خديجة مسروق - الجزائر

ضمن سردية غارقة في الغموض والالتباس يقدم الروائي المغربي "خالد أخازي” للقارئ رواية قلقة تصور نموذجا عن واقع الاغتراب والاستلاب الذي اعترى الإنسان العربي المعاصر.

مغامرة جريئة راهن عليها الروائي بكل شجاعة لحنكته وقدرته على التجريب والتجديد في مجال السرد. "صريع الخوالي هي الجزء الأول من روايته” أسفار ملحمة عشق في زمن الغضب "الصادرة في أكتوبر من هذا العام «2022” والتي سيتبعها بجزأين هما قيد الكتابة. وقف فيها على جذور الأزمة، أزمة الإنسان العربي والمغربي على وجه الخصوص في زمن الحداثة.

اتخذ من الدار البيضاء المغربية نموذجا لهذه التحولات التي يخضع لها المجتمع العربي في كل الأحوال.

كسر نمطية السرد التقليدي، بخروجه عن فضاء الحدث المتكرر الذي نلاحظه في أغلب النصوص الروائية العربية باقتحامه دائرة الهامش مشرعا الأبواب أمام القارئ على أحد الموضوعات الحساسة التي ظلت حبيسة زنزانة العرف الثقافي والاجتماعي العربيين.

تعرض الروائي إلى موضوع الجنس الثالث الذي يعرف بجنس المخنثين، وهو بهذا يعد من الروائيين القلائل جدا الذين تعرضوا لهذا الموضوع..

«قد لا يكون الشّر دائما بالعنف، قد يكون الشّر من خلال إعجابنا بذلك العنف «مقولة افتتح بها الروائي نصه للشاعر الأمريكي «جيم موريسون «تدين الشّر؛ الشّر الذي يعد أساس الفساد في العالم.

بطل الرواية "عزيز" محام متزوج من "أمينة" يعيش في شقة بإحدى العمارات في الدار البيضاء. تعيش معه والدته "حبيبة" مسنة أعياها المرض. "عزيز" رجل أربعيني يتميز بالطيبة والهدوء، انطوائي كانت الحانة جزءا من وجوده اليومي. تعرض للاعتقال على إثر أحداث " يونيو 1981” التي وقعت بالدار البيضاء، حين خرج المواطنون في احتجاجات على الزيادة في الأسعار وأيضا ضد الظلم الذي تفشى في البلاد. ساعتها وجد “عزيز“ نفسه مرغما إلى جانب المحتجين. وذلك لما خرج للبحث عن قارورة غاز لأمه ليتفاجأ بتدفق تلك الحشود.

ثبتت عليه التهمة كصوت احتجاج وقد عقّدت قارورة الغاز التي كان يحملها قضيته، إذ اتهم بأنه يعمل لصالح إحدى المنظمات الإرهابية جاء ليفجر قارورة الغاز وسط المحتجين. تعرض لأبشع أنواع التعذيب داخل السجن، كان يفقد وعيه تحت التعذيب في كثير من الأحيان.

كان معه سجين يدعى “عمر “بلغ من الصلابة والجَلد في تحمله للتعذيب ما لا تتحمله الجبال “كان مؤمنا بقضيته لحدّ الموت … قدم لهم جسده فعلوا به ما شاؤوا… لكنهم عجزوا أن يسلبوه من قلبه… روحه… فكانوا كلما عذبوه يعذبون أنفسهم بإصراره “الرواية ص 274 أخذ منه “عزيز “شيئا من الجّلد ولينسى العذاب الأليم كان يحلق بروحه إلى عالم الخيال، لينجو من سياط التعذيب.

بعد سنة من السجن خرج «عزيز” إنسانا آخر، محطم الإرادة مكسور العزيمة وفقد عقله كثيرا من التوازن. وظلت تلك المرحلة المؤلمة من حياته تلاحقه أينما ذهب.

الرواية تبدو عادية في الصفحات المائة الأولى، ثم تتعقد الأحداث وتتأزم وتبدو الشخصيات ملغزة مع أنها تحاول إظهار الوجه الحسن لتمويه القارئ..

"الدار البيضاء" المدينة الجديدة تحول فيها كل شيء. تبدلت سلوكات الناس وتخلخلت القيم التي شبّ عليها أفراد المجتمع المغربي. وغابت معاني الإيثار والرحمة والمودة، وحصلت الفرقة و القطيعة بين الجيران والعائلات بعد ما كان يلمهم بيت واحد و” طعام واحد … مطبخ واحد … كانون واحد … قبل أن تتعدد في الدار الواحدة الكوانين “الرواية ص 32 وذلك حين عرف الانسان أشكال الحضارة المستوردة وجاءت المدنية والعصرنة بكل مظاهرها في اللباس و العمران و الحياة، وتخلفت عن العقول والنفوس والقلوب … متى ندخل الحضارة الجديدة من بوابة الأخلاق قبل بوابة المظاهر؟ “الرواية ص 82.. يبدي الروائي استياءه وتقززه من التقليد الأعمى والخاطئ لحضارة الآخر.. ماذا لوصرنا جزءا منها لكن بقيم المودة و الإيثار والتسامح وو.....؟

“أمينة “زوجة «عزيز “صنعت لنفسها عالما خاصا بها. تعيش مع عالم المسلسلات تتفاعل مع شخصياته تتألم لألمهم وتبكي حين يبكون، بينما تتجاهل ألم “حبيبة “والدة زوجها المريضة التي هي من لحم ودم.

مات الإحساس داخل الإنسان وأصبح لا يشعر بالأشخاص من حوله، وركن إلى العوالم الخيالية والافتراضية التي جادت بها التكنولوجيا الحديثة. فرض على نفسه حصارا بعيدا عن الواقع.

لماذا يا ترى هذا الهروب من الواقع، من الناس، من المجتمع؟ وهل أصبحنا في زمن يستلزم علينا فيه العزلة و تجنب الآخرين قدر الإمكان؟

هل أصبح الآخر إلى هذا الحدّ مصدر إزعاج لنا، مصدر خوف وقلق؟

وهل على الإنسان اليوم أن يكون محايدا، ليشتري راحة باله، لينفذ بجلده حتى لا يكون ضحية افتراءات أو تظلمات. لكون الشّرور تحيط به من كل مكان؟

لماذا لا تكون الحياة موقفا شجاعا وبطوليا؟ الروائي يرفض المحايدة ويعدها من أشكال الجبن والنفاق «فالحياد أرخص موقف… بل هو موقف جبان… موقف المنتظر نهاية أزمة، ليعلن انتماءه للصف المنتصر “الرواية ص 18.

المدينة القديمة تدخلها الحضارة وتداهمها رياح العصرنة العاتية. يتغير فيها كل شيء. الدار البيضاء المدينة الجديدة وبنزوح أعداد كبيرة من سكان القرى وتردد السياح الأجانب عليها باعتبارها معلما سياحيا تطل على البحر لم تعد هي المدينة القديمة. أصبحت مدينة المتعة لكل باحث عن اللذة. أصبحت بؤرة للفساد وتفشي الرذيلة..

"الشيظمي" حارس العمارة التي يسكنها "عزيز" المحامي بطل الرواية. كان يحاول التقرب من "عزيز" لكن بالرغم من أنه لم يلحظ عليه أي انحراف في سلوكه. وكانت تبدو عليه مظاهر الطيبة إلا أن "عزيز" ظل متحفظا في علاقته به يتعامل معه بحذر.

كانت توجسات داخلية تحذره منه. مظاهر القلق والتوجس من الآخرين يلازمان «عزيز” كلما اقترب منه شخص للحديث معه.

في بعض المواقف يجد الواحد نفسه يدين بعض الأشخاص استجابة لافتراضات أو شكوك تراوده. يحاكمهم دون أن يمنح لهم فرصة الدفاع عن أنفسهم..

“منير “أحد جيران «عزيز “أول تعارف لهما حين كانا في المصعد. ما لاحظه “عزيز “أن جاره هذا تبدو عليه الشخصية الأنثوية. “منير «من الجنس الثالث “خنثى“هذا الجنس الذي لا يتقبله المجتمع و يخجل الأهل من وجوده بينهم “منير أو المرأة الحبيسة، ضحية جسد يعيق إعلان الأنثى الحقيقية، يخنق ضجة الأنثى الداخلية “الرواية ص 250.” منير “نبذه أهله والمجتمع بأكمله.

“منير “لم يختر أن يكون بهذا الخَلْق. قررت عائلته منذ ميلاده أن يكون ذكرا. حاول الإذعان لقرارهم بترويض جسمه على ذلك، لكن الأنثى الحبيسة بداخله تتمرد..

من الصعب جدا بل من المستحيل أن يعيش الإنسان بهويتين، أمر قاتل أن يعيش حبيس هوية مزيفة “منير “استجاب للأنثى التي بداخله ولأن مجتمعه لن يتقبله كما هو، قرر الرحيل “الأنثى… ليست جسدا فقط … الأنثى روح … عقل … كل شيء أكبر من هذا الجسد المزيف “الرواية ص 248. اختار “منير “الحانات ودور القمار كملاذ للهروب من واقعه والتخلص من نظرة الاحتقار التي يراها في أعين الآخرين..

شخصية خطيرة لها وقعها الخاص في الرواية “سليمان “أو “الحاج سليمان “كان مالكا للعمارة التي يسكنها “عزيز «. باع شقق العمارة واحتفظ لنفسه بشقة ليمارس فيها متعته العابرة.

“سليمان “أحد حيتان السوق كانت له علاقة مع صناع القرار. تجبروا تغوّل. حرم سكان بلدته من أراضيهم، ابتاعها منهم ظلما و جورا. التقى “عزيز “بـ “سليمان” مرة واحدة شاهده مع حارس العمارة “الشيظمي “الذي كلفه بنقل بعض الصناديق إلى شقته. هذا المشهد أثار شكوك “عزيز” وزادت توجساته نحو “الشيظمي “ما سر علاقته بهذا الشخص وماذا يوجد بداخل تلك الصناديق؟ يتساءل “عزيز “و كله ريبة و قلق..

“زينة “زبونة جديدة تزور “عزيز“ المحامي في مكتبه. تطلب منه أن يتكفل بالدفاع عن قضيتها. «زينة “بلباسها الغريب، بأنوثتها الصارخة، بتبرجها وتحررها اللافت للانتباه، كل ذلك سمح للشك أن يتسلل في نفس” عزيز “حول شخصية هاته المرأة. فهل هي جاسوسة تعمل لحساب جهة معينة جاءت لتجس نبض “عزيز“؟..

لكن “عزيز “مواطن مسالم ليس لديه أعداء ولا خصوم وسجله خال من حادثة اعتقاله. فلماذا كل هذا الخوف الذي يتسرب إلى نفسه من حين لآخر؟

“زينة “من أصول أمازيغية تنحدر من قرية “آيت ادرار “عصامية التعليم اكتسبت ثقافتها من عند السياح الذين يفدون على منطقتها من كل مكان. تكتب الشعر وعاشقة للرواية..

شخصيات الرواية جميعا يلفهم الغموض يرتدون قناع البراءة المزيفة. “زينة “سردت على محاميها شطرا من مرحلة من مراحل حياتها ثم غادرته لتختفي زمنا طويلا. فلماذا حدثته بذلك، وما دوره وعلاقته بقصتها؟

“زينة “كانت هي النقطة المفصلية في الرواية وبظهورها بلغت عقدة الرواية ذروتها. ظلت تظهر من حين إلى حين لتسرد على “عزيز “جزءا من قصتها ثم تختفي.

“زينة “تزوجت في سن مبكرة من “مراد “أحد السياح الشباب أعجب بها فطلبها للزواج. أنجبت “أنيس “يلقى “مراد “حتفه على اثر حادث مدبر من طرف عمها “سليمان “الذي كان يريدها زوجة لابنه “عبد السلام “المغترب “بفرنسا. بعد ان تم زواجها كلف “الشيظمي “حارس العمارة الذي كان يقود شاحنة صهريج التابعة لـ “سليمان “بدعس السيارة التي كان يركبها "مراد". أصر عمها “سليمان “تزويجها لابنه المغترب. وخوفا من بطشه قبلت به.

يصاب ابن عمها “ع السلام “بمرض نفسي نتيجة لكابوس “مراد “الذي كان يأتيه ليلا وظل يقض مضجعه حتى انهار وسلم روحه للانتحار. ترك رسالة تدين والده “سليمان “بقتل "مراد". أرادت الانتقام من عمها لكن أمام تهديده تراجعت. لفق لوالدها تهمة المتاجرة بالمخدرات لأنه رفض بيع أرضه. توفي خلف القضبان وماتت والدتها قهرا. ولحاجتها للعمل والمال باعت ابنها لعائلة ميسورة لتحرم من رؤيته للأبد.

اتجهت للعمل في الحانات وفي دور الدعارة. تعرفت هناك على الوجه الخفي لعبدة المال ومحبي الزعامة.

كانت “زينة “قد وضعت “عزيز “تحت المراقبة حين سمعت أن محاميا كان شريكا لعمها في مؤامراته اعتقدت أنه أحد رجاله لذلك كانت تظهر وتختفي في الوقت نفسه كان “عزيز “متوجسا منها معتقدا أنها تتربص به لتؤذيه.

وجاءت ليلة الاعتراف حين دعته إلى شقتها. يستغرب حين يجد “منير “ما سر وجوده عندها؟ “منير “خادم “زينة «.. يعترف لـ “عزيز “بفضل “زينة “عليه “زينة …هي … التي حررتني … وعرضتني على طبيب … وقريبا سأخضع لعملية تحويل الجنس … سيكون محكوم عليّ الا أنجب.. لا يهم … ولكن سأكون في جسدي الحقيقي الذي يناسب عواطفي … ميولي … عقلي “الرواية ص 250.هذه حقيقة “منير “الذي يفضل اسم “منيرة «..

شخص آخر يلتقيه “عزيز “في تلك الليلة عند “زينة “وهو “الشيظمي “الذي يعمل مع “سليمان “سرا. “سليمان “أو “الحاج سليمان “الذي عاث في الأرض فسادا. أرغم سكان «آيت أدرار “على بيع أراضيهم واشترى منهم أصواتهم في الانتخابات بالتهديد والمال ليصل إلى البرلمان، وصار كل شيء يسير بإذنه. أنشأ دورا للدعارة وتفشت الرذائل و “اختلطت الأمور على الناس … فقدوا كبرياءهم… أنَفتَهم وهم يرون الدعارة تنتشر في الأحياء والأزقة … وباب العهر مشرعا تحميه كلاب مسعورة …. استبعد ـ سليمان ـ الناس قهرا وإملاقا فصاروا عبيدا في ثوب أحرار “الرواية ص 305. وتحولت تلك القرية إلى ماخور وصارت معقلا لكل باحث عن اللذة. وبمرور الزمن ألف الناس مظاهر العار والفساد..

تكشف “زينة “أوراق “الشيظمي “أمام "عزيز". تحاول أن تأخذ ثأرها منه. تكبله و تقوم بحلق شاربيه، تنزع عنه ثيابه ليصير عاريا..

“الشيظمي “كان الحلقة الضعيفة في سلسلة الفساد التي يتزعمها “سليمان «. “زينة “تنتقم لقهرها، لمعاناتها، لضياعها. أرادت أن يؤدي “الشيظمي “فاتورة ترملها وعذابها لكنها في النهاية اكتشفت أنها عاقبت ظل الجلاد ولم تعاقب الجلاد..

المرأة وحدها بكيديتها يمكن لها أن تسقط الرجل في شباكها وتؤثر عليه متى شاءت ليعترف لها بما ترغب و تريد.” زينة «أدت دور المرأة اللعوب فأسقطت “الشيظمي “من شموخه ليعترف لها بجريمته لتنتقم منه، وأوقعت “عزيز “رغم مقاومته لأنوثتها وغنجها وتجاهل إغراءاتها في شباكها لتعلن عن انتصار عواطفها عليه ويعترف لها بإعجابه بها في النهاية..

تعرض الروائي إلى الصراع بين الوهم والحقيقة الموجود في المجتمعات العربية، من خلال إيمانهم بالخرافة التي عمل المستعمر الأوربي على ترسيخها في أذهان الشعوب المستعمَرَة “خدعوكم ليستعبدوكم “الرواية ص 103.. صورت الرواية ذلك من خلال والدة “عزيز “التي كانت تتردد على زيارة قبة لضريح يُعتقد أنه ولي صالح بينما هو يضم أشلاء رجل نصراني. كانت والدة “عزيز” تعتقد أن جلاء همومها وتماثلها للشفاء عند مرضها لا يكلفها إلا إشعال شمعة عند ذلك القبر..

حبكة النص جاءت متناسقة بحيث لا يمكن إسقاط أي مشهد من الرواية. فهي عبارة عن سلسلة مترابطة من الأحداث المشوقة التي تثير في ذهن القارئ الدهشة و الريبة في آن واحد..

الروائي كان حاضرا في النص يستشعره المتلقي من خلال الشخصية البطلة “عزيز” الذي أدى دور السارد العليم المطلع على حيثيات الأحداث. تمكن من اللعب بعقل القارئ و مراوغته مستخدما عنصر التشويق الذي يفتح أمامه باب التأويلات و التوقعات.

تميزت الرواية بالسرد المشهدي المتقطع، قريبة للسينما منها للرواية. لو تُجسد كفيلم يكون النص قد حقق الهدف الذي ينشده المؤلف على نطاق واسع.

“أسفار ملحمة عشق في زمن الغصب “رواية اجتماعية سياسية. بلغة مواربة أراد بها الروائي أن يحيل مسؤولية عمليات الفساد في المغرب إلى بعض الجهات الحاكمة في السلطة. كشفت الرواية عن مظاهر الفساد و الاستبداد التي تُحول الأحرار إلى عبيد..

التحولات الجنسية عند “منير “ماهي إلا ٩رمزية تشير إلى تخنث بعض المجتمعات العربية وفقدانها لكرامتها. رغبة “منير” في التحرر من جسده دلالة على مظاهر الانسلاخ وتفسخ القيم التي يشهدها الوطن العربي ككل، وعلاقته بالجسد المتحول علاقة الإنسان العربي المعاصر بهويته، الذي استجاب لنداء الحضارة الغربية أخذ عنها كل شيء دون غربلة أو تمحيص فغدا بلا هوية، مسلوب الإرادة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم