وحيدة .. صراع امرأة تركية من أجل البقاءمصادفة سعيدة قادتني إلى رواية زينب قتشار "وحيدة"ـ دون سابق معرفة بالكاتبة ولا المترجمة، ربما هي الثقة في دار النشر "العربي" التي تقدم كل عام عددًا من الأسماء الهامة في عالم الأدب والترجمات، ما إن بدأت السطور الأولى من الرواية حتى وجدتني أتحد معها كليًا، وأقرر أن أواصل قراءتها، فهذا النوع من الكتابة أحبه، رواية مبنية على جريمة في الأصل، ولكنها تنطلق فورًا إلى التعريف بالدوافع الاجتماعية والنفسية التي دفعت بطلة الرواية لهذه الجريمة، ومنها تكشف مسكوتًا عنه في المجتمع التركي  يتشابه كثيرًا مع ما يعانية المشرق العربي، وما تعانية المرأة بشكل خاص في تلك المجتمعات بشكل كبير.

لم تختر زينب قشتار أن تكون بطلتها نسيج وحدها، وأن تعرض مأساة فتاة وامرأة تنتقل من عالم الأحلام لسجن الواقع وكابوس الحياة مع زوجٍ قاسٍ، ولكن كانت "فاراي" نموذجًا مختارًا بعناية لعدد من البنات والفتيات اللائي تم قمعهن وإجهاض أحلامهن بدعاوى اتباع أوامر الدين ورجاله سلطته، ولعل هذا ما منح الرواية بعدًا اجتماعيًا شديد الأثر والتعقيد، وعلى الرغم من بداية الرواية بجريمة قتل، إلا أننا سرعان ما ننصرف إلى حكاية بطلة الرواية "فاراي" والنساء من حولها، وكيف انتهى مصيرهم إلى هذه اللحظة المؤلمة شديدة السوداوية!

نتعرف في الرواية على بطلتها الرئيسية فاراي التي تدور الرواية على لسانها، كيف بدأت حياتها بأحلام وطموحات أن تكون مغنية شهيرة، وكيف تحولت حياتها فجأة مع زوجها "ولي" لكي تكون مجرد ربة منزل ترعى شؤون زوجها الذي يتحوّل من طبيب إلى "شيخ" يقدم رقى للمرضى والمحتاجين، ويمنع زوجته من العمل ومن الخروج من منزلها بل ومن رؤية الناس!

تبرع الكاتبة في وصف حالة بطلتها بشكل أساسي، وتصوير كيف تحوّلت إلى شخصية "وحيدة" بكل ما تمثله الكلمة من معاني، لدرجة أنها تشعر أن أحدًا لم يعد يراها، فهي غير مهمة وغير مرئية، ومن خلال انتقالها بالزمن من الماضي إلى لحظة الحاضر المربكة، نتعّرف شيئًا فشيئًا على التحولات التي حدثت لفاراي داخلت أسرتها البسيطة في البداية المكونة من زوجها ثم ابنتها، وكيف تحوّلت حياتهم بعد دخول الأخت "حواء" وزوجها، ثم انضمام التلميذ "اسماعيل" وزوجته "أسما"، تحكي عن نفسها فتقول:

كنتُ حيوانًا منزليًا كنتُ ثنية الستائر، أطراف السجادة، صابون الحمام، أو إبريق الشاي في المطبخ على أقصى تقدير كنتُ المفرش الدانتيل للمنضدة، طست الغسيل، وسادة كرسي الأنتريه؛ كنتُ دومًا شيئًا تمتلكه في أي غرفة أوجد، أصير قطعة زينة كنتُ شيئًا لن تُحكى قصته، ولن يُذكر اسمه، ولن يُسمع صوته بعد موتك لقد كنتُ حيوانًا منزليًا حيوانك المنزلي ملكيتك الخاصة لم يكن ليؤلمني أيٌّ مما تفعل، فلديَّ مختلف أنواع الحيلٌ مهاراتٌ عدة إن ذيلي مُزخرف، ولحمي لذيذ، وحليبي حلو المذاق، وبيضي بصفارين، كما أن ريشي طويل، وأستطيع أن أطير في الهواء، وأسبح في الماء، وأزحف على السجاد كنت أستطيع أن أزحف، كنتُ حقيرة، مُهانة، لأنه كان عليَّ أن أبقى بقيد الحياة، فالحياةُ واحدة، واحدة فقط، كان عليَّ أن أعيش، لكن ليس من أجل نفسي. آهٍ من تلك الحياة التي لم أذقها أبدًا.

استطاعت الكاتبة أن تقدم من خلال بطلتها، وجوانب من أبطال الرواية الآخرين صورة للمجتمع التركي المقسّم بين عادات وتقاليد شرقية تفرض على المرأة السمع والطاعة والالتزام بأوامر الرجل من جهة، وكيف يمكن أن تقاوم تلك المرأة في لحظة وعي وإدارك خاصة كل ما حولها، وتفرض وجودها وتتمكن من تنفيذ رغباتها، حتى بعد سنوات من القمع والظلم! كما قدمت من جهة أخرى ذلك العالم الخفي لرجال الدين وإن لم يكن بشكلٍ واضح تمامًا ولكنه يبدو من بين السطور، وكيف يقوم على الخداع والتحايل بشكل كبير، وتبرير كل المصائب والجرائم باسم الدين، نتعرف على تفاصيل ذلك من خلال ردود فعل الأبطال، ولعل أكبر تجلياته ستكون المفاجأة التي يتلقاها القارئ في نهاية الرواية.

 المرأة ضحية وجلادًا! 

رغم أن الرواية تسير كلها على لسان الضحية الأولى، إلا أن الكاتبة استطاعت أن تعكس بذكاء وبساطة نماذج مختلفة من النساء اللاتي يمكن أن يتحوّلن ببساطة إلا جلادين لمثيلاتهن! فالمرأة ليست مغلوبة على أمرها في كل الأحوال، فهناك نماذج عديدة ترضى أن تكون تابعة للرجل المسيطر القوي، وليس أدل على ذلك من نموذج "حواء" رغم ما تتصف به من طيبة ظاهرية، كذلك هناك نوع آخر يبدو أن الغشاوة سيطرت على حياتها، وأصبحت ترى الباطل حقًا وتحوّل كل شيء لصالحها، بل وتبدو في عالم آخر منتفعة بكل المزايا التي يمنحها لها الآخر المسيطر، ولعل أوضح مثال على ذلك الابنة "دفنى" التي استطاعت الكاتبة أن تعبّر عنها بشكل بالغ، وتوضح ذلك التحول الذي أصبحت عليه بعد مرور الزمن!

ولعل أجمل ما في الرواية هي تلك التأملات التي وضعت الكاتبة بطلتها فيها، فجعلتها تنظر للحياة والعالم بشكل فلسفي مختلف، يصوّر مأساتها من جهة، ولا يغرق في مليودراما الحدث من جهة أخرى، ولكن يمنح صاحبه تلك القدرة على الوعي والإدراك الذي ربما يكون هو القشة التي تنجي صاحبها في نهاية المطاف :

نعتقدُ أن الحياة هي شيءٌ يحدثُ لنا، بينما الحياة هي فقط حالة من الوجود هناك، وهنا، وفي كل مكان ليس لها عينٌ عملاقة تتابعنا بها من بعيد، ليس لها مخ؛ لا تُطلق علينا الأحكام، لا تفكرُ فينا، ولا تشفقُ علينا، ولا تحبُّنا، لأنها لا تملك قلبًا في الأساس لن تحدثُ لك أمورٌ طيبة لأنك إنسانٌ طيب فها أنا؛ رغم كل الشرور التي كدَّستُها داخلي، ظهر لي “چيهان” هل استحققتُ ذلك؟ بالطبع لا لقد حدث من تلقاء نفسه، وليس له أدنى علاقة بالخير أو الشر أو الاستحقاق أن أستحوذ على جلِّ فكر إنسانٍ ما، أن أصبح الإيقاع الذي يدقُ عليه قلبه، أن أغدو بؤرة اهتمامه، وعالمه، والشيء الوحيد الذي ينظر إليه، الشيء الوحيد الذي يراه!   

من جهة أخرى لاتتوقف الكاتبة عند مأساة بطلتها رغم التركيز عليها، لكنها تقدم نقدًا للمجتمع التركي  والتحولات التي أصبح عليها، لاسيما والرواية تنتقل بنا من التسعينات حيث الأحلام الغضة ومرحلة التحرر التي كان فيها الشباب في ذلك الوقت، إلا اللحظة الراهنة التي يبدو فيها التشدد أكثر، وتحولات كبرى تحل بمدينة كبرى مثل اسطنبول أصبحت تمتلئ بالسياح الذين يفرضون أفكارهم وثقافتهم على المجتمع التركي وتفاصيل حياته المختلفة, 

زينب قشتار روائية ومسرحية تركية  ولدت عام 1972. درست التمثيل والنقد المسرحي والدراما بجامعة "إسطنبول". تهتم في  مسرحياتها بقصص النساء بشكل كبير، كتبت العديد من المسرحيات التي حققت نجاحًا وشهرة واسعة وترجمت إلى لغات مختلفة، وعرضت في تركيا والولايات المتحدة الأمريكية وتايوان والسويد. فازت مسرحيتها "كريم كراميل" بجائزة من معهد "أنقرة" للفنون في عام 2010. نشرت لها روايتان وهما "صدف" عام 2017، وهذه الرواية عام 2021.

الرواية حاصلة على جائزة آتيلا إلهان الأدبية وهي واحدة من أرفع الجوائز الأدبية في تركيا،  تمنحها سنويًا مؤسسة "آتيلا إلهان" للعلوم والفنون والثقافة، وهي مؤسسة أنشئت عام ٢٠٠٧ تخليدًا لاسم الشاعر والكاتب التركي الكبير "آتيلا إلهان" الذي توفي عام ٢٠٠٥. تُمنح الجائزة في فرعي الشعر والرواية.  

يبقى أن نشير إلى أن ترجمة الرواية التي قدمتها سوسنة سيد جاءت ترجمة سلسة ومحكمة، استطاعت تقديم الرواية للقارئ العربي بكل بساطة وجمال، وشكرًا لدار العربي على تعريفنا بهذه الأعمال التي ربما لا تحظى بانتشار كبير في قوائم الأكثر مبيعًا في المكتبات، ولكنها تفرض حضورها لجمالها وتميزها وهو ذلك الرهان الذي يقدمه الأدب الجيدعلى الدوام

.

 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم