالنيابة عن ذاك، أو الأكاذيب البريئة التي دبرها هذا لذاك، أو عن قاين يتكلم بلسان هابيل، أو عنهما معا يختفيان بالتواطؤ عينه الذي لهما حين يعملان بالتصميم عينه مثل ساعدين لجسم واحد". إن تحيين هذه القصص، وغيرها لممّا يدعو، من خلاله، الكاتب إلى التأمل في الحياة البشري بمنظور نقدي يسعى إلى استعادة الجوهر الإنساني إلى الوجود، ومحاربة كل القيم الفاسدة التي تطأ الجمال في العالم. ونلمس حضور شخصية الكاتب الفعلي في النص الروائي وبصماته من خلال توجهه الفني الجمالي الواضح عبر اللمسات النقدية التي ترد في الحوار عبر تعليق أحد الرواة على اللوحات الفنية المعروضة" هذه العلاقة تستوقفني في العمل الفني التكعيبي، وهي تميزه على ما أرى. ففي العمل التجريدي تنقطع العلاقة تماما، مع المرجع الطبيعي أو الإنسانيّ، والشكل مسطح في صورة لازمة. أما في العمل التكعيبي فالأمر مختلف: الوجه لا يزال وجها في رسم لبيكاسو، إلا أنه مرسوم مثل خيوط متتابعة من دون تضليل أو تغوير... هذا يبقي علاقة مع المرجع، ويعدلها في آن. وهذا يعني أن الفنان يستعمل قياسين فنيين في معالجة العمل الواحد" ص 32، وكذا من خلال اللغة التي تترقرق حبلى في أحايين كثيرة بنبرة الشعر وصوره وانفعالاته. إذ تخرج اللغة عن مستوى السرد لتدخل في استيهامات شعرية تتفاعل فيها الذات مع المواقف والمشاعر والانطباعات التي تنتابها، انبثاقا عن الأحداث التي تصادفها عبر المحكيّ الذي يفترض أنها تعيشه كليا أو جزئيا. لقد أدخل شربل داغر العالم الروائي مأزقين: - مأزق السيرة، من خلال تحويل المتن الروائي إلى أحبولة إعادة بناء صورة الذات كما تتخيل تفاصيلَها الذاتُ، وكما يبنيها الآخرون عنها، وهي عمليه صعبة تقتضي من الروائي التجرد من ذاتيه عبر وضعها تحت المجهر، دون مصفاة، ثم أخذ مسافة مع العالم المحكي الذي هو، في الأخير، الذات نفسها. وهذا رهان صعب المنال، وغالبا ما لا يتحقق للروائيين الذين يجدون ذواتهم تنفلت من هذه المسافة لتتعاطف مع الشخوص والتاريخ الشخصي والعوالم السيرية. وقد تحقق لشربل هذا الرهان لأنه توصّل إلى تقنيتين فريدتين وناجحتين للتغلب على هذه الصعوبة: الأولى هي تقنية التحقيق التي استلهمها من العمل البوليسي المخبريّ، والتحقيق الصحفي، والرواية البوليسية. والثانية هي تقنية الحوار التي تستلزمها عملية التحقيق نفسها، إذ تعمد في الغالب إلى الاستعانة بتصريحات الشخوص واستنطاقاتهم للحصول على المعطيات والمواد الخام. وهذا ما فعله الكاتب، حيث تتبع الشخوص التي لها علاقة بالمبحوث عن سيرته، وجعلها بكل الطرق تحكي عن تفاصيله الدقيقة في الحياة والطفولة والجنس والطعام وكل ما يتعلق به ككائن من ورق. - مأزق التفكير في التجربة الفنية؛ حيث تصير التجربة الفنية موضوعا للمحكي الروائي، وأفقا لمساءلة مستغلقات العملية الإبداعية، ومطاردة خيوطها السرابية المعذبة، والتفكير فيها في آن واحد. وحيث تصبح الرواية فضاء لتقاطع وتداخل ثلاثة توجهات إبداعية وتصاديها: السرد باعتباره عملية ناظمة للميثاق الجنسي، ومُجسّرة لفعل التفاعل، والتشكيل بوصفه محورا للسجال وموضوعا للمحكي، والشعر باعتباره انفلاتا لغويا رحيما يسمّد تربة الحكاية بين الفينة والأخرى، ويخرجها من تقريرية العملية السردية. عموما يشكّل هذا العملُ الروائيّ، بالنسبة لشاعر وفنان وباحث، وقفة متأنية مع الذات ورؤاها، وجدلا خفيا معها حول الحياة والماضي والذاكرة، وسعيا منه لإعادة التوازن وترتيب الفوضى التي ننزلق فيها غالبا، مع ضغط إكراهات الحياة والتزاماتها. وفضلا عن ذلك، هي فرصة لتجريب نمط آخر في الكتابة، وفي الرواية تحديدا؛ لأنها تتيح للمبدع قول ما لا يستطيع قوله شعرا أو عبر باقي فنون القول الأخرى. وهي فوق ذلك كله، سفرٌ تعقبيٌّ لمسار الشخصية وعملٌ نقديٌّ لما أنجز سلفا، وإعادةٌ لبناء الذات وفق منظور مخالف. وتلك خصيصة من خصائص الرواية.
ـــــــــــــــــــــ ناقد وروائيّ من المغرب الرواية نت
0 تعليقات