تمثل رواية أُم الزين الرواية النفسية باقتدار؛ حيث نتابع تلك الشخصيات المنغلقة على نفسها التي تعيش أوزار حياتها لوحدها، وتختار مستقبلها المظلم أو المنير في لحظة حرجة من لحظات ليبيا وفي مكان حرج من الأمكنة الليبية.

ام الزين هي رواية للروائية الليبية المميزة: دكتورة غالية يونس الدرعاني، التي فازت عن هذه الرواية بجائزة أحمد الفقيه التشجيعية في نسختها الأولى، وسبق للأستاذة غالية أن فازت بجائزة الطيب صالح العالمية للرواية عن روايتها قوارير خاوية.

أم الزين تعني العنكبوت بحسب التعريف الوارد في الرواية لها، هذه التسميةوالحديث عن العنكبوت هو ما نتابعه بداية الرواية في حوار بين الوالدة سعاد التي تمثل الصوت الرئيسي الذي يدير أحداث الرواية وبين بنتها سناء، لنتابع حكاية الرواية.

حكاية الرواية:

في رواية أم الزين ينجح الراوي في وضع شخصيته في وضع شديد الخصوصية، وذلك بارتباطها بشخصية كريهة (عضوة سابقة في اللجان الثورية ونشطة في مجال الأعمال الإجرامية التي صاحبت نظام القذافي)، ترتبط السيدة المرهقة نفسيا سعاد (وهي تبحث عن أي طريقة للوصول إلى معلومة حول أبنها) بنفيسة زوجة حازم علام رجل الدولة، أو الرجل القوي في زمن لا ينجح فيه إلا القتلة والمجرمين من أعضاء اللجان الثورية.

سعاد كانت ترغب عن طريق نفيسة أن تصل إلى انقاد ابنها (سراج) الذي تتوهم أنه مقبوض عليه في سجون النظام، وهو في الحقيقة قد قتل من الأمن وهم يحاولون القبض عليه فيما كانت هي تشجعه على الهرب.

تعمل سعاد ممرضة في مستشفى، وعندما علمت بخبر إصابة نفيسة زوجة حازم في حادث سير وفقدانها الوعي عملت كل ما في وسعها للبقاء جنبها، والتقرب لها؛ عسى أن تصل إلى ابنها أو تنقذه كما تتوهم من سجون نظام القذافي.

محمود زوج سعاد كان قد تركها هو وباقي الأسرة وسافر إلى مدينة أخرى بعد أن صارت الحياة معها تشكل خطرا على البقية. هي ترفض العلاج بسبب الجحيم النفسي الذي كانت عليه، وهي في الحقيقة ولا تعلم بنفسها. تركوا معها سناء أبنتها وأخت محمود (زوجها) فاطمة، هذه المعلومات نعرفها في أخر الرواية.

نعلم أن والد سعاد شاعر، كان هدفا مستمرا لسجون النظام، وعانى كثيرا بسبب مواقفه المتصلبة من كل ما يراه من ظلم واعوجاج.

تتطور الأمور ونجد أحدا مفارقات هذه الرواية عندما عرف أحد الشباب الذين قُتل أخوهم في سجون النظام بوجود نفيسة زوجة علام في المستشفى فاقدة للوعي، وكان يريد أن ينتقم منها، فتدخلت سعاد ودخلت في مواجهة غير متكافئة معه، وهي تحمي جسداً بين الحياة والموت لمجرمة تسببت في قتل أخ هذا الثائر الغاضب، كما تسببت في قتل أبنها ووالدها السجين، كما كانت خلف موت الكثيرين ممن اعتبرهم نظام القذافي بأعدائه، وامتلكت قصورا وأموالا نتيجة لسخاء النظام مع اتباعه المخلصين.

فاطمة أخت زوج سعاد كانت تتواصل معها وتطلب منها أن تعود إلى أبنتها سناء التي صارت وحيدة، وترجوها أن تهتم بها، فالعمة تشعر بالخوف عليها إذ تراها منهمكة مع الأنترنت لساعات طويلة، وكذلك تتابع علاقتها مع شخصيات خاصة في المسجد، وكان ذلك ضمن تحولها الفكري الذي تعيشه وقد صار لها تصورات جديدة عن الدين والحياة.

تُهَرِّب سعاد نفيسة فاقدة الوعي وتذهب بها إلى منزلها في خضم الاحداث المرتبكة في بنغازي بدايات ثورة فبراير، وهناك تبدأ عودة المريضة لوعيها فبدأت تساعدها كي تسترجع صحتها وتحاورها وتخبرها بما يحصل وكان في شخصية نفيسة التي استعادت وعيها فرصة لسماع الصوت الآخر: صوت النظام الظالم الذي انهار في بنغازي. بعد أن استرجعت نفيسة صحتها طلب من سعاد أن تأخذها إلى منزلها الذي كان قد احرقه الثوار الغاضبون.

أخذت تبكي على بيتها وزوجها والنظام الذي تنتمي له، ثم بعد العودة صارت شيئا فشيئا هي المسيطرة على سعاد التعيسة التي بدت بجانبها في حالة من الدروشة والتيه بين بحثها عن ابنها وبين منطق نفيسة المعادي لكل تاريخها وتاريخ أهلها.

تركت نفيسة البيت في أحد الصباحات إلى وجهة مجهولة، وكانت سعاد في حالة نفسية تعيسة، عندما اتصلت بها فاطمة أخت زوجها التي انضمت مع زوجها المصري الصعيدي إلى إحدى الجماعات الإسلامية في درنة، وأخبرتها أن البيت الذي تسكن فيه هو بيتها، وأن ابنتها سناء قد تزوجت من تونسي وأسمها الآن أم حذيفة، وأنها قد سافرت إلى وجهة مجهولة.

زارها زوجها الذي ذكرّها بالماضي وبظروفها النفسية التعيسة وما كان يعيشان في الماضي من ألم معها، وكانت الرواية تنتهي على صورة سعاد وهي تحاول خنق زوجها أو ربما تتصور أنها تخنقه في لحظة درامية شديدة التوتر تدل على قدرة كتابة مميزة وعلى تفعيل دراما السرد.

بناء مدخل الرواية

المقطع الأول:

تمّ وضعنا في المقطع الأول من الرواية في إطار العلاقة المتوترة بين الأم سعاد وبنتها سناء من خلال الحوار حوال العنكبوت والشعور المتنامي بينهما بالتنافس لنتابع ذلك؛ حيث الراوي يأخذنا في المقطع (أ) إلى موضوع مختلف وبعيد لكنه يصبح لب الصراع بين الأم وبنتها وتتأسس أمامنا بذلك شخصية الأم القلقة شيئا فشيئا، في (ب) نتابع في لغة دقيقة مميزة ما كادت تجزم به الشخصية المتكلمة، ثم نتابع في (ت) انهماك الشخصية في تصوير سينمائي (لحركة) العنكبوت، وهو كما نلاحظ تصوير هادئ صبور، لننتقل في (ث) إلى مشاعر الشخصية وهواجسها قبل أن كلمها بنتها في (جـ)، في (حـ) تنقل لنا مشاعرها، ثم تستفز المروي له بسؤالها لنفسها في (خـ) هذه الأسئلة التي تتناسل من بعضها البعض لتضعنا في حجم توتر الراوي/ الشخصية المتكلمة، في (1) نجد كلمات تعكس بشكل غير مباشر أشياء نفسية تعيشها الشخصية وهي تتحدث عن البيت الواهن، حيث سنعف فيما بعد أن بيتها هي هو الواهن، ثم في (2) و (3) نتابع الأسئلة اتي تعكس طبيعة العلاقة بينها وبين بنتها، ثم يبدأ الحوار الذي طالما كانت تؤطره الأم سعاد/ الراوي في هذه الرواية، بينما نجد في (ر) كيف بدأ توظيف تقنية السرد التواتري في وضعنا في إطار ما يحصل من خلاف مستمر بين الأم وبنتها ولجعل ذلك الخلاف مستمرا ففي (ر) نتابع الحديث عن ذلك الخلاف كيف أصبح في المدة الأخيرة مستفحلا بينهما، ثم في (1، 2، 3، 4، 5، 6) نتابع كيف تخلي الشخصية مسئوليتها عما يحصل للترك الخلاف باعتباره فاعلا قائما بينهما بالقوة؛ حيث يبدو الخلاف نفسه مجسما كقوة قاهرة لينتهي الأمر بترك بعضهما البعض في شجار:

"(أ) كمهندس يفهم أصوات الأماكن اختارت الزاوية العليا، تسلقت خيطا واهيا، خيطا لا يرى بسهولة، (ب) حتى أنني كدت أجزم بأنها كانت تتسلق الهواء، (ت) سحبت خيطها من بين مغازلها، ثبتت طرفه على الجدار، ثم عادت من جديد نحو الجدار المجاور تمتطي خيطا آخر، وحين انتهت رفعت مؤخرتها في خيلاء وكأنها تتباهى بفن لا يجيده غيرها.
واصلت الركض، كأنما في الهواء، وقفت بين الفينة والأخرى، حركت أقدامها، (ث) شعرت أنها تراني، وربما تتوعدني لسبب لا أفهمه:
- (
جـ) أووووه.. هذا عنكب جديد.
قالت سناء بشكل مفاجئ وهي تقف خلفي، (حـ) أرعبني صوتها، (خـ) وتساءلت: (خـ.1) منذ متى وهي هنا إلى جانبي تراقب معي عنكبوتي الصغيرة وهي تغزل حريرها وتبني بيتها الواهن؟ (خـ.2) كيف لم أشعر بدخولها إلى غرفتي؟ (خـ.3) ولماذا تتحدث معي بهذه الطريقة المستفزة وتشعرني بأني ساذجة، وبأن غرفتي وكر للحشرات.
- (
د) بل عنكبوت يا عزيزتي، هي أنثى يا صغيرتي.
(
ذ) ضغطت على كلمة (صغيرتي) لأشعرها بأنها صغيرة مهما كبرت، أردت أن أغيظها ببعض المعرفة التي لا تملكها هي مدمنة العالم الافتراضي، فلا فائدة من إنكار وجود هذه العنكبوت (الجديدة) وفي غرفتي، قلت لها ذلك في نبرة حاولت أن تكون هادئة، فلا فائدة من الدخول معها في جدال جديد، (ر) هذا الجدال الذي أصبح يستفحل بيننا في الأيام الأخيرة،(ر.1) ينطلق من شرارة صغيرة، وأحيانا من لا شيء، (ر.2) يجرفنا في دروب كثيرة، يتوهنا في ممرات متشابكة، (ر.3) ويقرع رأسينا ببعضهما عند تقاطعات الطرق، (ر.4) قد يقفز بنا من نقطة في أقصى الشمال ليرمينا في أخرى في أقصى الجنوب، (ر.5) لا يتركنا إلا إذا تأكد من أننا أصبحنا غريبتين تماما كأننا لا نتحدث باللغة نفسها، وتائهتين جدا حتى تصبح كل الطرق بابا وطريقا مشرعا للهروب، وممزقتين إلى أبعد حد، لا تنبت في طريقنا سوى الأحجار الصماء، نصبح عيون فيضها ألم وأجسام كلها سقم، (ر.6) وفي النهاية أذهب أنا إلى عملي بعنادي غاضبة، وأتركها بعنادها غارقة في الوحدة والدموع والاكتئاب"

المقطع الثاني:

تم في المقطع السابق كما تابعنا التعريف بجزء من موضوع الرواية وطرح قلق الشخصيات وتوترها، والتعريف ببعض خصائصها وطبيعتها وهي أشياء لا تقدم عبثا وإنما يقوم الروائي (عن طريق راويها بوضعها بشكل مقصود لجعلنا نتابع الأزمة منذ البداية.

لنلاحظ ان الرواية بدأت على صورة الواهي والضعيف الذي ينهش فرائسه وأقصد هنا العنكبوت التي ليس إلا عنونا للرواية (أم الزين).

المقطع الثاني فيه المزيد من إبراز الشخصيتين خارجيا وداخليا، كذلك نجد فيه المزيد من التعريف بإطار السرد الزماني والمكاني.

نبدأ بالتواتر، الذي هو التقنية الرئيسة في هذه الرواية، وهو إطار كل ما يحصل من إحداث فهي كلها تقدم في صورة متواترة، نتابع ذلك في (أ) في المقطع يتم الحديث عن الشخصيتي معا، الأم المتكلمة ممثلة الراوي هنا وابنتها التي تصورها بحياد غير حقيقي، طبيعة السرد في المقاطع (أ، ب، ت) تبرز أن ما يفعلانه هو المتكرر في كل مرة؛ بينما يتم تفعيل ذلك السرد من خلال حديث الراوي بصيغة المثنى عنها وابنتها، مع توظيف الحواس غير البصرية بشكل مميز والكلمات الدالة بشكل غير مباشر مثل :صنم، العقيم، الصدئة، شاسعة.

الاشتغال على الحواس بفعل السدر عبر الحواس غير البصرية كما اسلفنا؛ حيث في (ت) البعد السمعي، مع البعد التذوفي من خلال الحديث عن المشروبات الغازية والشي بكثير من السكر

ويستمر الحوار المستفز بين البنت وأمها في (ث) ثم سيطرة المتكلمة المؤطرة للخطاب (الأم) وهي تعبر بشكل غير مباشر عن أثر كلمات بنتها عليها وتشعرنا أكثر بالمسافة الكبيرة بينهما

"(أ) أغيب لأيام أجالس مريضتي في غرفة العناية بمستشفى الجلاء، يستبد بي القلق على سناء، أعود لبعض الوقت، (ب) تستقبلني وقد بدت مثل صنم، نتبادل السلام العقيم، والقبل الفارغة الصدئة، نجلس على أريكة واحدة ومسافات شاسعة تفصل بيننا.

(ت) نأكل معا ولا صوت سوى أصوات الملاعق والصحون، نحتسي المشروبات الغازية أو الشاي الأخضر بكثير من السكر معا، ثم ننام، أنا في غرفتي، وهي في غرفتها مع عمتها فاطمة، وننسى أن تتمنى أحدنا للأخرى ليلة سعيدة أو نوما هانئا.

(ث) - وكيف عرفت بأنها أنثى؟ هل أريت جهازها التناسلي مثلا؟.

(جـ) ها قد بدأت خيوط اللعنة تغزل بيننا.

تقفز كلمات سناء اللزجة في روحي من زاوية إلى أخرى؛ تنسج خيوط شراستها على جدران قلبي، وتثير في كياني الغثيان، يتردد في ذاكرتي مثل شعبي كانت تردده جارتي فتحية لابنتها عندما تقع معها في جدال:

- "ما أطول ليلتي، جبت أضريرتي."

(حـ) ابتسم بلا عنوان، انظر إلى سناء مليا، أرى صورتي حين كنت في مثل عمرها، صورة طبق الأصل:

الملامح ذاتها، مع فارق بسيط في لون بشرتها القمحية التي أخذته عن أبيها.... كذلك الروح المتوثبة ذاتها، غير أن ما يثير حيرتي هو السبب الذي يجعل روحها دائما متوثبة، أنا في مثل سنها- كنت كما حمل تاه عن أمه، أو تاهت عنه أمه، فوقع وسط قطيع من الذئاب، أما هي فقد لاقت من العناية والاهتمام ما لم أحلم بجزء بسيط منه.

(خـ) في محاولة لترطيب الأجواء، وللخروج من المتاهة عبر زقاق ضيق، قلت بشيء من المرح المفتعل :

الأنثى هي التي تبني البيت يا عزيزتي، أما الذكر، السيد عنكب فوظيفته التلقيح فقطــ ـــــ.

ثم تقتله..هههه...المسكين!.

قاطعتني في محاولة فاشلة للسير ورائي في نفس الزقاق الضيق."

لاحظنا مما سبق كيف تم رسم طبيعة الشخصية المركزية: الأم سعاد، وبنتها والحوار التعيس بينهما وهو وار متكرر بتكرار سكن الأم في المستشفى مرة بعد مرة، كما لاحظنا طبيعة الصراع الذي يجسمه الحوار القصير المقتضب بينهما فيقدم الخلاف بينهما وتبدأ الرواية على تلك شخصية الأم المتوترة وعلى بنتها المناكفة التي سنلحظ مع نهاية الرواة تحولها إلى اتجاهات متطرفة.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم