يمكن تعريف الكتابة السهلة الممتنعة ببساطة بأنها الكتابة التي إذا ما قرأتها شعرت بأنك يمكن أن تكتب مثلها، وأن القصص والحكايات التي يتم تناولها تشبه كثيرًا قصص وحكايات مررت بها وعايشتها، ولكن مهارة التقاط تلك التفاصيل شديدة البساطة والتي يمكن اعتبارها أن الجميع عرفوها ومروا بها، والتعبير عنها بشكل جيد، ثم تجاوزها والانطلاق منها إلى مساحات خيالية حرة ورحبة، هي التي يعجز المرء عن الإتيان بها، بل وربما التعبير عن أسباب إعجابه بها أيضًا!

في مجموعته القصصية الصادرة مؤخرًا عن دار الشروق (قطط تعوي وكلاب تموء) لا يكتفي أحمد عبد المنعم بهذا التحويل الدلالي المقصود لأصوات الحيوانات في العنوان، بل ينطلق بنا بكل بساطة إلى الغابة! وهو إذ ينقلنا إلى هناك لا يحذرنا من الحديث عن مستقبلٍ قادم، ولا يمهد لذلك بأساليب التمهيد المعتادة، بل يتحدث عن الأمر على أنه واقع مستقر، كل ما ينقصنا فقط هو رصده والإلمام به، فالقرود غزت الشوارع بالفعل، والقطط ملأت الأحياء الهادئة، ولم يعد أي من تلك المظاهر يثير العجب أو الاستغراب، بل يبدو الرواي وحده مجرد راصد أمين لتلك التغيرات! بل وأكثر من ذلك حينما تنقلب الآية فيفتقد الناس روائح القمامة مثلاً، أو يمسك الطبيب بالقلب الحي ويشرح للتلاميذ مكوناته!

من جنة الرمز لشرك الواقع! 

لاشك أن استخدام "الحيوانات" في القصة سيحيل القارئ مباشرةً إلى الرمزية، ذلك المثال القديم الواضح في "قصص الحيوان"، وأن كل حيوان له ما يرمز إليه، تلك الطريقة التي تم استخدامها كثيرًا في الحكايات، ولكن أحمد عبد المنعم يخرج من أسر تلك الحكايات الرمزية بطريقته الخاصة التي يوضح فيها للقارئ على الداوم طبيعة العالم الواقعي الذي ينطلق منه، وذلك منثور في كل قصة من قصص المجموعة بما يتماشى مع عالمها، لاسيما في حالة "الطفل" الذي يتساءل أمام حقائق مفزعة، مثل الزلزال مثلاً الذي سرعان ما يقرب له والده معناه بالثور الضخم الذي يحمل الكرة الأرضية فوق قرنه، وحتى الأفكار التي لاتجد لها مكانًا في الرأس يمكنها أن تضخم ونجعل لها خرطومًا كبيرًا نتخلص فيه من زيادتها، ويمكن للناس أن تواجه الأسود وتلعب معها في مسابقة كبيرة تجمع عددًا من المشاركين!

ولكن مواجهة الأسد لم تكن إلا أثناء تقديم بطل القصة أوراقه لشغل وظيفة في شركة يجهل تفاصيل العمل فيها، والأفكار التي تضخمت من عقله سأل عنها زملاؤه في العمل وأِشاروا له أن علاجها عند طبيب معين، حتى صمت الببغاء كان الناس يعتادونه شيئًا فشيئًا، ويبقى في كل مرة بطل القصة متورطًا في حكايتها، وسرعان ما يلقي لنا بتفاصيلها ثم يختفي.

(( شعرت أن الأمر برمته كان فخًا، بداية من الرسالة التى تلقيتها من شركة الطريق وصولا إلى تلك اللحظة، لعبة ما حُبكت ضدى. تكومت فى أحد الأركان، أغمضت عينى، تطاير التراب فوق جسدى وظلت الأصوات المتداخلة تطاردنى. فكرت أننى إن خرجت من هنا سأعود للعمل فى الجريدة مرة أخرى، سأكتب ما يُطلب منى من مقالات، سياسية أو فى صفحة الحوادث، أيا كان، سأثبت لرئيس التحرير أننى لست جبانا وسأحكى له عن مسابقات الأسود، سأعد تحقيقا صحفيا مثيرا عنها))

هكذا ينسج أحمد عبد المنعم خيوط عالمه القصصي، سطرًا واقعيًا وآخر خيالي، يمزج بين الاثنين بمهارة، ويرصد من خلالهما أحوال المجتمع المختلفة بصوتٍ هادئٍ تاركًا الحيرة والتساؤلات للقارئ الذي لاشك سيتورط في تتبع كل قصة واستكشاف ما تشير إليه بشكل غير مباشر وبقدر كبير من الاقتدار.

يقسم أحمد عبد المنعم المجموعة إلى جزأين الأول "حيوانات المدينة" الذي يبدو وكأنه الرصد الحي لتلك التغيرات التي يلاحظها بطل القصة، وهو في أغلب القصص نفس البطل وان اختلف عمره أحيانًا وعمله في أحيان أخرى، ولكن لا يفوته في كل مرة أن يصبغ هذا البطل بصفاته الواقعية جدًا، سواء في الإشارة إلى علاقته "الطبيعية" بالآخرين، أو حضور أسماء الأماكن مثلاً "طلعت حرب" وغيرها، أو كونه يحب ويفرض فلسفته في الحب على قارئه، كل ذلك في ظني حتى يتمثل القارئ حالته تمامًا، ليكتشف ويفاجئ بعد ذلك بهذه التغيرات، ولعل التحول الذي يأتي في الجزء الثاني من المجموعة يؤكد تلك النظرة وتعمد تهيئة القارئ لتلك الأجواء إذ يأتي العنوان المختلف عن هذه الأجواء في "تائه في الغابة"

في هذا الجزء يتجاوز الكاتب فكرة الحديث عن الغابة وحيواناتها، إلى التركيز على حالة الاغتراب والبعد عن هذا العالم سواء كان غابة أو مدينة، فهو لا ينتمي إليه، إنما هو تائه، بكل ما يحيل إليه ذلك "التوهان" من حيرة وتردد وقلق، ويكون أبرز مثال عليه، وأكثرهم وضوحًا في التعبير قصة "حادث قتل جماعي" حيث يتبادل الناس الاتهامات حول مصير المقتول فيما هو ينزف دمًا! ولا حاجة هنا إلى استعادة الإشارة للغابة، فالوحشية في رسم المشهد وتفاصيله كافية جدًا، لذا أيضًا فلا غرابة أن يحضر "درس التشريح" الذي يعرّف فيه الطبيب القلب للتلاميذ ببساطة وشفافية، فيما يخشى بطل القصة أن يفتضح أمره حينما يتعرف على ما يخبئه فيه:

(( هذا هو القلب يا سادة… والقلب عضو مهم إلى حد ما ولكنه ليس حيويًا كما يظن البعض، فمن الممكن أن نعيش بدونه… هناك عمليات تجرى لإزالته في بعض الحالات، وذلك إنقاذًا لحياة المريض، والبعض يولد دونه كعيب خلقي، ولكنه ليس عيبًا خطيرًا أو ربما ليس عيبًا أصلًا، فالحياة دونه غالبًا ما تكون على ما يرام… كما أن بعض المراكز الكبرى والسلطات تشترط في موظفيها عدم وجود القلب، حتى ازدادت نسبة اللاقلبيين في الفترة الأخيرة… فإن بعض الدول تحكم بالإعدام على أي مواطن يتم كشف أمره ويتبين أنه ما زال يحمل بداخله قلبًا، لاسيما لو كان نابضًا… والقلب كما يعلم جميعنا يا سادة يتكون من أربع حجرات… البعض يستغلها في إيجارها لبعض الباحثين عن قلوب تنبض بأسمائهم))

بل ينتقل الأمر من عالم الدنيا إلى العالم الآخر، حيث لم يعد هناك مجال للحديث عن الإنسانية فيه، فيتسائل بطل القصة عن الملاكين الذين اعترضا على ما يفعله الإنسان في الأرض، وكيف تورطا في الذنوب حينما هبطا إلى الأرض، ولكنه لا يترك القصة بمفهومها المباشر ذلك دون أن يشير إلى أن ثمة ملائكة بالفعل على الأرض!

بين عالمِ يستوحش بكل ما فيه، وأفرادٍ/ أبطالٍ مغلوبين على أمرهم يسعون للنجاة فقط، أو حتى محاولة فهم ما يدور حولهم، تدور قصص هذه المجموعة، وتسعى لأن تؤسس عالمًا مختلفًا يأخذ من الواقع وينسج خيوط الفانتازيا والخيال بوعي شديد، حينها يكون من اليسير جدًا أن تبقى الملاحظة الأولى البسيطة أن القطط تعوي والكلاب تموء، وأن ذلك أهون ما قد يحدث في ذلك العالم!

أحمد عبد المنعم رمضان روائي وقاص مصري، صدر له رواية "أحلام مولانا" و"رسائل سبتمبر" ومجموعات قصصية "في مواجهة شون كونري" و"أحلام الدوبلير" الحاصلة على جائزة أخبار الأدب.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم