"الحديقةُ الغدامسيَّة" الصادرة عن دار عرب للنشر والترجمة، عام 2020    "وهي مخطوطة صوفية للشيخ بلخير الغدامسي (1957م-1862) يقدمها المؤلف موسى إبراهيم، في سردية تراثية أصيلة، استغرقت 21 عامًا، من الجهد العلمي والمثابرة الأكاديمية الدقيقة"، كما كتب الناشر، في غلافها الخلفي.

تصورتُ للوهلة الأولى أن مثل هذا الكتاب ليس من نوعية الكتب التي تستهويني، لكنّ ثمة شيئًا ما كان يجذبني إليه، وأنا ألمحه بين كومة الكتب المبعثرة أمامي، على طاولة الطعام، أحب وضع الكتب عليها، وكيف لا؟ وهي ألذُّ ما يمكنك التهامه بعينيك وقلبك.

كنت أسمع ذلك النداء، باستمرار، كلما دنوت، أو جلست؛ لأصغي، إنه نداء خفيٌّ، أسمعه وحدي، يعلو ويخفت، أغمضت عينيّ، ذات يوم ماطر، مستسلمةً لمن سيأخذني من يدي إلى قلبه.

بدأت أقلِّب صفحات الكتاب؛ بدافع الفضول، ثم وجدت نفسي منغمسة كليًّا، في جرَّة عسل، من العتبة الأولى، حتى زمن الخلافة، من "حزنٌ بهيُّ الجلالِ" إلى "فتحوَّلتُ عنِ الكلام إلى الغناءِ، وعنِ المشيِ إلى الرقصِ، وعن الخبرِ إلى المشاهَدةِ"


وجدتُ نفسي  أسير، أسيرُ بلا توقف، أدير رأسي على كلِّ الجهات:

"في الصبح الأول، من زمن الغيبة، خرجتْ شمسٌ محتجبة بغبار الأشياء"

أسير بلا مشقَّة، في ممرَّات محاطة بالأشجار الخضراء والثمار الناضجة، بالورد والزهر المتفتِّح بـ " الماءُ عُرْسُ العَالمِ " و"الماءُ موسيقَا الأشياءِ"، أسير في جوٍّ مشمس، وبارد، بقلب يشتهي قطفَ كلِّ شيء، دفعة واحدة.

"وبينما أنا في تَفَكُّر وتَدَبُّرٍ، ورُؤيةٍ واعتبارٍ، إذْ بيدٍ جليلةٍ تلمسُ وجْهي المُطفأَ فيَستضيءُ، وتَسْنُدُ كَتِفي المائلَ فيستوي".

و"كما أنَّ الضَّوءَ إذْ يَحضرُ لهُ طلَّةٌ واحِدَة، والماءَ إذْ يهطلُ لهُ غَمْرةٌ مَاجِدة". أتنقَّل بين الأزمنة والمواسم الممتلئة  بالومضات الساحرة، كما تتنقَّل فراشة بين زهرة وأخرى، بخفَّة هائلة، وشغف لامتناه.

حيث الدفق والغرق وموسيقا الأشياء، الماء والضوء والعشق والغناء والفكاهة.

"أوجاع الإنسان وأشواقه الكبرى"،  كما لو أنَّني عثرتُ، فجأة، على مخبأ سرِّي للكون، حيث تطلع  الحياةُ بوجه جديد، والإنسانُ بقلب نقيّ، لم تلمسه حرارةُ الفقد يومًا، ولم تشوِّهه  يدُ الأحزان، من قبل.

السائرُ في هذه الحديقة، يشتهي أن يظلَّ سائرًا إلى الأبد، مَنْسِيًّا في روحها، مغتنيًا بالصمت والتأمُّل، ذائبًا في "الغناءُ تلبيةٌ تقصدُك أنتَ" ثملاً بحلاوتها مقتولٌ بـ "حُمَّى الغيابِ لا تسكنُ؛ لأن قلبَك يريدُ أن يخلُدَ إلى الطمأنينةِ، مثلما لا تهدأُ الريحُ؛ لأنّ الشجرَ يريدُ أن يستريحَ من المرجَحةِ".


ثمَّة ما يشبهني هنا، ما يدهشني، ويقويني، ثمَّة يدٌ، يدٌ تلمسني، ولا أراها، تدفعني للخروج من العالم المادي المريض، والدخول إلى عالمها، حيث الروح والكون والإنسان.

أعرف أن شغفي لن ينتهي، ولن تكفيني زيارةٌ عابرة، أو رحلة واحدة، إنما إقامة؛ إقامة دائمة؛ لأن "عطشي إليكَ أكبرُ من عطشِ العالمِ إليَّ" أنا الآن تلك النبتة  المورقة  بـ  "لا تحزنْ، إن الغناء معنا"، مبتهجة بحنان الصوتِ المقبلِ عليَّ مِن موسم الغناء، وهو (قوت القلوب) "هذا الغناءُ الذي يصدرُ عن قلبِك، اسمُكَ أنتَ في الكونِ.

إنني هنا في حالة سفرٍ دائم "هيئةُ الإنسانِ لا يصحُّ لها الفقرُ، بلِ الخزائنُ كلُّها"

أتردَّدُ بين أربعةٍ وعشرين موسمًا، من أول (الحساب)حتى (الرفقة المتَّقدة)، وما بينهما من غمرٍ وفرحٍ وتربُّصٍ وجنونٍ، منشغلةً بـ (الخلافة الأولى) و(السيادة) و"المعقودُ بالعشقِ  معقودٌ بالحُريّة".

أستطيع أن أسمِّي هذه الحديقة مرجعًا روحيًا، أقصده في وقت الشدَّة والرخاء فـ"الواصلونَ بغيرِ سُكْر،ٍ كالعارفينَ بغيرِ سرورٍ "  و"في الفكاهةِ معنىَ أن تُشيعَ المرحَ"  هكذا كمَن يستيقظ، كلَّ يوم؛ ليستحم بالضوء، ويتقوَّى بالغناء والدعاء والعشق وبـ "الطمأنينةُ أريكةُ الإباحةِ، وحصيرةُ الحبّ، ووشوشةُ اللذةِ المحتشمةِ"، ثم يغادر بـ "وطأة الوجع والفرح استدعاءٌ بالضرورة لوطأة المحبة” و"الغيابُ حضورٌ ملتبسٌ بالمسافة".

وبنفسٍ  مسكونةٍ  بالغرق واللذة، باللمس والنداء و"أثرِ الصّبحِ الأوّلِ"

وبالتوق الدائم لـ  قال لي :

▣القلوبُ الغريبةُ فضاءٌ مادَّتُه أنا، فحينَ يصيرُ قلبُك غريبًا تجدُني فيه.

▣الضوءُ الذي يلمسُ الأشياءَ يُسَمّيهَا.

▣لو عرفَ المظلومُ كرامةَ وقفتِهِ بينَ يديَّ لَصَيَّرَني يديهِ.

▣ أنّةُ المظلومِ أعزُّ من كلامي كلِّه.

▣المستعجلونَ مُرهَفونَ بالمحبّةِ، تكادُ قلوبُهم تتقطّعُ بشغافِ الحزنِ.

▣الوجعُ إشارةٌ بربانيّةِ القلبِ؛ لأنه مودّةٌ للعالمِ.

▣هذيانُ الأشياءِ موسيقَى الكونِ المخبوءةُ في المكانِ.

‏▣مَوطئُ القلبِ أثرٌ لا تخطئُه عيني؛ لأني أرى العالمَ بالحبّ.

▣العاشِقونَ عُيونُهم مَرايا أتملَّى فيها معنايَ؛ فيتجلّى لي في رواءِ الرقّةِ، وفيضِ العذوبةِ، وثيابِ الولهِ.

▣المعقودُ بالعشقِ لا ينبغي له أن يتّخذَ الأغلالَ؛ لأنّ العشقَ اسمٌ من أسماءِ الانعتاقِ.

▣أنا ثُمالةُ العاشِقينَ، وبقيّةُ رمق المحبِّينَ، ومِسكُٰ ختامِ المُتيَّمين.

▣أنتَ المعشُوقُ الذي لم يكنْ قبلَهُ شيءٌ، والعاشقُ الذي لا يكونُ بعدَهُ شيءٌ، والعشقُ الذي هو كلُّ شيءً.

▣الصاخبونَ منطفؤونَ، وهم يظنُّونَ أنهم شمسُ الوقتِ.

▣"العطشُ سفرُ الماءِ في قلوبِ العارفين".

▣"مِشْكاةُ قلبِكَ التي يخرجُ منها ضَوْؤُكَ أوسعُ من العالم.
▣الجنونُ كسرٌ للقيدِ الذي انتظمتْ عليهِ الأشياءُ.
▣الجنونُ إفلاتٌ من فخِّ المتنِ إلى فضاءِ الشروحِ والحواشي والاستدراكِ.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم