يمزج التشيكيّ ميلان كونديرا في روايته "حفلة التفاهة" بين الجدّ والمزاح، بين العبث والسخرية، بين السخط والتمرد والغرابة، يعقد مقارنات فلسفية ومقاربات وجودية ويصور صراعات تاريخية وواقعية، ليوصل رسالة فحواها أنّ الحياة مسرح العبث، وأنّ هناك حفلات متناثرة مبعثرة في مختلف الأمكنة والأزمنة تعبر عن المراءاة بعيداً عن روح العصر، وبعيداً عن الحقيقة، بحيث تكون التفاهة حاضرة في هذا المحفل أو ذاك بصيغة أو أخرى.

يفلسف كونديرا التفاهة، ويضفي عليها بعداً وجودياً، يستهلّ عمله بسؤاله، تراه ينطلق من سؤال أو افتراض استفزازي بدوره أنّه حين يرى رجل أو عصر مركز الإغراء الأنثوي في الردفين، أو النهدين، فكيف يمكن تحديد خصوصية هذا التوجه الإيروتيكي ووصفه؟ وكيف تتحدد شهوانية رجل أو عصر يرى الإغراء الأنثوي متمركزاً وسط الجسد، في السرة؟

يقسّم كونديرا روايته – نشرها المركز الثقافي العربي بترجمة معن عاقل 2014- إلى سبعة أجزاء، هي: "الأبطال يتعارفون"، "مسرح العرائس"، "آلان وشارل يفكران بأمهاتهما دوماً"، "الجميع يبحثون عن روح الدعابة"، "ريشة تحلق تحت السقف"، "سقوط الملائكة"، "حفلة التفاهة".

يستمتع الراوي برفقة أصدقائه الأربعة؛ آلان، رامون، شارل، كاليبان، ويكون تصويرهم كشخصيات مسرح العرائس على منصة الحياة، أو دمى واقعية تؤدي أدواراً في مسرح عبثي لا تلوح أيّة نهاية لأحداثه المستمرة، حيث الجميع يرتبطون ببعضهم بعضاً عبر حبل سرّة لامرئيّ يلملمهم، ويبقيهم على اتصال وتواصل فيما بينهم، ومع الآخرين من مختلف الأزمنة والأمكنة.

يدور بين رامون ودارديلو عن المرض والموت والصداقة والزمن، وتلفيق دارديلو كذبة إصابته بالسرطان العبثية، وذلك بعد أن كان قد أجرى فحوصات أثبتت سلامته منها، فجرّب العبث بالفكرة وإلهاء الأصدقاء بها، ومراقبة ردود أفعالهم، ووقع كلماته وتأثيرها عليهم، ثمّ يعلن أنّه بصدد الإعداد لحفلة كوكتيل، بحيث يجمع فيها الأصدقاء الذين يبدون بحاجة إلى إعادة تعارف وتواصل.

يكون طيف ستالين حاضراً من خلال استعادة بعض الحكايات عنه، من ذلك مثلاً ما يسرده في لقاء بطليه رامون وشارل اللذين يستعيدان بعضاً من مذكرات نيكيتا خروتشوف، إذ يركز شارل على حكاية ستالين مع الحجلات الأربع والعشرين، تلك التي كان يقصها على رفاقه في الدائرة الضيقة المحيطة به في الحزب، وكيف أنها بسخريتها وعبثيتها افتتحت عصراً ممّا يسميه التفاهة والسخافة والعبث، وذلك من خلال ادّعائه أنّه سار مشياً على الأقدام ذات يوم أكثر من ثلاثة عشر كيلومتراً واصطاد اثنتي عشر طيراً من الحجل، ثم عاد بعد أن انتهت طلقاته، ليأخذ اثنتي عشرة طلقة ويصطاد الحجلات الباقية التي يقول إنها ظلّت تنتظره ولم تحاول تغيير مكانها.

يستذكر كونديرا عبثية ستالين وتتفيهه لعقول الآخرين، وتسخيفه لآرائهم، واستبداده برأيه من دون أيّ اكتراث لأحد، حتّى وهو يحكي حكايته ويعرف أن الآخرين يسخرون منه ومن ادّعاءاته، إلّا أنّه يكملها، ويستعيدها بين الفترة والأخرى كأنّها حقائق ثابتة، لترسيخها وتكريسها، ثم كيف أنّ دائرته الضيقة كانت تسخر منه في الحمّامات من دون أن تتجرّأ على إعلان عدم تصديقه في حضوره، وحالته الغريبة في استمتاعه بتلصصه علة رفاقه ومراقبته لأقوالهم عنه.

يعلق كاليبان على الفكرة أنّ ستالين كان يمزح، ويمضي وقتاً من اللهو مع رفاقه، من دون أن يشعرهم بأنّه يفعل ذلك، ثمّ يؤكد شارل رأيه، ويعتقد أن أياً ممن هم حوله لم يعد يعرف ما هو المزاح، وما هي المزحة. ويجد أنّه حينذاك أعلنت مرحلة جديدة وعظيمة من التاريخ عن ولادتها.

يصف كونديرا ستالين على لسان بطله آلان بأنه كان إبليس القرن، وكانت حياته مترعة بالمؤامرات والخيانات والحروب والاعتقالات والاغتيالات والمجازر. وأنه إزاء الثقل الكبير من القسوة التي اضطر لمكابدتها وارتكابها وعيشها، كان يستحيل عليه أن يتصرف بقدر مماثل من التعاطف، لأن ذلك يتجاوز قدراته الإنسانية، وأنه حتى يستطيع أن يعيش حياته كما كانت، لم يكن بوسعه إلا أن يتخدّر، ثم ينسى قدرته على التعاطف تماماً، وكان موقفه حيال صديقه لينين مفعماً بالحنان والتعاطف ولاسيما في حالة المرض.

يستعيد كونديرا في روايته تصوير جلسة تجمع ستالين بلينين بمولوتوف، وتحذير مولوتوف لستالين بأنه يجري التحضير لإنزال تماثيله، ورد ستالين عليه بأن ذلك يسمّى نهاية حلم، وأن جميع الأحلام تنتهي يوماً. ويصور ضحكته الساخرة التي هي عبارة عن صدى لمرارة داخلية عميقة تجتاحه.

يعتقد رامون أنّ الناس يتلاقون في الحياة، يثرثرون ويتناقشون ويتشاجرون من دون أن يدركوا أنهم يخاطبون بعضهم بعضاً من بعيد، كلّ واحد من مرصد ينتصب في موقع مختلف من الزمن. ويعترف شارل بأنه مفتون بالحكاية التي رواها خروتشوف في مذكراته عن ستالين والحجل، ويقول إنه لا يسعه أن يقاوم نفسه في أن يكتب على منوالها مسرحية لمسرح العرائس.

يلفت صاحب "البطء" الانتباه إلى السعي المتجدد لتغيير أسماء المدن، ومحاولة الاستئثار بتاريخها، واختراع تاريخ جديد لها بناء على الواقع ومعطياته، وانطلاقاً من القوة والسطوة والرغبة في التغيير لما يتماشى مع المصالح. من ذلك مثلاً تغيير اسم المدينة البروسية التي كانت تدعى منذ نشأتها كوينغسبرك وتعني جبل الملك، والتي كانت مدينة الفيلسوف إيمانوئل كانط، لتصبح بعد الحرب العالمية الثانية "كالينينغراد" أي مدينة كالينين. "لينين".

الشغف بالحكاية واختلاق القصص الغريبة هوس رواة صاحب "الهوية" في حفلته الروائية، وهو هوس انتقل عبر الأزمنة وتخطّى حدود المدن وسكن القرارات، وقاد الشخصيات في مساراتها المتعددة المتباينة، كحادثة المرأة الحامل التي كانت بصدد الانتحار، ثم حين حاول أحدهم إنقاذها، أغرقته وعادت إلى بيتها بعد أن أدركت أن الموت لم يكن سهلاً وأن الحياة تحمل المفاجآت دوماً.

يعلق أحد الأطبال؛ رامون على نهاية الفكاهات، يصارح صديقيه كاليبان وشارل قائلاً لهما بعد تجرعه لقدح من الويسكي، بأنّهما اختلقا خدعة اللغة الباكستانية ليتسلّيا أثناء حفلات الكوكتيل الاجتماعية التي لم يكونا فيها إلا خادمين مسكينين للأدعياء. ويجزم أنّ متعة الخداع تحميهما، مشيراً إلى أن تلك كانت استراتيجيتهم جميعاً، وأنه أدركوا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره إلى الأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس إلى الأمام. وأنه لم يكن هناك سوى مقاومة جديدة ممكنة، وهي عدم أخذه على محمل الجد، ويرى أن مزحاتهم فقدت سلطتها.

تختصر إحدى الشخصيات سخرية الواقع بقولها إنّ الجميع يهذون حول حقوق الإنسان، وتصف الأمر بالطرفة. ذلك أن وجود المرء لا يتأسس على أي حق، وأن الإنسان لا يختار جنسه ولا لون عينيه ولا القرن الذي يحيا فيه، ولا بلده ولا أمه، ولا أيّ شيء مهمّ. وتصرح بأن الحقوق التي يمكن أن يحصل عليها إنسان لا تتعلق إلا بتفاهات وليس ثمة سبب للصراع حولها أو كتابة إعلانات شهيرة عنها. ويضيف آخر بأنه يمكن للإنسان التمتع بوهم الفردية من باب التسلية والترويح.

يتحدث الروائي عن عبثية الاعتذار في معظم المواقف التي لا تحتاج إليه، وكيف أن هناك مغفلين يدورون في حلقة مفرغة من العبث والسخرية والتفاهة. يصف أحد الرواة الحياة بأنها صراع الجميع ضدّ الجميع، ويسأل عن كيفية تجلي هذا الصراع في مجتمع متمدّن إلى هذا الحدّ أو ذاك، ليجد أنّه لا يمكن للناس أن يهاجموا بعضهم بعضاً عندما يلتقون، وأنهم يحاولون بدلاً من ذلك أن يلقوا على الآخرين عار الشعور بالذنب، وأنه سيفوز مَن ينجح في جعل الآخر مذنباً، وسيخسر من يعترف بخطئه. ويشير إلى جانب الصدمة في المسألة، وتأثيرها المدوّي على الشخصيات في حياتها.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم