في روايته الأولى شعبان عبود يؤكد: بين سلمى وعيوني بندقية
أن تقرأ رواية جديدة في ساعتين أو ثلاث ساعات وتكتسب معرفة كنت نحتاجها في قضية ما فذلك جيد، والأجود منه أن تقرأ ويعتريك الخجل من نفسك، وهذه أبرز سمات الكاتب العبقري، فهو يجبرك أن تستحي، ويقضي على كافة محاولات التهرب وتبرير الشر والفساد الخلقي. وهو يسعى لتكون بشراً سوياً تمدّ ظلالك على آفاق شاسعة. وكونك بشراً يعني على وجه الدقة أن تكون مسؤولاً. يعني أن تعرف الخجل أمام بؤس لا يبدو أنه يتعلق بك.
وقد كنتُ محظوظاً بقراءة الرواية الأولى للكاتب والإعلامي السوري شعبان عبود "ملكة الفوعة تلميذ بنِّش" الصادرة حديثاً عن دار نون للنشر والطباعة والتوزيع. تقع الرواية في مئة وعشرين صفحة من القطع المتوسط، وهي من الروايات التي يُفضَّل أن تُقرأ في جلسة واحدة، تعالج الرواية حالة حب في زمن الحرب والتهجير والحصار والمسألة الطائفية، وتستند في ذلك إلى شخصيات حقيقية وتجارب واقعية، حيث تدور أحداثها الرئيسية بين بلدتي بنِّش السنيَّة والفوعة الشيعيَّة المتجاورتين في الأرض والمعاش المتباعدتين في المذهب والاعتقاد.
عنوان الرواية فيه هذا الغموض المُحبب والمستتر خلف ستائر من الحب الشفيف يُدركه القارئ البعيد عن الشمال الغربي من سورية حين يبدأ رفع الستارة عن فصول الرواية فصلاً بعد فصل، يساعده في ذلك أن بلدتي الفوعة وبنِّش ذاع خبرهما عبر وسائل الإعلام العالمي التي تغطي الحرب السورية القائمة ما تزال على قدم وساق من سنوات، وخاصة بعد تهجير أهل الفوعة الشيعيَّة وخراب أغلب مباني بلدة بنِّش السنيَّة ونزوح أغلب أهلها إلى أوروبا وأمريكا.
أنا أنحني أما عبقرية الكاتب شعبان عبود في مقدرته على تحمل هذا الحب الكبير والنادر الذي فاض في قلبه ووجدانه مثل فيوض الربيع، وأغبطه عليه، قليلة هي القلوب التي تستطيع تحمل تناقضات هذا العالم الذي نعيش فيه، وقد برع في إضفاء طابع حضاري رفيع لبطله وفرحت لأنه استمر بذلك حتى أخر سطر في الرواية. من الصعب جداً أن تُنهى قراءة الرواية دون أن تترك تأثيراً شديداً في نفسك وتضطر في بعض الأحيان لتوقف عن القراءة لأن الدموع تحجب الرؤية.
تسلط الرواية الضوء على الأثمان الباهظة التي يدفعها البشر في حروب مهلكة تستمر لسنوات عديدة وتحصد الحب حصداً وتترك الكراهية تعشش في كل زاوية ومنعطف حيث يهرب الأخ من أخيه والولد من أبيه وأمه والزوج من زوجته. نعم، هذا هو الوجه القبيح للحرب. يُحاول الكاتب رصد هذه التحولات في المصائر والأقدار من خلال علاقة حب بين الفتى من بلدة بنِّش السنيَّة والفتاة سلمى من بلدة الفوعة الشيعيَّة، وقد بدأت علامات الحب بيتهما منذ كانا صغيرين يدرسان في إحدى المدارس الثانوية، التي تقع، غرب بنِّش شرق الفوعة، في منتصف المسافة بين البلدتين.
علاقة الحب البريئة هذه، انتهت بعد نهاية المدرسة دون وداع حميم، دون مصافحة أو قبلات، فقط نظرات عيون خجولة عاشت على أمل اللقاء الذي تأخر أكثر من ثلاثين عاماً، وخلال هذه الأعوام جرت مياه كثيرة كما يُقال، وأهمها هذه الحرب الضروس التي أفنت البشر والشجر والحجر. فبعد مئات السنين من العيش المشترك يجد أبناء البلدتين أنفسهم وقد تحولوا إلى أعداء.
بطل الرواية كان قد هاجر من سورية منذ سنين طويلة واستقر في الولايات المتحدة الأمريكية وحصل على جنسيتها، لكنه بقي مرتبطاً بما يحدث في وطنه، والحنين إلى الديار في غربته الطويلة تلك كان يدفعه للبحث عن سلمى، تلك الفتاة التي كانت تدرس معه، ثم يكتشف لاحقا أنها ما زالت تعيش في بلدة الفوعة تحت الحصار، وليكتشف أيضا أن أحد أبناء سلمى قد قُتل في الحرب.
بعد محاولات عديدة والبحث الحثيث عبر وسائل التواصل الاجتماعي يجد طريقة للتواصل المباشر مع سلمى. وعندما يبدأ التواصل عبر الرسائل النصية، والمكالمات الهاتفية، تبدأ ستائر فصول الرواية بالانزياح وانكشاف مسرح الحياة الحقيقي حيث تكمن التفاصيل الصغيرة، يكتشف أن سلمى تلك الفتاة التي كان يعرفها ويحبها، تعيش في حالة من الحزن الشديد واليأس بسبب موت ابنها الأثير لديها نور الدين، حتى بدت كما لو أنها غير تلك الفتاة التي يعرفها، فيقرر أن يفعل أي شيء ليعيد لها الفرح.
تحاول الرواية من خلال رصد موثَّق أن تنتصر لقيم الحب على الحرب والكراهية. وتحاول أن تجد مساحة ولغة مشتركة بين طائفتين متنازعتين في مساحة جغرافية ضيقة وتأثير ذلك على السكان الذين كانت تربطهم قبل قليل الكثير من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المتشابكة، وقبل كل ذلك، تؤكد على أهمية السعي للاقتراب من الآخر وفهم نوازعه الإنسانية التي تشبه نوازع الطرف الآخر والاستماع إليه بصدر رحب وفهمه والتعاطف معه وحبه ومساعدته والأخذ بيده بدلاً من تجريمه وتخوينه.
لفت نظري أحد المشاهد في سياق الرواية أعتقد من وجهة نظري أنه من أجمل المشاهد التي صورتها الرواية في سياق سردها علاقات مختلف بين بشر تنوعت ثقافاتهم وتعددت مشاربهم الاجتماعية ومصائرهم. وأعتقد أن شخصية آية في الرواية على ضيق مساحة حضورها قد أضافت إلى الرواية سحراً خاصاً لأن شخصيتها ساحرة. نحن الآن في هولندا البلد الذي استضاف مئات الآلاف من السوريين الهاربين من عنف الحرب في أحد شوارع أمستردام ينطلق بطل الرواية الذي وصل من الولايات المتحدة الأمريكية لرؤية أخيه وأفراد عائلته ومنهم آية، في الطريق إلى شقة آية رأى عبر النافذة الزجاجية لإحدى الشقق التي بمحاذاة الرصيف رجلاً في الثلاثين من عمره يمارس الجنس مع سيدة في مثل عمره، استغرب أن يفعلا ذلك على مرأى من المشاة العابرين واستغرب أن ألا يكون للنافذة ستائر، لا في تلك الشقة، وتلك النافذة فقط، بل لم ير الستائر في كل البيوت التي زارها والشقق التي دخلها. أين ذهبت تلك الستائر التي تحجب ضوء الشمس في بعض الأحيان، وتحجب عن أعين المارة تفاصيل حياتنا اليومية في منازلنا، وهل يستطيع البشر العيش دون ستائر في منازلهم التي لها في القلوب منازل؟
أيضاً في شقة آية لم يلحظ وجود ستائر على النوافذ، سألها عن السبب فأخبرته بأن الهولنديين يُعبرون بذلك عن انفتاحهم على كل العالم الخارجي والثقافات الأخرى، وأضافت بأن هناك رأياً يقول: لا يمكن إخفاء عقليتنا وسلوكنا، وكيف نعيش عن الآخرين فما نظهره في المجال الخاص يجب أن يكون منسجماً مع سلوكنا في المجال العام، وهناك رأي آخر يقول: إن الهولنديين يريدون إظهار مقتنياتهم وما يملكون للجيران والمارة.
سأل آية عن الخصوصية وحاجة البشر إليها فأجابته: انظر يا عمي، لا يمكنك الشعور بالحاجة إلى الستائر عندما تعيش في مجتمع وبيئة لا يهتمان بها، ولا يعدانها أمراً أساسياً لهم، لا بل إنها أحياناً تثير الفضول إذا وضعتها، وأنا قررت أن أكون مثل كل الناس. نعم، دع آية يا سيدي تعيش حياتها، هي ولدت لتكون آية لا تحجبها ستائر من أي قماش كان.
أستميحكم العذر في القول إن شعبان عبود كتب رواية مدهشة، نعم يا شعبان أنت كتبت رواية رائعة تهز الوجدان هزاً عنيفاً. وأنا أميل بطبعي إلى الواقعية النقدية ورغم كمية التراجيديا الهائلة التي تفصح عنها فصول روايتك إلا أنك أجدت في عجن تلك التفاصيل الصغيرة وإخراجها حكاية ملحمية طازجة تعيش وتُحكى في قادم الأيام.
0 تعليقات