كثيرا ما يستهويني الكاتب السعودي، الأستاذ/ ماجد سليمان فيما يكتبه من انتاج أدبي ابداعي، يتمحور حول استلهام التاريخ القديم والتراث والموروثات الشعبية، بجانبيها: الشفوي/المحكي والمدون، مع مقدرته الفائقة على استيعاب هذا الزخم الهائل من الارث الحضاري الانساني المتوارث عبر الأجيال خلال قرون طويلة من الزمن، وتمكنه المعرفي من الالمام بهذا الموروث، والولوج المتماهي في تفاصيله الدقيقة الى حد الاندماج، وذلك في محاولة لاستعادة قراءته من جديد، ليس بقلم المؤرخ الباحث فحسب، ولكن أيضا بروح الأديب، الذي يضفي على هذا الموروث شيئا من الشعور بمكوناته والانتماء الجسدي والنفسي اليها!

ومثل ذلك تمثل لنا فيما سبق نشره لماجد سليمان من أعمال أدبية تاريخية، جعلت من تاريخ (اقليم نجد) القديم مرتكزا لفضائه السردي والشعري، تصف مظاهر الحياة العامة والخاصة للمجتمع النجدي خلال عصوره السابقة، خاصة في بعض أعماله المسرحية والروائية، مثل: ( عين حمئة - عام 2011م) و(ليل القبيلة الظاعنة – عام 2019م) و(نسوة السوق العتيق – عام 2020م) وغيرها.

وكانت روايته الأخيرة الصادرة هذا العام 2023 م المعنونة بـ (خان جليلة) هي آخر أعماله السردية التاريخية، والتي هي محور حديثنا في هذه القراءة.

ففي هذا العمل الجميل استطاع الكاتب بـ (حرفنة) متقنة أن ينقلنا – كقراء – مع قلمه الى (البيئة النجدية) نحو منتصف القرن الحادي عشر الهجري، ليحكي لنا – بلسان الراوي- قصة ذلك الفتى المشرد،المدعو بـ (أبي النجاة النجدي) وهو أحد سكان بلدة (جو) بـ ( نجد) وقصته مع (الاسترقاق) بالرغم من كونه حرا أبيض،وما آل اليه حاله ،حين قام أحد (تجار الرقيق) المعروف باسم (الجديسي) باقتياده عنوة ضمن مجموعة من العبيد السود لبيعهم في (سوق النخاسة) بـ (حجر اليمامة) حيث اشترته هناك سيدة ذات مال وجاه،تدعى (سفانة) وهي من أثرياء ووجهاء مدينة (حجر) ليعمل لديها ناسخا أو كاتبا، أوكلت اليه مهمة توليه الأرشيف الورقي المخطوط ،الخاص بتجارتها من عقود ومبايعات،وتقدير ديونها وتحصيلها... الخ وذلك لما عرف به (أبو النجاة) من اجادته للقراءة والكتابة وحسن الخط، في زمن يقل فيه من يجيدون القراءة والكتابة ويحسنونها،هذا فضلا عما واجهه هذا الفتى المغلوب على أمره من متاعب الحياة ومصاعبها، كإنسان عاش مشردا، وحيدا بين سندان الغربة عن الأهل والبعد عن الديار التي عاش فيها،وبين مطرقة الاسترقاق. 

وللمعلومية فان (حجر اليمامة) هي قاعدة اليمامة الشهيرة في ذلك الزمان، وهي التي قامت عليها بعد اندثارها مدينة (الرياض) حاليا.

ان من يقرأ هذه الرواية ،ويتمعنها جيدا سيتضح له – بسهولة – أن كاتبها – كطرف أول- قد انفصل تماما عن الراوي – كطرف ثان- فيما يتعلق بالبناء السردي والحواري لهذا العمل ككل، فالكاتب (معاصر) يعيش العصر الراهن، وهو (متوار) وراء السرد والحوار، لا يظهر للقارئ الا لماما (في مثل عنونة الفصول أو رسم بعض المشاهد)، بينما يكون (الراوي) في الوقت ذاته هو الشخصية البارزة المباشرة التي لازمت القارئ، وكانت في مواجهة شبه دائمة معه،منذ بداية القصة حتى نهايتها، وهي شخصية (ماضية) أو غائبة عن الزمان الحاضر،استطاع الكاتب – بمهارة- استحضارها بطريقة غير مباشرة لتحل محله.

وهنا يكمن سر جمال الرواية، وبراعة كاتبها في الفصل بين ذلك العصر القديم الذي تدور خلاله أحداثها وتفاصيلها، وبين العصر الحالي، الذي يعيشه الكاتب نفسه،بفارق زمني كبير، يفوق أربعة قرون من الزمن، وهو – بلا شك- فارق زمني له تأثيره الكبير على (المكان) أيضا، وتغير ظروفه وطبيعته مع مرور الزمن، وله انعكاساته المتباينة على المجتمع الذي يعيش فيه، وعلى سلوكياته وتفكيره وأساليب معيشته، وتطورها أو تغيرها من حين الى آخر. 

وبالرغم من وجود هذا الفارق (الزماني والمكاني) الكبير الموغل في القدم فقد برع الكاتب في تقديمه لعمل روائي سردي تاريخي، وكأنه أحد أفراد (اقليم اليمامة) في عصورها القديمة، حين يوغل في سرد تفاصيل دقيقة جدا عن حياة أهل هذا الاقليم في ذلك الزمان لدرجة مثيرة للدهشة والعجب.

ليس هذا فحسب، وإنما كانت لغة الرواية أيضا لغة (معايشة) للغة العصر الذي تتحدث عنه، تنبع مفرداتها وتراكيبها وتعابيرها من العصر نفسه، ومن لغة أهله وبيئتهم، وليست خارجة عنها، مما أكسب العمل نوعاً من المصداقية والواقعية. 

وهذا بالتالي كله مما يدل على ثقافة الكاتب الواسعة ومعرفته الدقيقة بتاريخ هذا الاقليم والمامه بجميع ما يتعلق بمعطياته.

المصدر: مجلة اليمامة 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم