المدينة المسورة

يتصل موراكامي هاروكي بالمحرر ويدعوه لتناول الشاي. وبعد محادثة خفيفة بينهما، قال ”تفضل، خذ هذه“ ويسلمه أحدث مخطوطة كتبها. إن محرر أعمال موراكامي لا يضغط عليه لإنتاج كتابات جديدة، بل ينتظر ببساطة مثل هذه اللحظات. وحتى معرفة نوع العمل القادم هو أمر نادر فيما يبدو. كانت المخطوطات في الماضي مكتوبة بخط اليد، ثم حلت الأقراص المرنة محلها منذ سنوات، أما الآن فيسلم المستند على شريحة ذاكرة USB.

حملت أول رواية لموراكامي منذ 6 سنوات عنوان ”المدينة وجدرانها غير المؤكدة“. الرواية ليست جديدة تماما، فهي مستوحاة من قصة قصيرة تحمل الاسم نفسه نُشرت في مجلة بونغاكوكاي الأدبية في عام 1980. في خاتمة روايته لعام 2023 (من غير المعتاد أن يكتب هذا المؤلف خاتمة)، يقول موراكامي ”لم أكن راضيا عن القصة، لذا لم أجمعها في شكل كتاب“، ما يعني أن معظم المعجبين لم يقرؤوها. 

لقيت رواية موراكامي هاروكي الجديدة ترحيبا من معجبيه (© كيودو).

بطلا الرواية هما راوي القصة ”بوكو (الضمير ”أنا“ باللغة اليابانية ويستخدمه صغار السن)“ الذي لا اسم له والبالغ من العمر 17 عاما وفتاة تبلغ من العمر 16 عاما تُدعى ”كيمي (الضمير ”أنت“ باللغة اليابانية)“. ارتادا مدرستين ثانويتين مختلفتين، لكن القدر يجمعهما قبل عام في حفل توزيع الجوائز لمسابقة كتابة مقال للمدارس الثانوية.

”لم يسبق لأي منا أن التقى بأي شخص يمكننا معه التعبير بحرية وتلقائية عن أفكارنا ومشاعرنا الحقيقية. بدا لقاؤنا وكأنه معجزة“.

وتقول كيمي ”أريد أن أصبح لك بكل كياني“، لكنها تخبره ”أنا هنا ليست ذاتي الحقيقية. إنها مثل ظل يتلاشى“. توضح كيمي أن نفسها الحقيقية تعيش في مدينة محاطة بأسوار عالية. وهناك خلف الجدران غابة فسيحة من أشجار التفاح، لكن البوابة الوحيدة إلى العالم الخارجي يحرسها عملاق، ولا يستطيع السكان المرور من خلالها. يمكن فقط لقطعان وحوش وحيدة القرن المغطاة بشعر ذهبي السفر ذهابا وإيابا بين المدينة وخارجها.

الناس في المدينة ليس لديهم ظلال. تعمل كيمي في مكتبة تجمع أحلاما قديمة، والطريقة الوحيدة للراوي ليجد نفسها الحقيقية هي أن يدخل المدينة ويصبح قارئ أحلام. ولكن أين تقع تلك المدينة الغامضة، وكيف يمكنه الدخول إليها؟ ولكي يصبح أحد سكان المدينة، يتعين عليه أن يتخلص من ظله، والذي يحمل أهمية كبيرة في القصة.

تختفي الفتاة ذات يوم فجأة من العالم الحقيقي أمام الراوي. فهل سيتمكن الراوي من العثور على حقيقتها؟ بالنسبة إلى المعجبين القدامى، يعد الكتاب منطقة مألوفة منذ البداية وممتعة للغاية. ولكني شعرت بالإحباط، أو قد أقول إني أصبحت غير متأكد بسبب عدم تمكني من حل اللغز بشكل كامل. وقد قادني هذا الإحساس المستمر إلى قراءة العمل الأصلي المنشور منذ 40 عاما.

استجواب الذات

يتساءل الموضوع في القصة الأصلية بشكل مباشر عن المكان الذي ننتمي إليه. كما أنه لا توجد سوى الشخصيتين الرئيسيتين، وقصة المدينة الواقعة داخل الأسوار نُقلت إلى الجزء الأول من الرواية الجديدة. ولكن إصدار عام 2023 من القصة كان أكثر تعقيدا، حيث هناك حلقات جديدة في جزأين آخرين، كما أن الشخصيات الإضافية التي تتفاعل مع بطلي القصة تضيف طبقات جديدة إلى القصة تجعلها أعمق وأكثر ثراء. بالإضافة إلى ذلك، إن وجود تفسيرات متعددة ممكنة أمر يثير الاهتمام، بحيث تظل القصة عالقة في الذاكرة.

يصبح الراوي رجلا يبلغ من العمر 45 عاما (وهو الآن ”واتاشي (الضمير ”أنا“ للبالغين)“ بدلا من بوكو). يحيط به مجموعة من الشخصيات الرائعة من بينها شخصية مسن ثري غامض يدير مكتبة محلية، و ”صبي في غواصة صفراء“ يتمتع بقوى خاصة، ومطلّقة جذابة تدير مقهى.

أحبُ أعمال موراكامي بسبب الطريقة التي يسأل فيها الأبطال أنفسهم ويبحثون بصدق عن الإجابات. وفي أحدث أعماله، يساور الراوي القلق حول العالم الذي ينتمي إليه، ولا يكون قادرا على اتخاذ قرار، بينما يسأل نفسه حتى بعد أن بلغ منتصف العمر ”هل لدي أي ارتباطات راسخة بالأرض؟ هل قمت بترسيخ جذوري؟“. وحتى في هذا الوقت، لا يستطيع أن يحرر نفسه من التفكير بالفتاة. ولكنه يعتقد أن ”الرغبة الشاملة في منح نفسي بالكامل لشخص آخر قد استنفدت نفسها منذ فترة طويلة“.

ولكن المسن الثري يقنعه بالقول ”في المرحلة الأولى من الحياة، قابلت شريكك المثالي. أو ربما ينبغي أن أقول لم تكن محظوظا بما يكفي لمقابلتها“. وهنا يتساءل الراوي:

”هل يوجد شيء مثل جدار يفصل بين ما هو واقعي وغير واقعي في هذا العالم؟“

وقد كتب موراكامي في خاتمة الرواية أنها ”تحتوي على بعض العناصر ذات الأهمية الشخصية“. من المرجح أن يتفاعل القراء مع هذه العناصر بطرق مختلفة. وقد لاحظ عشاق أعمال موراكامي بالفعل أوجه التشابه في المكان الذي تدور فيه أحداث القصة مع المكان في رواية ” أرض العجائب المسلوقة ونهاية العالم“ المنشورة في عام 1985 بعد 5 سنوات من القصة الأصلية. فازت هذه الرواية بجائزة تانيزاكي جونئيتشيرو ولاقت استحسانا دوليا. ولكن لا يزال موراكامي وهو في سن السبعين مهووسا بهذه ”العناصر المهمة“، ويشعر بأنه مضطر لإعادة صياغة القصة. وأنا معجب بشغفه.

المصدر: نيبون 






0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم