في أحدث رواياته " نادينكا" الصادرة مؤخراً عن دار "عناوين بوك" في القاهرة، يحاول عبد الرحمن الآنسي- من خلال شخصية روايته أدهم- جاهداً أن يدافع عن مذهبه في الحياة، وهو القادم من روسيا إلى اليمن، والمتشبع بالأفكار اليسارية، والوجودية التي يؤمن بها، وتأثره بآراء مادية وفلسفية عن، "ماركس"، و"لينين"، و"انجلـز"، و"روسو"، و"بول سارتر"، وغيرهم..
لكل ذلك وجدنا الشخصية الروائية تحاول ما استطاعت أن تُغلبَ ثقافة الاغتراب والاستلاب على  ثقافة القبيلة، والمجتمع؛ رغبة من السارد التعالي على الموروثات التي تتحكم بالإنسان اليمني - حسب ادعائه- بما ذلك موروثات العقيدة، تلك التي تقف- برأيه- حائلاً دون النهوض الحضاري، والاندماج الثقافي بالآخر، وتقف حجر عثرة أمام تطلعات المرأة، وأخذها لحقوقها المدنية الكاملة، والاندغام بقيم الحرية، والمساواة، والانطلاق إلى عالم أكثر تقدماً، وعلمية، لا تتحكم به التقاليد الدينية، والعرفية، والقبلية.

ومن الغريب أن الشخصية الروائية بدت تتصرف وفقاً لأهوائها الشخصية التي لا تراعي بُنية المجتمع الذي انتقل إليه حديثاً. ففي الوقت الذي يسخر فيه بطل الرواية من فتاة " تغطي وجهها ببرقع، وتلبس عباءة تصل الأرض، وتمشي باستحياء..." فهو لا يمنع نفسه من التغزل بها ووصف لباسها الذي" يلتصق بجسدها؛ فيبدو مغرياً يبعث على تخيل بقية التفاصيل المستترة، وتمني مضاجعتها ...

و(أدهم)  المتشبع بثقافة الانفتاح، والحرية، والباحث عن حرية المرأة في مجتمع ريفي قبلي، لم يمنع نفسه- أيضًا- من أن يخدع فتاة ريفي، ملثمة، وتلبس العباءة المسدلة لأخمص قدميها ، بإغواءاته؛ فيقيم معها علاقة غرامية، ويستدرجها لخلع نقابها ولثامها أمامه، وتطويقها وتقبيلها، وهو المتزوج لأجمل فتاة روسية، متبرجة: لباسها فوق ركبتيها، وشعرها ينسدل على كتفيها، لكنه كان يترك فتنة التبرج الروسية، المتمثل بـ(نادينكا)  ويلهث بحثاً عن فتنة اللثام، والبرقع، والعباءة الطويلة لفتاة الوادي المحويتية، وكأن عقله الباطني، ودون وعي منه يقول له" إن المرأة المحتشمة الملثمة تعد عامل جذب، وإغراء، وأريحية؛ بينما الفتاة المتبرجة تعد عامل نفور، وقتل للهمة الذكورية ...
إنها شخصية متناقضة بين ماتريد وبين ما تفعل، وتعتقد به من أفكار، وشخصية ساخرة، وعبثية، غير مبالية.
ولهذا التناقض، وتلك العبثية التي غلفت أفكار الشخصية الروائية فقد بدا "أدهم" منبوذاً لعدم قدرة المجتمع على استيعابه له، وعدم قدرته هو على استيعابه لهم، مما أدى به نهايةً إلى الفضيحة، والضياع في غياهب السجن، بجرم الإمساك به وهو يقبل فتاة من فمها، بعد محاولة إنقاذها من الغرق، بالرغم من كونها قد فارقت الحياة بين يديه، فاتهم باغتصابها وقتلها ..

▦ يوحي لنا الكاتب بأن  تجربة السجن( عشرين سنة) غيرت من شخصية الرواية، ومن أفكاره الوجودية السلبية. فبعد أن كان يقول:
• "لا أعرف إن كنت مؤمناً بالله..." 
•و"ماذا لو أنه لا يوجد في الآخرة لاجنة، ولا نار..؟ " 
• و"سأوصي من يحرق جثتي بعد الموت ويرميها في البحر، لأن جهنم لا يلائمها الماء.."..هاهو يتراجع، فيؤكد لنفسه: " عرفت ضرورة وجود الإله في هذه الحياة" ويتساءل :" ماذا لو أن هذه الحياة بلا إله..كيف ستكون ..؟" 

▦ يلجأ السارد المؤلف، بإيمائية، ورمزية- ختام روايته- لتدعيم موقف ما، أراد التمسك به ليؤكد به،  أن عودة بطل الرواية إلى الإيمان بالله، تعني أنه صار مؤمناً كذلك بعادات، وتقاليد المجتمع المتوارثة، السلبية، ومنها العصبية، والحميّة، والثأر، ولهذا يخرج بطل الرواية مثخناً بنار الانتقام ممن استحوذ على زوجته (ممن تزوجها)،  ولكن الرصاصة التي أُطلقَتْ أصابت رأس "نادينكا" خطأ، فأردتها، وأنهت حياتها .
تنتهي الرواية بنهاية مفتوحة، قد تُـؤوّل على عودة "أدهم" للسجن مرة أخرى .

▦ المفارقة الغريبة في الرواية، التي تشكل مفاجأة للقارئ،  هي أن "نادينكا": الفتاة المتبرجة، التي ولدت في روسيا وتربت بها، وتحمل ثقافة موطنها، وأيدلوجية مجتمعها، وأسرتها.. تأقلمت، واندغمت، وانسجمت مع ثقافة المجتمع اليمني الريفي، وتزوجت من رجل آخر، بينما كان بطل الرواية في السجن، بل وغيرت- كذلك- اسمها من "نادينكا" إلى "أمل" :
" خرجت امرأة كانت ترتدي عباءة سوداء، وغطاء رأس أسود..." 
" المرأة التي أمامي لن أنساها ماحييت ، وهل ينسى الرجل المرأة التي نام معها وعرف كل سنتيمتر في جسدها ..إنها "نادينكا" ..
فماذا عن "أدهم" الذي عاش في روسيا ثماني سنوات فقط، وعاد لموطنه بثقافة اغترابية استلبت منه كل أعراف، وتقاليد القبيلة، وأنسته العقيدة التي يدين به ...؟!

▦ يقول الكاتب في مقابلة مرئية له " إن رواية "نادينكا" تتحدث عن رحلة الفتاة الروسية إلى اليمن برفقة زوجها؛ حيث تجد نفسها فجأة متورطة في صراعات عائلية، وقبلية لانهاية لها، ناتجة عن اختلاف اللغة، والعادات والتقاليد .."
يبدو أن الكاتب "عبد الرحمن الآنسي" كتب روايته، ونسي وقائعها وأحداثها.
فالرواية تجعل من "نادينكا" شخصية هامشية وسطحية، ولا دور  لها إلا كونها زوجة أدهم، أو زوجة المحامي، فحسب، وتظهر لثلاث مرات فحسب في مجمل العمل الروائي وبدون صوت :
- المرة الأولى تظهر متذمرة من الوضع، على لسان السارد المتكلم :
"ظلت نادينكا تتذمر من الوضع السيء الذي يعيشه أهل هذه البلاد، وكادت تتراجع من قرارها في مرافقتي..."
ثم لقطة سردية قصيرة يتغزل بها الزوج وقد رآها تلبس الفضفاض :
" دخلت غرفة الضيوف بلباسها الفضفاص وأنا اتخيل جسمها من خلفه فاعترتني رغبة لمضاجعتها.."
واخرى في غرفة النوم: 
" دخلنا غرفة النوم، وكانت مرتبكة ....الخ " .
ثم يتم إزاحة دورها، على مدار ثمانية فصول تقريباً ، بحيث تُنسى تماماً، ويتفرد البطل بصناعة الأحداث لوحده.
- المرة الثانية، حين يخرج بطل الرواية من السجن وقد تزوجت فيراها ترتدي العباءة لأول مرة .
" خرجت امرأة كانت ترتدي عباءة سوداء، وغطاء رأس أسود.....الخ "
- الثالثة : في غرفة نوم زوجها الجديد؛ حيث تلقى مصرعها....

▦  نؤكد بأن "نادينكا" تظهر في الرواية كشخصية ثانوية عادية، وسطحية، وغير نامية، وغير مشاركة بفعالية، ولا تأثير لها في صناعة الحدث إلا من حيث الدور التكميلي للرواية فحسب، ولهذا اختفى صوتها طوال الرواية ..
وتأسيساً على هذه الملاحظة، فإن الكاتب، اختار " نادينكا" كلافتة للعمل الروائي، ليبدو إيحائياً، وتأثيرياً للقارئ ، دون أن يكون للتسمية دورها الفاعل والمتنامي في صناعة الحبكة وفكرتها المحورية .

▦ بنية النظام الحكائي  في" نادينكا"  بدا كلاسيكياً، تتابعياً، والفصول كانت عبارة عن وقفات سردية، ينتهي الواحد منها ليتواصل بنمطية زمنية متتالية، وخطية رأسية ..
فهو مثلاً، يبدأ  الفصل الواحد بقوله" استيقظت في صباح اليوم التالي ..."
ثم يختتم الفصل، فيبدأ مايليه بنفس الصيغة: " وفي اليوم التالي استيقظت ........" .
والزمن في هذه الرواية بدا مفتوحاً، ولم يحدده الكاتب، بل أبقاه مبهماً بهذه الصيغة المبتورة:
  "... كنا في أحد مساءات أيلول 
لعام**19 ...
وهذا زمن رمزي، ولاخطية له .

----------------
 • عن الكاتب 
عبد الرحمن الآنسي؛ كاتب يمني من مواليد 1993 في محافظة المحويت مقيم حاليًا في تركيا، صدر له رواية بعنوان دموع مقدسة عن منصة كتبنا عام 2020، وتعتبر رواية "نادينكا" ثاني أعماله الأدبية المنشورة  عن دار عناوين بوك في القاهرة. 
للكاتب أيضا مجموعة قصصية بعنوان "الأعمال القصصية الأولى" نُشرت الكترونياً. 

•••••••••••••••

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم