يتحدّث الروائيّ التشيكيّ ميلان كونديرا (1929) في كتابه «لقاء»، «ترجمة إنعام إبراهيم شرف، وزارة الثقافة، دمشق، 2012»، عن المبدعين الروّاد ومدى تأثيرهم التاريخيّ العميق، يورد أقوالَ وآراء عظام الكتّاب والفنّانين المبدعين عن بعضهم بعضاً، أو في مواقف حياتيّة هامّة، يؤكّد أنّ إبداعاتهم الفنّيّة تحمل دائماً شيئاً من البساطة، وهذا هو الكمال الحقيقيّ، بحسب وصفه. ينتقي نماذجه من عيون الأدب العالميّ، معتمداً على ثقافته الموسوعيّة في الفنون والآداب ليكشف خفايا النصوص التي يضعها تحت مجهره النقديّ الجماليّ، يَسبر الروايات سبراً وجوديّاً، ويغوص في أعماق اللوحات والمعزوفات التي يتناولها، ومن أولئك الذين يتحدّث عنهم وعن أعمالهم: فرانسيس بيكون، دوستويفسكي، فرديناند سيلين، فيليب روث، غودبيرغر بيرغسون، ماريك بينزك، خوان غويتزيلو، غابرييل غارسيا ماركيز، أناتول فرانسيس، فرانسوا رابليه، أندريه جيد، بيتهوفن، كارلوس فوينت.

يتألّف الكتاب من تسعة فصول، يتناول في كلّ فصل موضوعاً مستقلّاً بذاته، تتكامل الفصول والنصوص فيما بينها لترسم صورة متكاملة لرؤى كونديرا في الأدب والفنّ والجمال، كأنّه يعيد صياغة وصاياه المغدورة وطرحها في لقاءات فكريّة أدبيّة فنّيّة، تجمع على الجوهر الإنسانيّ لها. 

- ثنائيّات فنّيّة جماليّة:

«عندما يتحدّث فنّان عن آخر، فإنّه يتحدّث بطريقة غير مباشرة عن نفسه، وهنا تكمن المنفعة من حكمه» من هذه المقولة ينطلق كونديرا بلقاءاته، حديثه عن الآخر موازٍ وملازم لحديثه عن نفسه، عن التلاقي والاختلاف، نجده في الفصل الأوّل المعنون بحركة الرسّام العنيفة: عن فرنسيس بيكون. يتساءل: ماذا يقول لنا بيكون عن نفسه عندما يتحدّث عن بيكيت؟ وهو إذ يسأل سؤال العارف، فإنّه ينقل إلى القارئ ما سيقوله عن نفسه حين حديثه عن بيكون وبيكيت، سواء كان عن تماهيه معه من حيث موقفه ضدّ التصنيف أو ضدّ مُؤدلجي الحداثة. وعن اشتغال بيكون على الجسد الإنسانيّ يستشهد كونديرا ببعض لوحاته المعنونة دراسات في الجسد الإنسانيّ، حيث ينزع القناع عن الجسد الإنسانيّ ليكشف أنّه ليس إلّا مجرّد عَرَض بإمكانه أن يكون مشكّلاً بطريقة مختلفة، تلك الطريقة التي تسبّب لكونديرا الرعب، بحسب ما يصرّح، ويعزو ذلك إلى الخاصيّة التي كشفها الرسّام بغتة من الجسد الإنسانيّ، هذا وإن كان كونديرا يتحدّث عن لوحات بيكون، وعمله الفنّيّ في نزع الأقنعة عن الجسد، فإنّه كروائيّ نزع الأقنعة عن الأجساد وتغلغل في دواخل الشخصيّات في رواياته، فينطلق من تماهٍ فنّيّ مضمرَ.

يقف كونديرا ضدّ التسليع والتشييء والاستلاب. يقدّر بيكون الذي يصفه بأنّه وحيد في الماضي والمستقبل، ويصف وحدته بالمتفرّدة المبدعة. ويشير إلى أنّنا نعيش نهاية حضارة ما، كتلك التي كان يعيشها كلّ من بيكيت وبيكون، أو التي ظنّا أنّهما يعيشانها، حيث المواجهة الأخيرة والعنيفة لن تكون مع المجتمع أو مع الدولة أو مع السياسة، وإنّما مع المادّيّة الوظائفيّة للإنسان. كما ينسب أحياناً بعض الأحلام للأعمال الفنّيّة التي يعالجها، كحديثه عن بيتهوفن، إذ يتخيّل أنّ بيتهوفن كان يكتب مؤلّفاته الموسيقيّة، وهو يحلم أن يكون الوريث لكلّ الموسيقى الأوربيّة من بداياتها، يؤكّد على استمراريّة الحلم، وتناقله بين السابقين واللاحقين، ذلك أنّه تمّ إنجاز ذاك الحلم بعد قرنٍ على أيدي المؤلّفين الحداثيّين، بخاصّة شونيرغ وسترافنسكي.

نجده يكتب عن الهزل الخالي من الضحك، وهو الذي انهمّ بهذا الموضوع، وأفرد له كتاباً خاصّاً «الضحك والنسيان»، يسبر ما وراء الضحك، براءته، الحركات الملازمة له، التغيّرات التي تطرأ، الحسّ بالفكاهة أو عدمه، تكلّف الضحك، الضحك الخالي من الفرح أو البهجة، الضحك كوظيفة اجتماعيّة ذات أبعاد مجاملاتيّة وغيرها.  ثمّ عن الموت والتباهي منقّباً في أعمال فرديناند سيلين، ذاكراً أنّ كثيراً من مجايلي سيلين عاشوا تجارب قاهرة، وعايشوا الموت والحرب والإرهاب والعذابات والإقصاء، لكنّهم عاشوا تلك التجارب الرهيبة من الجانب الآخر؛ جانب المنصفين والمنتصرين المستقبليّين أو الضحايا المحاطين بظلم محمول وقصير، وكذلك من جانب النصر.     

يفصّل في العلاقة الجدليّة بين الذات والآخر، بين الوطن والعالم، ويركّز على ديمومة العلاقات الحضاريّة بين الأمم، حيث النظم السياسيّة تأتي وتروح لكنّ الحدود بين الحضارات تدوم. يروي ماهيّة التواصل بين الوطن والعالم، وهو الذي عاش المنفى وعاناه، يصوّر الخيوط اللامرئيّة الفاصلة بين الوطن والعالم، يتساءل عن مكان السلم الواصل بينهما، يمثّل لرأيه بالحديث عن المارتينيك التي أدّى التعايش بين الظروف المتوسّطة المختلفة إلى خلق أصالة ثقافيّة، إذ أنّ كلّ شعبٍ يبحث عن نفسه. المارتينيك التي هي تقاطع مضاعف؛ ملتقى القارات؛ أرض صغيرة جدّاً حيث تلتقي فرنسا وإفريقيا وأمريكا، والتي تعدّ لقاءً بين تشعّب ثقافيّ كبير ووحدة كبيرة، ذات ثراء لغويّ فريد وتركيبة اجتماعيّة ولغوية متمايزة.

- فلسفة اللقاء:

في فصوله المتعدّدة، ينتقل من لقاء إلى آخر، حيث جميل كلقاء مضاعف، واللقاء من فوق مئات السنين، ثمّ اللقاءات بين الكتّاب والمفكّرين، بين الحضارات، بين الفنون، بين اللغات، والتركيز على أهمّيّة اللقاء كفعل إبداعيّ منتج، اللقاءات التي شكّلت بدايات مراحل فكريّة وأدبيّة وشرارات لعوالم منشودة، ما كانت لتنجز لولا تحقّق تلك اللقاءات. يذكر كيف كان اللقاء يشكّل بالنسبة للمفكّرين في هاييتي سعادة عابرة لا تنسى، قلت لقاء، ولم أقل إقامة ولا صداقة ولا حتّى حلف؛ إنّه لقاء بمعنى شرارة، ومضة، صدفة. وكيف يمكن أن يشكّل اللقاء شرارة انطلاق لتشييد صروح أدبيّة عظمى. يلتقي مع الكاتبة لينارتوفا في الحرص والتأكيد على حرّيّة الكاتب واستقلاليّته، الكاتب قبل كلّ شيء إنسان حرّ، وواجب المحافظة على استقلاليّته ضدّ أيّ نوع من الضغوط يأتي قبل أيّ اعتبار آخر. يدين تلك الضغوط التي تفرض على الكاتب باسم مشاعر الواجب نحو الوطن. ويعدّ الكاتب حارساً للغته. 

يبحث في نقاط العلّام والمعالم الحقيقيّة في الإبداع، المعالم المنقوشة على خريطة الإبداع الإنسانيّ. ينقّب في لقاء الفنون وتداخلها، لقاء العصور والأجيال، لقاء الرؤى والأفكار، يكرّر أنّ الرواية الحقيقيّة تركّز على ما تستطيع الرواية وحدها أن تقوله، وتعيد إحياء كلّ الإمكانات المهملة والمنسيّة التي راكمها فنّ الرواية. لا يقبل فكرة تحويل الروايات إلى قرابين للسياسة، ولا التضحيّة بجماليّاتها لصالح التسييس الذي يحجّرها ويحوّلها إلى مادة دعائيّة. يرى أنّ الرواية العظيمة تكسر المألوف والشائع، لا تشبه الفكرة المجمَع عليها عن الرواية. في حين يصف الرسم بأنّه عالم مملكة الليل، عالم يتحوّل فيه الكلّ إلى أسطورة، عالم القسوة، كأنّ مضاي العبوديّة الذي لا يُمحَى كان يعود متمثّلاً باستحواذ الجسد، الجسد المتألّم، الجسد المعذّب المجروح، يستشهد بمقولة لبريلو حول القسوة والجمال في الرسم، يؤكّد فيها على وجوب تعلّق الرسم بالجمال قبل أيّ شيء آخر، وتحاشي إثارة انفعالات جماليّة إضافيّة، تهيّجات، مخاوف، نفور أو صدمات. يقول: «نشيح النظر أمام فيلم لمجزرة بينما أمام لوحة غيرنيكا يستمتع الناظر علماً أنّها لوحة تروي الرعب نفسه».

يتحدّث كونديرا عن الدور المفجع للمشاعر الشعبيّة في زمن الحرب، حيث يعتبر العاطفيّة بنية فوقيّة للعنف، كما يتحدّث عن الذاكرة المتبدّلة في ساحة المعركة، الحرب وتداعياتها الخطيرة، عن انسحاب الأحقاد إلى داخل الأمم، حيث يتبدّل جوهر المعركة، فلا يعود المستقبل موجّهاً للكفاح، وإنّما الماضي هو الذي يوجّهه، ومعركة أوربا الجديدة لن يكون لها مكان إلّا في ساحة الذاكرة. ويؤكّد أنّه بقدر ما كانت أوربا تبتعد عن نهاية الحرب بقدر ما كانت تنادي بالحرّيّة، كواجب أخلاقيّ، بجعل الجرائم الماضية مخلّدة في الذاكرة. ويتذكّر مشاهد مرعبة فظيعة من الحرب، حيث كان واقع الحرب يتجاوز المعقول، وحرب الذاكرة لا تعاقب بشدّة إلاّ المنهزمين، فيما المنتصر يبقى بعيداً لا يمكن اتّهامه. يتساءل: لمَ لا يجعل مرشدو الذاكرة من هذه الفظاعة ذكرى مقدّسة؟

«لقاء» كونديرا بقارئه هو نوع من اللقاء بين الأزمنة والاتّجاهات والفنون، لقاء بين تأمّلاته وذكرياته وأحبّته وأصدقائه، يرصد بعض اللقاءات بين الأدباء والفنّانين عرفهم وأعجب بهم وبأعمالهم. وهو كتاب بانوراميّ يحيي من خلاله بعضاً من تأمّلاته في فنّ الرواية بالإضافة إلى تأمّلاته المتعلّقة بقضايا نظريّة تمسّ نصوصاً روائيّة ورؤى خاصّة بالشعر والموسيقى والفنون التشكيليّة تعكس شغفه الكبير بها.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم