سرديته الجديدة تفضح بفكاهة ضارية ممارسات رجال السلطة في نيجيريا

حين قررت لجنة "نوبل" للآداب عام 1986، منح جائزتها للكاتب النيجيري وول سوينكا، لم يكن الدافع الوحيد وراء قرارها تحسين صورتها، إثر إهمالها كلياً في الماضي أدب القارة السوداء الذي منحنا وجوهاً كبرى كانت تستحق أن تتوج بهذه الجائزة، بل خصوصاً الاعتراف بقيمة المسيرة الأدبية لهذا العملاق الذي كان وضع الجزء الأكبر من أعماله الكتابية الباهرة، التي تعد اليوم أكثر من 60 مؤلفاً، ولمع في نضاله الشرس ضد الديكتاتوريات المتعاقبة في وطنه، الذي رمي بسببه عامين في السجن.

بالتالي، نيل سوينكا جائزة "نوبل" كان مستحقاً وبجدارة، في ضوء أعماله الانتقائية، "الواقعية بشكل حميم، بقدر ما هي مبتكرة بشكل محموم"، والمعبرة خير تعبير عن تلك الاستمرارية بين الأدب والسياسة، وبين الفن والمجتمع. ومن لديه شك في ذلك، ما عليه سوى قراءة روايته الجديدة، "أخبار بلاد الناس الأكثر سعادة في العالم" (2021)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "سوي" الباريسية، وتشكل عملاً أدبياً مدوخاً، شكلاً ومضموناً، يدشن عودة صاحبه للكتابة الروائية بعد 50 عاماً من هجرانها.

غلاف الطبعة الأصلية من الكتاب (أمازون)

أسماء وأقنعة

أحداث هذه الرواية الضخمة (444 صفحة) تدور في بلد خيالي، لكن في الظاهر فقط، إذ يكفي تغيير بعض الأسماء، إزالة الأقنعة وبعض أدوات التجميل والتمويه، كي تتجلى نيجيريا بكليتها الواقعية، التي يعمد سوينكا، مرة أخرى، إلى فضح عيوبها في سردية هجائية طويلة نتلقاها، في الوقت نفسه، كرواية مغامرات باروكية وطريفة إلى أبعد حد. نيجيريا، بلد المناورات السياسية والمؤامرات الدينية، بلد الفساد المستشري والتفتيت الإقليمي (يضم نحو 40 ولاية هي عبارة عن إقطاعات منحت لضمان سعادة حكامها وأصدقائهم)، وبلد الشعارات الرنانة التي تغرق دائماً في بحر من الخدع الصغيرة والكبيرة.

لمطالعة هذه الرواية، على القارئ أن يتسلح بصبر عظيم وانتباه أعظم، لأن الإمساك بخيوطها التي لا تحصى يتطلب وقتاً طويلاً والتقدم في الأقل إلى منتصفها، ولأن من كل حدث، من كل شخصية، من كل وصف لمكان ما، تنطلق خطوط سرد لولبية متعددة تذهب في جميع الاتجاهات. لا بد أيضاً من بعض الوقت للتآلف مع أسلوب كتابتها الفريد، والتشبع بمناخها الخاص والمكثف. لكن من يتشبث بها، سيتذوق عملاً أدبياً رائعاً وفريداً من نوعها. إذ ما أن ينتهي سوينكا من تشييد ديكورها وشخصياتها، تصبح حبكتها المعقدة مشوقة جداً، وتنتهي على شكل تحقيق بوليسي حقيقي، بمسارات مشبوهة، ورموز يتوجب فكها، وأسرار عائلية مثيرة. أما لغتها، فلا تفقد شيئاً من حيويتها الكبيرة، ونبرتها الساخرة، حتى الصفحة الأخيرة.

تلخيص القصة التي يرويها سوينكا في هذه الرواية، مسألة عسيرة للغاية نظراً إلى اتساع محاور السرد فيها وتعددها. في البداية يعمد راويها إلى تقديم شخصياتها داخل بيئة كل منها، وأولها بابا دافينا، وهو رجل دجال أسس بدعة تدعي، في تعاليمها، توحيد كل الأديان السماوية والمعتقدات التقليدية، بما في ذلك الزرادشتية، ولا يلبث أن ينتمي إليها معظم النافذين في البلد. لدينا أيضاً الطبيب الجراح مينكا الذي يؤدي دور المراقب، وفي الوقت نفسه، دور الشخصية الملتزمة إدانة تجاوزات مجتمعها والمسؤولين فيه. طبيب جريء إذاً، وفي الوقت نفسه، شديد الإنسانية لكونه يخصص وقته للاعتناء بضحايا التفجيرات التي تقف خلفها مجموعة "بوكو حرام" الإرهابية في شمال البلاد، وهو صديق قديم للمهندس دويول بيتان باين، الذي كان متوقعاً أن يحتل منصباً مرموقاً في الأمم المتحدة، لكن لا تلبث العقبات داخل وطنه أن تعترض تعيينه، خوفاً من نزاهته.

وفي الوقت الذي نتعرف فيه إلى هذين الصديقين، وإلى علاقتهما الجميلة، نكتشف الممارسات الدنيئة والوحشية لرجال السلطة، وتحديداً تلك التجارة المربحة والمرعبة، التي يمارسها بابا دافينا خلف ستار خدماته الروحية، بالتواطؤ مع رئيس الوزراء الماكر والبراغماتي، سير غودي. تجارة تقوم على استغلال تطيرات ومعتقدات محلية تقول إن الأعضاء البشرية تتمتع بخصائص تسمح، في حال صنعت على شكل جرعات سحرية، ببلوغ النجاح، السلطة والثراء، أو بالتسبب بوفاة منافس مزعج. وفي معرض وصفه هذه السوق الكبيرة المتخصصة في "الموارد البشرية"، يكتب سوينكا داخل الرواية: "(...) بالنسبة إلى ما يتبقى من الجسد، أي الكبد والرئتين والكليتين والأعضاء التناسلية والطحال وثدي المرأة والأصابع وجميع الأعضاء الحيوية، لا شيء يذهب هدراً، بل يستخدم في وصفات طبية. أما الرأس (...) فيضمن السيطرة الميتافيزيقية على سائر البشر، سواء أمطرت السماء، أو هبت الرياح، أو أتى يوم القيامة".

طبعة جديدة من كتاب سوينكا (أمازون)

الرمز الغامض

رهان الرواية يكمن إذاً في سعي بطليها، مينكا وباين، إلى اكتشاف رمز (code) سري غامض يسمح باختراق هذا الكارتل القذر الذي يتاجر بالأعضاء البشرية، بغية تفكيكه. لكن كيف السبيل إلى ذلك ومظاهر الأبهة تعمي الأبصار، والحفلات الرسمية المتواصلة ترهق النفوس والأجساد، وتحول الانتباه عما يدور في الكواليس، إذ ينشط رجال السلطة في نسج ذلك الستار الذي من شأنه إخفاء الواقع؟ متى يستيقظ أبناء هذا البلد الخرافي؟ وكيف؟ في النهاية، يتمكن مينكا وباين من الإجابة عن هذه الأسئلة وبلوغ هدفهما، لكن ليس من دون دفع كلفة عالية.

باختصار، تنتظرنا في هذه الرواية ألاعيب وحيل وجرائم فظيعة لا تنتهي، ولا تصدق، تتخفى خلف ابتسامات زائفة وكلام معسول، ولا غاية منها سوى الكسب المادي والتربع على كراسي السلطة، أو البقاء عليها، ولا شيء قادر على ردعها، لا الأخلاق، ولا العدالة، ولا الندم. لكن على رغم القدرات المخيفة لمن يقف خلفها، وأهوال ما يقترفونه، لا يلبث رابط صداقة أن يعطل مكائدهم. رابط فريد وصادق وشريف يجمع رجلين (مينكا وباين) مسلحين فقط بحلم غذياه منذ فترة شبابهما، وحين تحين الساعة، لن يترددا في التشمير عن ساعديهما لتحقيقه، مهما كان ثمن ذلك.

من هذا المنطلق، نتلقى رواية سوينكا الجديدة كمرافعة اتهامية نادرة العنف والبصيرة ضد الطبقة السياسية الحاكمة في نيجيريا وممارستها المشينة للسلطة التي تقوم على استغلال الدين والمعتقدات الشعبية والتطيرات من أجل التلاعب بالناس وإرضاء جشعهم الذي لا حدود له. مرافعة يسلط الكاتب فيها ضوءاً كاشفاً عن حقبة ما بعد الاستعمار من وطنه بغية فضح الكذبة الرسمية التي تقول إن نيجيريا هي "أسعد أمة في العالم"، في حين أنها "الأكثر فساداً في العالم"، وبسبب ذلك يعيش نصف سكانها تحت خط الفقر، على رغم ثرواتها الطبيعية المهمة، وفي مقدمها النفط. فساد متغلغل في كل القطاعات، في كل طبقات السلطة والمجتمع، ينخر النفوس ويقضي على أي حلم بتحويل هذا البلد إلى دولة ديمقراطية حديثة وعادلة تجاه أبنائها.

ولفضح مكامن وجوده، ونتائجه، ومن يقف خلفه، يلجأ سوينكا إلى نثر يشكل، بدقته وأناقته وشحنته الساخرة، خير أداة لبلوغ هذه الغاية، وتعرية في الوقت نفسه منطق المحسوبيات والاحتيال الانتخابي اللذين يتحكمان بالعمل السياسي في وطنه، وآثار الاستعمار. نثر يحول، بفيضه وسطوته، نص الكاتب إلى رسالة هجاء أكثر منه إلى رواية محكمة في صياغتها.

وفعلاً، لا غاية من الأحداث الغزيرة المسرودة في "أخبار بلاد الناس الأكثر سعادة في العالم"، ومن الاستطرادات التي لا تحصى فيها، وتتسم أحياناً بطابع هرمسي، ومن زوبعة الشخصيات التي تعج بها، وتربك القارئ بظهورها فجأة ثم بتواريها، وبامتلاك بعضها هويات متعددة، سوى إيصال سوينكا رسالته الهجائية كاملة إلى أصحابها، وإن أتى ذلك أحياناً على حساب حبكتها. لكن هذا لا يقلل إطلاقاً من قيمتها الأدبية التي تكمن خصوصاً في إتقان صاحبها المذهل جميع الإمكانات النحوية للغته، ومهارته في ممارسة الفكاهة السوداء بفطنة تجعل من قراءة روايته تجربة فريدة من نوعها.

المصدر: اندبندنت عربية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم