يشكل عالم الأساطير الحكايات الخرافية معينًا لا ينضب للعديد من الروايات والقصص عربيًا وعالميًا، ويبقى تميز كل كاتب وروائي في طريقة استفادته من هذه الحكايات وكيفية توظيفها لعمله السردي بطريقة جيدة، في روايتها الجديدة تنسج دعاء إبراهيم من عوالم الحكايات والأساطير عالمًا روائيًا مختلفًا تمزج فيه الواقع بالخيال، والحقيقة بالأسطورة، وهي إذ تفعل ذلك فإنها تساءل الواقع والحكايات على السواء، وكيف يمكن مواجهة ذلك العالم، هل تمكننا الحكايات والأساطير من تقبل ما في الواقع من مشكلات ومصائب بالفعل؟ أم أنها تلتف علينا لتغدو لعنة تلاحقنا، لاسيما إذا عرفنا – ربما بعد فوات الأوان - أنه لا أساطير في الواقع، وإنما المزيد من الحقائق المؤلمة فحسب!

تحكي الرواية عن طبيب من الإسكندرية يحمل أصوله الريفية من قرية قريبة (لم تحدد الكاتبة اسمها)، ويحمل معه ذلك الإرث الضخم من حكايات القرى وأساطيرها مع حكايات بحر الإسكندرية وعالمه، يحكي لنا حكايته ونتعرف منها على مأساته منذ كان طفلاً صغيرًا يتأثر بحكاياته أمه وتهيمن عليه قسوة أبيه، حتى استوى عوده شابًا وزوجًا وأبًا وطبيبًا يسعى لمواجهة صعوبات حياته الواقعية وما فيها من تحديات ومشكلات.

تهيمن الحكايات والأساطير على أجواء الرواية منذ سطورها الأولى، ويبدو البطل متورطًا في غوايتها، وتحليليها ومقارنة كل حكاية في حياته بحكاية أو أسطورة من التراث الشفاهي الذي سمع بعضًا منه من أمه (فيما يقول) وبدأ بالتعرف على البعض الآخر في مسيرة حياته، نتعرف على علاقته الخاصة والملتبسة بوالده الذي يمارس عليه قسوة غير مبررة، يقمعه ويصادر على رأيه وكلامه، وكأنه بذلك يستثير منذ الصغر مخزون الحكايات لديه، حتى يكبر فيخرج كل ما لديه من حكايات وقصص دفعة واحدة!

((الساحرات في الحكايا يعِشن لمئات السنوات، ويتمتعن مع ذلك بجمال ملحوظ، جمال مسروق من فتيات في العشرينات بتعويذة سحرية. يتحول جمالهن من هيئة إلى اخرى، يُحلِقن فوق مكنسة سحرية. أو يركبن على جناح طائر عملاق. لكن الحقيقة أن الساحرات على مر العصور كُنَّ بائسات. لم يكُنَّ سوى فتيات صغيرات. اتهمهن الجميع بالشعوذة، الهرطقة، والكُفر. في كل قرية فقيرة ساحرة صغيرة منبوذة، مُطاردة؛ ربما لأنها تفوهت بما هو مُحرم، أو لأنها وُلِدت بلعنة غريبة، أو بوصم من الآلهة، وصك الشيطان))

وهكذا تُبنى الرواية على تسعة عشر حكاية وتأتي الأخيرة (صفر) لتكون بمثابة العشرين المكملة، وهي المفسرة في الوقت نفسه لبعض أسرار الحكايات السابقة، اختارت الكاتبة أن تقسّم فصول روايتها إلى حكايات تتقاطع فيها سيرة بطلها بين ماضيه كطفل وما مر به هو ووالدته وخالته وأبوه، وحاضره كطبيب وزوج يواجه الموت في المستشفى ومشكلات الحياة مع زوجته، وبين حكايات السندريلا والجميلة والوحش وأساطير بينوكيو والأميرة وحبة البازلاء وميدوسا وبوسيديون وغيرها من الأساطير تتوزع حكايات البطل، ونرى كيف يقيم في كل مرة معادلاً موضوعيًا بين حكاياته الواقعية وتلك الحكايات والأساطير التي تشربها عقله، وبدأ يسائلها ويحاكمها ويقيس عليها العالم من حوله.

من خلال تقنية تيار الوعي نتعرّف على عالم ذلك البطل، ويتماهى القارئ مع حالته المربكة المركبة، وانتقالات السرد بين الماضي المؤلم والحاضر الغامض، وتبرز قدرة الكاتبة على الاستغلال الأمثل لتلك الحكايات وتضفيرها مع حكاية البطل، فالأم مثل "زهرة البرسيم" بيضاء بين سمراوات، والخالة ذات الأنف الكبير تذكره تجمع بين الساحرات الشريرات وأسطورة "ببينوكيو"، وأبوه يبدو له في البداية أميرًا من أمراء الحكايات، لكن لا تلبث تلك الصورة الوردية أن تنهد وتتلاشى بعد أن يعرف الحقيقة، وأخته التوأم تموت بين يديه وتذكره بحكاية "الفأر والمزمار السحري"، والحكاية التي أخذت منها عنوان الرواية "الأميرة وحبة البازلاء"، وكيف يربط بينها وبين حكاية أمه التي يرى أنها أميرة حقيقية، والأميرة والوحش، وغيرها من الحكايات.

والجميل في عرض تلك الحكايات كلها أن القارئ يمكنه أن يعود لأصولها ويتعّرف على تفاصيلها هناك بعيدًا عن عالم الرواية، ثم يلحظ كيف استفادت الكاتبة من الحكاية وجعلتها نسيجًا متصلاً في متن السرد، بل وجعلت البطل يسائل تلك الحكايات التي بدا أن تشكّل عالمه:

(( أدركت أنني لم أكن أهذي. لكنني هذيت فيما حكيته لكِ يا ماما. ما علاقتكِ بأثينا وبوسيدون. ما هذه الفلسفة الفارغة لماذا أتعاملُ مع الأمور كأنني أعرف كل شيء؟ ما علاقة الآلهة بأمي وأبي. ‏ ‫ما علاقة الآلهة بفلاحَيْن مثلكما. ربما لأنني مكثتُ وقتًا طويلًا أظن أنكما إلهان مُنزَّهان عن الخطأ.كنت أظنكِ أجمل امرأة في الكون وأبي أغنى باشا وأهم دكتور .لكن الآلهة تسقط عن أعيننا تدريجيًّا نحن الأطفال، نكتشف مع الوقت أن أمهاتنا عاديَّات ككل الأمهات. هناك إناث أجمل منهن. لم تكونا غير بشريين بكل ما تحمله البشرية من آثام. تلك الحقيقة لا تتعارض مع الحب. لا آلهة تمشي على الأرض. الآلهة نصنعها بأدمغتنا ونجعلها لنا أبًا وأُمًّا))

هكذا بعد رحلةٍ لا تطول كثيرًا يستسلم البطل/الرواي أخيرًا، ويلقي بكل أسلحته أمام القارئ، رغم كل ما نسجه من حكايات، وما ورطنا فيه من قصص وعوالم، يشير بعد كل ذلك أننا من نصنع الحكايات ونصدق الأساطير ونؤمن بسيطرة الآلهة!

وهكذا استطاعت دعاء إبراهيم أن تنسج خيوط عالمها الروائي بمهارة واقتدار، وأن تجمع بين دراستها وخبرتها الطبية وبين السرد الروائي والتقاط تلك التفاصيل الخاصة بالعمل والمرضى، وأن تطرح بعد ذلك من خلال الرواية عددًا من الأسئلة والعلاقات الشائكة بين أبطال العمل، سواء علاقة الأب بابنه أو الولد بأمه، أو تلك العلاقة المحرمة أيضًا بين الوالد والخالة، أن تحكي تلك العلاقات وتعرض كل تلك المشكلات في القرى والمدن، بين الأطبّاء والمرضى، وبين البسطاء وأصحاب النفوذ بأسلوب أدبي رصين، دون أن تقع في فخ الخطابية والمباشرة، وأن تجعل القارئ يتعاطف مع مشكلات أبطال العمل على السواء، وعلى رأسهم ذلك البطل/ الراوي المهزوم بين واقعه الصعب وحكاياته المؤرقة.

تجدر الإشارة إلى أن (حبة بازلاء تبنت في كفي) هي الرواية الثالثة لدعاء إبراهيم، وصلت روايتها ست أرواح تكفي للهو" للقائمة القصيرة بجائزة ساويرس الأدبية فرع شباب الأدباء، كما حازت على جائزة مؤسسة فلسطين الدولية للرواية دورة الأديب غسان كنفاني في العام الماضي 2022، وصدر لها أيضًا رواية لآدم سبع أرجل" كما صدر لها مجموعتين قصصيتين "نقوش حول جدارية" و"جنازة ثانية لرجل وحيد" التي صلت للقائمة القصيرة في جائزة ساويرس الأدبية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم