لطالما لفتتني الأقلام النسائية، نزعةٌ لبنات جنسي ربما، تطلٌع لفكرهن في أنحاء المعمورة، وبالتأكيد فخٌر داخليّ ببصمة يتركنها على تباين الأدب الذي يخترنه.

ولعلي لن أفضح سني عمري، عند البوح أنّ أول قراءاتي أمست لكوليت خوري، غادة السمان، نوال السعداوي، فرجينا وولف ومن الكاتبات السعوديات سميرة خاشقجي التي لامست شخصي المراهق آنذاك في رواياتها؛ بريق عينيك، ذكريات دامعة وقطرات من الدموع. 

بعد سنوات طويلة، شكل حدثان، يخصّان كاتبتين سعوديتين، فارقًان في الإشارة عربيًا فعالميًا إلى بهاء حضورهن ضمن عالم الرواية، الأدب الجماهيري الأكثر انتشارًا ومقروئية في "زمن الرواية" كما وصفه الناقد الراحل جابر عصفور. 

أولاهما، حينما تسمرت متابعة حوار الإعلامي زاهي وهبي مع الطبيبة رجاء الصانع، عبر برنامجه "خليك بالبيت" إثر ضجة كبيرة أحدثتها روايتها "بنات الرياض" الصادرة 2006 عن دار الساقي، حيث اعتبرها البعض إساءة للمجتمع السعودي،بينما امتدحها العظيم غازي القصيبي قائلًا "هذا عمل يستحق أن يقرأ، وهذه روائية ينتظر منها الكثير" وهي بالفعل نص إبداعي كشف اللثام عن حصار فكري من الموروثات واقع به الرجل تمامًا مثل المرأة.

في ال 2011، برز اسم رجاء عالم عندما حصلت على جائزة البوكر العالمية بنسختها العربية مناصفة مع المغربي محمد الأشعري عن روايتها "طوق حمام" كأول امرأة عربية تنالها.

لم تكن تلك روايتها الأولى، فقد سبقتها اثنتا عشر رواية تُرجمت بعضها إلى الإنجليزية والإسبانية، تجلت في سطورها مدينة مكة التي تنحدر منها الكاتبة وتسكن روحها، لذا حولتها إلى مسرح لأعمالها الأدبية، أضفت عليها صورًا مٌتخيلة، منقبة عن أسرار هذا المكان المقدس، كاشفة عن خباياه، في تكريس جليّ للهوية النسائية.

تستهل الكاتبة السعودية روايتها "بَاهَبَل، مكة Multiverse " الصادرة حديثًا عن دار التنوير تقديمًا يوحي بواقعية حكاية سردها البطل عباس أو نوري مابين نوفمبر 2009 وابريل 2012  مشيرة تحريفها أموراً لتبعدها عن أن تبدو قصة عائلة بعينها، ناعتة إياها بـ "الصوت القديم يكتسي صوت العصر لأنه جزء من تاريخ مسيرة المرأة في تلك البلاد"• 

يقول كونديرا: إن روح الرواية هي روح التعقيد، وإن كل رواية تقول للقارئ إن الأشياء أكثر تعقيدًا مما تظن. ولا شك أن عالم اتبعت هنا قول التشيكي كونديرا بحذافيره! حيث تبدأ الرواية بمشهد انتحار أستاذ في الجامعة (هكذا ظننت) من عائلة السردار العريقة، في قصر العائلة القديم بمكة، بعدما ترك رسالتين كتب على الأولى "إلى من يهمه الأمر" والثانية  "إلى هيئة كبار العلماء"، لترتحل الكاتبة إلى مشاهد قديمة من حياة عماته نورية، حورية وسكرية بدءًاً من 1946.

قدمت الرواية صور الحياة في مكة، من خلال خصوصية أسرة عريقة، ذات نفوذ ووجاهة، ظهر كبيرها مصطفى وكأنه سي السيد عبد الجواد بثلاثية محفوظ، يتحكم بأمور الأبناء والبنات معًًا، فيحرم ابن من دراسة يريدها، ويزوج بناته ممن أختاره لهن، ليرتسم المكان بطلًا أوحد حتى النهاية.

اعتمدت الروائية في بناءها للنص على رسم معالم الشخصيات الرئيسة، حيث أكسبت كل منهم كينونة خاصة، جعلت هوياتهم متفردة، غير رتيبة وبذات الوقت متكاملة ومتعايشة، فطرحت أفكارها بأسلوب لغوي متمكن، صياغة ترتكز على المكان، بيئة ولهجة في تصاعد زمني اُختتم بحديث عن الموت كما البداية. 

هل ورطت رجاء العالم القارئ بحكايات متفرعة؟ حيّرته كلما توغل بالسيرة؟ أي أصنام أرادت هدمها؟ صنم العيب مثلًا؟ "أكبر حبس عشناه كان في كلمة "عيب". عيب تخرج، عيب تشوف، عيب تسمع، عيب تضحك بصوت أو تردّ كلمة بنقاش. تعرف القَضَاء والقَدَر؟ كلمة الكبار قضاء وقدر يحرم علينا نرده أو نناقشه" وأي حرية رغبت فيها؟ القرار أم الفرار!

رواية مكيّة من الطراز الرفيع، تعبق بمسك طيب أهلها، فيها من التلصص على عوالم النفس البشرية، ما قد يفسر تشتت الأحداث في بعض المواضع، أو لعله انفلات للذاكرة وقعت فيه عالم تخمينًا مني كتابتها النص في اوقات متباعدة، فما بين الجدة سكينة وداليا، جهيمان والفيلم التسجيلي، عباس ونوري عوالم تتأرجح ما بين اليقين والواقع، التوهم والخيال.

باهَبَل المكيّ تغلب على أناه، جمّع أشلاؤه الموزعة على الأرض، وسطّر أيامه تاجرًا حينًا، وأستاذًا في الجامعة أحيانًا أخرى. "لكن الواقع أخطر من أي حكاية مؤلفة، وأحيانًا يعجز العقل يصدق الواقع".


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم