لعل أهم سؤال يتبادر إلى الذهن بعد مطالعة الرواية: هل غدا الأدب حرثا لبحر الفكرة وتحويلا للموج إلى بيوت مكيفة؟

يقتصر النص على البوح مع السماح للشخصيات بالتداعي الحر في عرض ما يتبادر إلى خاطرهن المرتبط في قسمه الأكبر بالماضي الذي استحوذ على كل الأدوار الرئيسية في تقرير المصائر ولم يترك للحاضر سوى أحداثا ثانوية لا ترتقي إلى القدرة على تغيير مجرى الأحداث وليس هذا التغيير غاية سردية فالهدف  في البوح الذي يطول ويتكثف وتحشر فيه صنوف المشاكل من غرق وصعق بالكهرباء وسرطان وسكري وطفولة أسيرة غرفة تعذيب وقضاء نحب بجرعة مخدر زائدة...وغير ذلك من النوائب صغيرها وكبيرها التي يبدو وكأنه تم استحضارها عنوة وتكديسها سعيا لجعل النص ممتلئا بالقضايا..
لكن، هل يكفي الإشارة إليها لتلعب دورها وتشكل ثقلا في سيرورة السرد أم يجعلها حضورها على هذا النحو تفقد قيمتها وتتحول إلى حدث عابر لا يحرك المشاعر لأنه منضو في خانة العادي؟

أضفى سوء تنسيق النص إلى قفزات اضطرارية مفاجئة، إذ بينما يتم الانتهاء في فقرة تتحدث فيها حرير مثلا، تنطلق الفقرة الموالية في بوح لغزالة، وهو أمر على بساطته الظاهرية غير محمود وكان بالإمكان تلافيه بالفصل بين البوحين سواء بطريقة التواريخ التي تم استخدامها أو تسمية الفصل الجديد أو الاكتفاء بتوفير المساحة الفاصلة فحسب...غير أن هذا الدمج الذي لا يمكن الجزم هل هو مقصود أم زلة، يؤكد غياب الحبكة السردية في نص تكتفي شخوصه بالبوح لتمسي الرواية شبيهة ببرامج "فرغ قلبك" حيث يسمح للشخص بالحديث بتوجيه حينا وغيابه أحيانا عمدا لتركه يتوغل في تغاصيل قد لا تعني سواه ولا يجد فيها المستمع ما يخصه أو ما يرجه بل قد يرفض مواصلة الإنصات إذا لم يتحل بقدر كبير من الجلد جازما أن قراءته أو استماعه لهذه التفاصيل لن تضيف إليه شيئا وإن أهدرت بعض وقته معتبرا إياها فسحة لاكتشاف الخبايا التي لا جدة فيها دون أن يطمح إلى قفلة فريدة أو حدث لافت أو بوح يبقى تذكارا من رحلة الإصغاء، فلا يجد سوى تفاصيل كثيرة بعضها ضروري لتأثيث النص وزخرفته بعرض الطابع الحضاري الذي هيمنت عليه أسماء الأطباق المحلية وبعض الأماكن والبقية يجوز الاستغناء عنها لأنها تتكرر أو تعيد أفكارا معروفة عن الحب والصداقة والزمن والنظرة إلى الذات
وإن لا يمكن إنكار الطرافة في رصف تفكير العمة مليحة التي تم اللجوء إليها كشخصية تمنح الرواية ما تتطلبه من السخرية المرة..

هناك أيضا تفاصيل من المستحسن تأخيرها كي لا يفقد النص بذكرها منذ البداية أو المنتصف وهجه ونتحدث في هذا الإطار عن الكشف المبكر لإحساس آسية أخت غزالة بالرضاعة وما تعانيه من شعور الذنب الناتج عن دفع الأخت الصغيرة المدللة في الفلج ما سبب غرقها.
تبقى مسألة الاختلاق قائمة ما دامت الصدفة التي حاكها الراوي غير قادرة على إقناع القارئ بمنطقها الطبيعي، وهو ما نجده في ارتباط الشخصيات الثلاث، فغزالة وآسية أختان افترقتا، لتغيب غزالة هذه الأخت من ذاكرتها إلا لماما، لتحضر وبشدة في بوح حرير صديقة غزالة، ورغم أن لا علاقة بين حرير وآسية سوى هذا الانشداد الذي لا تعرف حتى حرير سببه كما انشدت إلى غزالة لسبب غير وجيه، لكنه، ضروري للكاتبة لأنه منفذها لتصرح عن سبب شعور آسية بالذنب لا غير..ورغم أن غزالة وحرير صديقتان تخوضان في جميع المسائل الشخصية إلا أنهما لم تتحدثا عن العنصر الذي يجمعها وهو آسية..وهو ما يدفع إلى التساؤل عن مدى حسن اختيار المخرج لعرض هذا التفصيل الذي أريد به أن يكون صادما على أنه ليس كذلك فمنذ مكالمة آسية للشيخ واستفساره توضح الأمر وانجلى وغدا ما سيرد بعده زائدا.

تقول الراوية على لسان شخصيتها : إن العالم مليء بالكلمات التي لا تستحق عناء التلفظ بها أو أن أوان التلفظ بها قد فات"، غير أنها لا تستفيد من هذه "الحكمة" فهل كل ما روته شخصياتها يستحق العناء لنقله بإطناب مع تنويع سبل الإسهاب فيه وهو تونع لا يورث إلا إملالا لأنه لا يعزز حب الاطلاع وإنما يرضي من طبعه الفضول الذي يغلبه ولا يغالبه، وهل يمكن لما تم البوح به أن يجد لنفسه مكانا في الواقع حاضرا ومستقبلا..وهل الطريقة التي قيلت به ممتعة؟

تتأرجح اللغة بين البساطة السلسة وبين رغبة تستبد على حين غرة للتنميق والانحياز بالفكرة إلى تصويرها شعريا وهي رغبة لا واعية تشي أن الكاتب غير راض عن حبكته فيسعى إلى دعمها وزخرفتها والإغراب في نقشها، لا يؤمن ببلاغة الموجة الحرة لذلك يستصلحها لغويا ويهيء لها أساليب تحصرها لتنبت المعنى فتبقى البذرة خفية مهما تم تقليب تأويلاتها، لتنعتق أحيانا غير أنها تفضح هويتها المصطنعة في تعبير ثقيل وتركيب غشيه الغموض فأذهب حسنه مثل التعبير التالي: " تفجع بشري على جوهر الوحدة في الإنسان المتجدد إدراكه مع كل حب يفشل بالفروق في توحيد كائنين منفصلين".
وهو ما يعيدنا إلى الاستفهام المطروح في البداية، لا لنجيب عنه إذ تبقى الأجوبة مشرعة غير أن الرواية رغم الجهد الواضح في جعلها مكتظة بالتفاصيل لتنجح على التدليل على الثراء حينا وعلى فقر القدرة على جعل الفكرة ممشوقة والرضى بترهلها والبقاء على سطح المواضيع فالغوض مغامرة غير مأمونة، وهو ما جعل السرد في مجمله عملية عبثية فلا البحر يحرث ولا الموج يأسر، والغزالة فريسة ذاتها حين تتخلى عن إصرارها على النجاة من التكرار والحرير إسباغ في الترف قد يثير الامتعاض.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم