لعل هذا هو السؤال الأول الذي انطلقت منه هذه الرواية، ولعل الحال الذي وصلت إليه الثورات العربية كان واحدًا من دوافع التفكير في بدايات أخرى للثورة وانطلاقات من أشخاص مختلفين، ليسوا نشطاء سياسيين ولا شباب ناقم على الأوضاع الحالية يدفعه الأمل للتغير، ولا أصحاب مصالح من جماعات إسلامية قاد وجودهم بل وصعودهم بعض البلاد التي قامت فيها الثورة إلى مصائر أشد ظلامًا!

من هنا يأتي سؤال الروائي المصري علاء فرغلي في روايته الأحدث والتي حملت اسم واحد من شوارع القريبة من ميدان التحرير في مصر حيث قامت الثورة 2011، وهو "ممر بهلر"، ماذا لو قاد المثقفون هذه الثورة؟ وهل يمكن أن يكون من المثقفين والكتاب والروائيين والشعراء قادة حقيقيين لثورةٍ تدعو للحق وتنشر العدل وتحقق ما يصبو إليه الناس من الحرية؟!

يدخلنا علاء فرغلي مباشرة مع أبطال روايته إلى اللحظات الأولى لتنفيذ الخطة، لاشك سبق الأمر تفكير طويل وإعداد، ولكنه يضعنا منذ السطور الأولى للرواية داخل ما يمكن أن يسمى (غرفة العمليات) والتي ليست إلا شقة البطل في ممر بهلر، حيث يجتمع باثنين من أصدقائه والذين يقرر أن يكونوا شركاءه فيما ينوي القيام به، وهي ليست مظاهرات أو دعوات للاحتجاج أو مشاركة في اعتصام وتقديم مطالب وإنما يخبرهم بأننا "سنعمل ثورة" هكذا مباشرة.

"توفيق الشربيني، وسيد جيزو وأمير الطيب"ومصطفى الكرداسي وماهر خميس، ونجلاء زين"

خمس شخصيات يطالعنا بها الكاتب بشكل مفاجئ في الصفحات الأولى من الرواية، ويعرفنا بكل شخصية منهم بشكل موجز، و بالدور الذي يمكن أن يقوم به كل احدٍ منهم للاستفادة منه في هذه الثورة، هكذا تصعد البرجماتية والنفعية منذ البداية لكي تكون هي الأساس الذي ستقوم عليه علاقة الكاتب/المحرر بالأصدقاء/ أبطال الرواية، والذين سيكون بينهم عماد الثورة وأساسها.

 

هل يمكن للمثقفين والكتاب والروائيين أن يقوموا بثورة؟! 


لعلها الفكرة التالية أو السؤال الآخر الذي يقفز إلى ذهن القارئ، بمجرد التعرف على هذه الشخصيات التي يبدو أن الكاتب قد اختارها بعناية، إذ أن هؤلاء الستة وإن جمعتهم صداقة في وقت من الأوقات، أو من سينضمون إليهم في الصفحات التالية يحملون الكثير من التناقضات والنواقص بل والفضائح التي يكشف عنها الغطاء تباعًا، حتى ليبدو أنهم مجموعة من المذنبين الذين لا يمكن أن يقوم على أكتافهم هتاف واحد يطالب بالحق، فضلاَ عن ثورة تدعو للتغيير !

تقوم الرواية على خطين متوازيين، في الأول يحكي بطل الرواية (الذي لا يحمل اسمًا) ولكننا نتعرف عليه باعتباره روائي ومحرر أدبي في واحدة من دور النشر، تربطه علاقات صداقة بعدد من الكتاب والشعراء والإعلاميين ونتعرف من خلاله على كواليس عالم الأدب والنشر، في الخط الثاني نفاجئ به وقد تم القبض عليه، ويحكي لنا يومياته وأفكاره داخل السجن، حتى تتغيّر به النهاية ويلتقي الخطان بشكلٍ مفاجئ.

نتعرف في الرواية على سيد جيزو الذي عاش حياة صعبة ولكنه قفز فجأة إلى عالم المثقفين فأصبح يلعب الآن على كل الحبال فيصادق رجل التنوير العلماني ويعلن محبته للشيخ السلفي المتدين، بل و يعرف كيف يقبض على كل الفرص ويسير على أحبال الاحتمالات.

كما نجد الكاتب توفيق الشربيني يكتب قصصًا ساذجة ولكن يلتف حوله الكثير من المتابعين والكسالى، ويصطفي منهم من يلمع صورته ويدافع عنه في المجالس مثل الكاتب الناشئ "مينا زيدان"

ماهر خميس إعلامي محترم وقاص معروف، ولكن تربطه علاقة مضطربة بزوجته وصديقتهم من أيام الجامعة علياء التي تخونه ويحكي همومه لبطل الرواية !

كما نتعرف على أمير الطيب زير النساء الذي (تخلَّى عن حلم الكتابة الجادَّة والأدب الرفيع، وعثر على ضالَّة الشُّهرة والثراء في كتاباتٍ ممحونة عن المُطلَّقات والسناجل وضحايا العلاقات العاطفية الفاشلة،حتى صار رمزًا لِلُّيونة والسَّهْوَكَة، ومرمًى لسُخرية الرجال وسخطهم)

...

لاتكتفي الرواية بهذه الشخصيات على الرغم من ثراء عالمها وتفاصيله، ولكنها تضيف إليهم أيضًا من يسهمون في الكشف عن المشهد الثقافي ومافيه من عوار وتناقضات، فنتعرف على الكاتب/الشيخ أنور المنسي الروائي المحافظ الذي يهاجم المرأة ويقلل من شأنها، كما نتعرف على بنت الأكابر داعية التنوير التي تحرص على عرض مفاتن جسدها باستمرار وتحوز على الكثير من التعليقات وإثارة الجدل على صفحات التواصل الاجتماعي، ونماذج غيرهم كثيرة، تتعرض الرواية لهم بإيجاز وللبعض الآخر بعض التفصيل، ولكن يبقى أنهم يضيفون زحامًا لمشهد الرواية وعالمها، لاسيما أن كلاً منهم يحمل الكثير من السقطات والعيوب والمثالب!

(( لنتغاضَ عن حماقاتنا ومَثالِبنا الصغيرة من أجل الثورة، الثورة لا يصنعها الملائكة، هكذا يقول كاتب فرنسيٌّ شهير أحبَّ الحرية: الثورة يصنعها الحالمون، وفي سبيل الحلم يغيب العقلُ والمنطق والرأي السديد ويرتكب الإنسان الحماقات ‫ هؤلاء هم من سيروجون لصفحة الثورة ويحشدون لها بين الناس؛ حتى يصير وجودها حقيقةً دامِغةً، لا مجرد واقعٍ افتراضيٍّ هَشٍّ، ومن ثَمَّ نشرع في دفع الحشود، بخطة أخرى مُحْكمة كرواية إنجليزية كلاسيكية قديمة)) (من الرواية)


تعدد الشخصيات واختلاف الرؤى!


هل يمكن أن يتغاضى الناس عن حماقاتهم بالفعل في سبيل ثورة؟ هل يفعلها المثقفون؟ تتداخل العلاقات وتختلف المصالح، ورغم أن طائفة من المثقفين تنجح في الاجتماع لمرة أولى (وأخيرة فيما يبدو) في شقة البطل بممر بهلر، إلا أن المشكلات بينهم لا تلبث أن تظهر، وسرعان ما يبدأ الشقاق والخلاف ويتبادلون الاتهامات وعد المثالب حتى يفترق الجمع، ويكون لقاؤهم الثاني بعد ذلك في السجن، ثم إلى الميدان!

لا تكتفي الرواية بفكرة الثورة والتخطيط لها والحلم بها، بل لا يبدو ذلك هدفها الرئيس، وإنما هي تكشف الستار عن كواليس ما يدور في الأوساط الثقافية، وترصد عددًا من الظواهر التي لم يعرفها الوسط الثقافي إلا بعد 2011، مثل البوكتيوبرز وصفحات نوادي القراءة بل وحتى المتابعين (الفولورز) وغيرها، ونجد فيها الكاتبة التي تجمع حولها صديقاتها "عضوات أحد الأندية الراقية" لتنشأ مجموعة لقراءة روايات مثيرة، وسرعان ما تكتب هي رواياتها السطحية بل وتقدم خدمة الاستشارات الأدبية ورحلات وورش مغلقة للكتابة، كما نجد ذلك البوكتيوبر الشهير يقدم مراجعات سطحية للكتب على قناته على اليوتيوب ويزور إمضاءات له من كبار الكتّاب حتى يلفت الأنظار إليه ويصبح أهم بوكتيوبر عربي تتهافت دور النشر لكي تهديه كتبها بل ويصل الأمر إلى أن يكون ضمن لجنة تحكيم واحدة من الجوائز الأدبية الكبرى! كما نجد الكاتبة التي تتملق المحرر الأدبي لكي يرضى عن روايتها ويمنحها دورها في النشر رغم أنها سرقت فكرة الرواية من روائي عالمي كبير!

والرواية رغم كل هذا الرصد وكل هذه المثالب والعيوب التي تكشف عنها وتشير إليها، تطمح في النهاية إلى أن كل ذلك سينتهي بالثورة التي يمكن أن تجمع القاصي والداني واليساري مع اليميني والسلفي مع الملحد كلهم يصبون إلى هدفٍ واحد ينبغي تحقيقه، وهي في ذلك تبدو رواية حالمة رومانسية، تتجاوز كل المعوقات والعقبات التي رصدتها لكي تقفز عليها وتحلم مرة أخرى بعالم سعيد!

(( هكذا سنضع خطَّة الثورة، مثلما نكتب رواية جميلة ذات نهاية سعيدة فكرة مُجرَّدة عارية سنكسوها كلمةً كلمةً وسطرًا سطرًا، حتى تتضافر الفصول وتكتمل الحبكة قصة واقعية، صفحاتها الشوارع والجدران والميادين، سنلعب بخيالاتنا دون شَطَطٍ أو جنون، لا فانتازيا ولا عجائبيات ولا سيرياليَّة قُحَّة نعرف من أين نبدأ وفي أي اتجاه نسير وفقًا لاحتمالات المنطق والمعقول سنرسم شخصيات الأبطال ونسبر أغوارها ونستجلي دواخلها، نكشف الخُطَط والاحتمالات التي سيضعها الخصوم، ونضع خططًا مقابِلةً تدحضها، المؤامرات التي سيحيكونها والعقبات التي تَحول دون تحقيق الأهداف)) من الرواية

تبقى هذه الرواية حلمًا جميلاً راود ذهن الكاتب، وأراد أن يؤمن به قراؤه، ولكن يبدو أن حتى هذا الحلم لم يعد من المسموح به، فقد صودرت الرواية بمجرد ظهورها في معرض القاهرة الدولي للكتاب مطلع هذا العام عن دار ديوان، لأسباب غير معلنة ومنعت من التداول في المكتبات، ولم يكن سيتاح لنا أن نقرأها أو نتعرف عليها إلا بعد أن تم نشرها الكترونيًا عبر تطبيق أبجد للكتب الالكترونية وذلك بالاتفاق مع الناشر.

رواية (ممر بهلر) هي الرواية الثالثة لعلاء فرغلي وتحمل عالمًا مختلفًا تمامًا عما سبق أن قدمه في روايتيه السابقتين (خير الله الجبل) التي تناولت العشوائيات في مصر وحاز بها على جايزة ساويرس لشباب الأدباء 2017، كما كتب عن عالم الصحراء في روايته (وادي الدوم) وفازت بجائزة نجيب محفوظ عن المجلس الأعلى للثقافة عام 2021. 

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم