روايات سورية تخلد قصص شخصيات مزقتها الحرب

الأدب على علاقة وثيقة بما يطرأ من أحداث، فيعيد قراءتها والتأريخ لها وكشف خفاياها كما يستشرف مآلاتها. وهنا كانت الحرب في سوريا التي نشأت من ثورة ضد النظام إلى صراعات محتدمة ومآس، جعلت الروائيين يرصدونها من زوايا مختلفة، في محاولة للإمساك بسردية السوريين ضد النسيان. وهنا يقرأ الناقد خالد حسين عددا من هذه الروايات وفق رؤى سيميائية مبسطة.

يشير الناقد والأكاديمي خالد حسين في دراسته النقدية “سيميائيات الكون السردي – قراءة في تجارب روائية راهنة” إلى أنّه ليس من غايات هذه التسمية، أي عنوان الدراسة، الإشارة إلى اتجاه محدد للنظرية السيميائية يخص الفعل السردي بقدر ما يبتغي القارئ – النقدي منها، من هذه التسمية، مفهوما عاما للسيميائية بوصفها جملة قوانين التشفير التي تسهم فيها قوانين النوع الروائي والتراث السردي ضمن الفضاء السوسيو – ثقافي المنتج للفعلين السردي والتأويلي كليهما في الوقت ذاته، وبذلك فالعلامة الأدبية وبغض النظر عن نوعها تنزاح من خلال قوانين التشفير المضاعفة إلى وضع مثقل بالمعنى وإلى حالة منحرفة ومتغايرة عن الدلالة المتداولة للعلاقة.

 ويرى أنّه من خلال هذا المفهوم البسيط للسيميائية تختبر قراءته الراهنة طريق الإحاطة بجملة تجارب روائية عبر الكثير من المفاهيم المتداولة في الحقل السيميائي – الثقافي، بعد تخفيفها من بعدها الأكاديمي لمقاربة النص السردي في مكوناته، وما يجعل هذا النص حاضرا بين يدي المتلقي وفي مشهد القراءة والتأويل: العنوان، التصدير، البداية، الخاتمة، الشخصية، المكان، القوى الفاعلة، جماليات اللغة، النسق المضمر، صناعة التاريخ، السرد والسياسة.. إلخ.

تحدي السلطة

يعالج الناقد في كتابه الذي يتألف من أربعة أبواب وثمانية فصول العديد من الأعمال الروائية، فنقرأ مقاربته لرواية “لا ماء يرويها” لنجاة عبدالصمد من باب سياسات السرد، إذ يرى أنها تتراءى بصورة أشبه بضربة مزدوجة، موجهة لمجتمع متمركز على الذات، والأصوب حول طغيان فظ للذكورة في تماديها. 

 ويرى خالد حسين أنّ الفضاء السوسيو – ثقافي في الرواية يتحدد بمكانين رئيسيين هما “السويداء” وإحدى قراها “مرج الكعوب”، وهما مكانان ينفتحان على أمكنة بعيدة وقريبة: دمشق، بيروت، لاغوس، البرازيل، رومانيا، وفي هذا الزمكان الثنائي ذاته تنهض شخصية حياة بلعبة السرد كمشاركة في الحدث الروائي وراوية له، ولمصائر متعددة تتناهبها الأحداث: مرهج أبوشال، خليل أبوشال، ذهبية، ناصر، سالم الاخوث، سلامة، زين المحضر، نجوى، أرجوان، وفقاقيع كائنية تظهر وتختفي هنا وهناك.

يعالج الناقد ثيمة الأنوثة/ الألم، إذ إنّ الأنوثة هي الألم المحض، الوجع الذي لا يفتأ ينتشر من بدء الرواية إلى منتهاها، مكتسحا حيوات حياة، رجاء، ذهبية وزين المحضر… إلخ. بيد أن هذا الألم يفترسنا في الحقيقة من “الإبيغراف/ نص التصدير” ذاته الذي يتصدر الرواية (أنْ تكوني إمرأة، هذا ألم/ تتألمين حين تصيرين حبيبة/ وحين تصيرين حبيبة تتألمين/ وحين تصيرين أما/ ولكن ما لا يطاق على هذه الأرض/ هو أن تكوني امرأة/ لم تعرف هذه الآلام كلها ص 5 (بلاغا ديمتروفا – شاعرة بلغارية).

ويتناول الناقد سلطة الذكورة وقسوتها، إذ إنّ سرد كينونة المرأة لم يكن سوى وسيلة لفضح خطاب الذكورة وممارساتها وسلطتها، باعتبارها سلطة مستمدة قوتها من تاريخ طويل من تعاضد الاجتماعي والديني والسياسي ضد النساء والحرية والفكر ليصنع هذه الهيمنة ويكثفها في جغرافيا النسيج الاجتماعي، ثم يدمغها باسم الذكورة، التي حاولت وتحاول إزاحة الأنوثة من المجال العام مع الإبقاء على حضورها الخافت، لكنها من حيث تعي أو لا تعي، لا تكتمل إلا بالأنوثة التي تأخذ منها وحدها معنى الذكورة ذاته.   ويتناول حسين رواية “عشبة ضارة في الفردوس” عبر العنوان، الميتا – سرد، وخطاب السلطة.

يذكر الناقد أنّ الرواية الكردية المكتوبة بالعربية تنزع أو تحاول، في ظل منع اللغة الكردية وتحريم تداولها في المؤسسات التعليمية وعدم الاعتراف بها في الدستور السوري، إحداث اختلافها أسلوبا، ثيمات، زمكانا، إستراتيجيات وقوى نصية، وخير مثال على ذلك بحسب المؤلف رواية “عشبة ضارة في الفردوس” للروائي هيثم حسين.

يتخذ هيثم حسين في روايته شمال شرقي سوريا كبؤرة مكانية لأحداث روائية ضارية، إذ يمكن التمثيل لها تصريحا ببلدة “عامودا” ذاتها كما تشير الإيماءات النصية، وذلك قبل أن ينتقل الروائي إلى اختلاق بؤرة مكانية أخرى تناظرها في ضواحي العاصمة دمشق (قرية المنارة) يشغلها كرد حاصرتهم موجات الجفاف في “الجزيرة” (المقصود الجزيرة السورية) فألقتهم هناك دون دليل رفقة نازحين سوريين من الجولان، لتنتهي الرواية بزج بؤرة مكانية ثالثة متخيلة (البحر – أوروبا) تلميحا بوصفها إمكانية مكانية فحسب مع حركة الثقب الأسود “للثورة” واتساعها ومن ثم ابتلاعها لسوريا، وذلك بعد أنْ أممتها الجماعات الإسلامية لتحقيق أحلامها السردية.

ويرى الناقد أن في هذا المتصل الزمكاني الثلاثي تحيط الرواية بعوالم الكرد وسرديتهم عبر فواعل سردية تنهض من قاع المجتمع (بريندار، عائلة موردي، خربو، وردة، بهو، جميلة، جيمي…إلخ ) وسردية السلطة البعثية وأساليبها المرعبة في التحكم بالمنطقة الكردية من خلال عامل سردي (المساعد الأول) وبرامجه السردية المتعددة لمحاصرة البلدة الكردية الشهيرة بعد أحداث 2004.

ويتناول الناقد رواية “سلطة أصابع” للروائي ثائر الزعزوع، فيرى أنها تقدم شخصية مركزية “مها جاد الرمح” في أربعة فصول على خلفية الجحيم الذي ابتلع سوريا (مها الأولى: عوالم غير مرئية، مها الثانية 180 درجة، مها الثالثة المنفردة 3، مها الرابعة وجوه مستعارة)، واستنادا إلى هذه التحولات في كينونة “مها” وفي علاقتها بالعالم تتحدد أشكال البهيمية التي تشكل ثيمة هذه السردية، وأولى أشكال البهيمية تلك التي تتصل عن قرب بحياة الشخصية المركزية في الرواية.

يقول الناقد إنّ في الفصل الأول من الرواية (مها الأولى: عوالم غير مرئية)  يضعنا الروائي على حافة حادة للبهيمية كثيمة تكتسح الرواية برمتها، وذلك بعد قرار الزوج أن يتزوج امراة ثانية، “أخبرها بالأمر وكأنه يخبرها بأنّه سيتأخر في العودة إلى البيت هذا المساء مثلا (…) قالت له: لست سوى حيوان لا تستطيع التحكم في غرائزك”. المعيار الضابط بالنسبة إلى مها هنا هو “التحكم” في الغرائز لنفي البهيمية عن “الإنسان” من حيث أنّ البهيمية خروج عن نواميس وأعراف تميز مؤسسة الزواج في ثقافة ما.

المكان والسرد

أما رواية “ممر آمن في عفرين” للروائي جان دوست فيرى الناقد أنّها تمثل منظور الآخر، الآخر الكردي روائيا، إلى “المكان” مكانه حين يتعرض إلى الاغتصاب في سياق “الانفجار السوري”، وتحديدا حين يتعلق هذا المكان بمنطقة مثل “عفرين” التي تستبد بهذه الرواية من ألفها إلى يائها، مع إشارات إلى منبج وحلب كعتبتين لصناعة الحدث الروائي، إذا جاز التعبير، وهو ما يمكن للمرء أنْ يتلمس إرهاصاته الأولى في العنوان الفرعي الذي يستعيد معه حضورا مضاعفا للعنوان الرئيسي “ممر آمن في عفرين” وانتهاء بـ”ليلة التحولات الأخيرة” الفصل الأخير والكابوس المرعب الذي أفنى “كامو” في مخيم لاجئي عفرين.

كامو (كاميران) الروائي الذي قاد السرد بحنكة ومهارة عاليتين (وهنا نجد قوة السرد حيث يذوب المؤلف صوتا أو يتلاشى ويتقدم المشهد الروائي بقواه الفاعلة بشرا وأمكنة وأحداثا وزمنا)، كامو لسان حال أسرة كردية صغيرة في منبج، يختطف التنظيم الإرهابي “داعش” والده الطبيب فرهاد، فتضطر الأسرة المكونة من الأم ليلى آغا زادة وأطفالها الثلاثة (كامو وآلان وميسون) إلى الهجرة إلى حلب التي تفاجئهم بمقتل الطفلة ميسون بشظية قنبلة، فلا تجد الأسرة سوى “عفرين” مكانا تلتجئ إليه، لكن أحداثا جديدة تقودهم إلى مصير يتلاشى في المجهول.

يرى الناقد أن رواية “وطأة اليقين” لهوشنك أوسي تتأسس وفق تضاريس وطبقات متعددة من الخطاب أو أنّ ثمة ممارسات خطابية ثلاثا تأتلف مع بعضها وتتداخل فيما بينها لتشكل متن الخطاب السردي في هذه الرواية.

أولا الخطاب – المراسلة: وهذا المستوى يراكم عن مراسلة بين معتقلين سوريين: العلوي حيدر لقمان السنجاري وصديقه الأرمني هاغوب زاراداشتيان. وفي هذا القسم ينتقل حيدر السنجاري كقوة فاعلة في النص السردي بعد فقدان الإيمان “أكاد أختنق، مات بروميثيوس” أو انسداد الأفق بانبثاق لحظة تاريخية جديدة في العالم العربي عامة وسوريا خاصة إلى استعادة الأمل بقدوم هدير الحرية (غروب الأصنام، لحظة القيامة).

ثانيا جسد الخطاب (ساحة لابورس)، هنا ينفسح جسد الخطاب ليغدو تضاريس معقدة من الأمكنة بروكسل، أوستند، دمشق، تونس، بيروت، أنطاكيا، واشنطن، حيث تغدو ساحة “لابورس” في بروكسل البؤرة المكانية التي تستقطب مجموعة قوى فاعلة ترسم فضاءات الرواية وتقوم بأحداثها: رولان كاييمي، كلارا، جورجينو، الذين خضعوا لعمليات زرع الأعضاء (الكبد لرولان، الشبكية لجورجينو، والكلية لكلارا) وهؤلاء يرتبطون بصداقة مع الصحافي الكردي ولات أوسو والمواطنة البلجيكية كاترين دو ونتر، إلا أنّ ما يجمع الشخصيات الثلاث حصرا بعد زرع أعضاء جديدة في أجسادها هو شعورها الغريب بالانحياز العاطفي للثورة السورية ومن ثم المشاركة في اعتصاماتها ببروكسل، فضلا عن الاهتمام الجيد والطارئ بالفن والأدب والثقافة.

ختاما فالكتاب النقدي الذي بين يدينا كتاب مميز وهو نادر ومهم لجهة تغطيته النقدية للمشهد الروائي السوري الذي يتناول الزلزلة السورية روائيا، فالكتاب إضافة نقدية لافتة في المشهد الأدبي والنقدي السوري خصوصا والعربي عموما.

المصدر: صحيفة العرب 


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم