يبدو التقاط لحظات قصيرة من الحياة والتركيز عليها وتكثيفها لكي تطرح فكرة محددة أمرًا صعبًا في عصر ينحو باستمرار نحو الإغراق في التفاصيل، بل ربما تغري بعض الأفكار والمواضيع كاتبها بأن يتمادى في استغراضها بشكل مفصّل، ويذهب بها إلى عمل روائي كبير، ولكن عمرو العادلي يختار لأفكاره هذه المرة ثوب القصص القصيرة، في وعي كبير بماهية النوع الذي يستخدمه لطرح الفكرة من جهة، وفي نفس الوقت لا ينجح إلأى اختزال الأفكار والإشارة من بعيد إلأيها، ولكن يركز ويمنح الفكرة تفاصيلاً عديدة، كل ذلك في قصة قصيرة محكمة، تبدو للقارئ في هيئة نوفيلا مكتوبة بإحكام، في رحلة من ست قصص يمكن أن يجمعها ذلك الإهداء الذكي "إلى أولئك الذين حجمت قوانين الرأسمالية أحلامهم .."

وبمجرد الانتقال إلى القصة الأولى "التل" يدرك القارئ أنه مقبل على تلك المواجهة الواضحة، بين عالم البسطاء الذين يرغبون في أن يمهدوا الحياة لآخرين، وبين هؤلاء الذين يستغلون كل قطرة ولحظة لكي يحولوها إلى رصيدٍ في ممتلكاتهم، ولكن البناء في الحقيقة مغوٍ وغريب، فمع إدراك القارئ لطبيعة القصة وطبيعة تلك المواجهة إلى أن الكاتب يمسك بتفاصيل حكايته، ويضع فيها بعد كل فقرة وكل مرحلة تطور آخر مفاجئ ومختلف عمّا يمكن أن يجول في خاطرك، وهو في ذلك لا يبتعد كثيرًا عن هدفه الأساس في مواجهة آل القمع والتحكم في نفوس ومقدرات الآخرين، ولو بالكلمات!

تتصاعد قصص المجموعة، واحدة بعد الأخرى، وتكمن البراعة في التقاط تفاصيل بعيدة كل مرة أو تجليات مختلفة لتلك السيطرة وهذا الصراع القائم القديم الحديث، الذي لا يبدو منه مفر، مع "بائع السخانات" نحن أمام مشهدٍ أكثر درامية، يبدو بطل القصة فيها ممثلاً وحيدًا على الخشبة في نهاية مأساته التراجيدية، يحكي، ويحكي، ويتعاطف القارئ مع تفاصيل حكايته، وكيف سلبت منه كل ممتلكاته، فيما هو "يمشي بجوار الحائط"، ولكن العالم لم يتركه يهنأ بحياته!

(مشكلتي الكبيرة يا سعادة البيه أنني أخاف، فأتصرف على نحو يتعجب منه من لا يخافون، جعلني خوفي الدائم أفتقر لروح الدعابة، فضاعفتْ تكشيرتي حجم خوفي من نفسي، تجنبني الناس، حتى أصبحتُ غير مرئي، هكذا سارت الأمور حتى صارتْ أفكاري مثل كرة صوف تعقدتْ فوق مغزلها، أهاب كل شيء يتحرك من حولي، يمزقني ذلك الخوف الذي لا يخلو من عاطفة، أتعاطف حتى مع من يصيبونني بالأذى، افتقدتُ جرأتي تمامًا حتى صرتُ وديعًا مثل نباتات الماء، أهتز فقط لأُشعِر من يراني بأنني لا أنقص عنه شيئًا، توقفتْ لديَّ حاسة رد الفعل بسبب حيرتي المستمرة وارتباكي الدائم)

لا يمثل بائع السخانات نفسه، ولكنه صورة واقعية للكثيرين ممن دهستهم آلة الرأسمالية بقسوتها ولامبالاتها وعنفها، يعرف أن مصيره محتوم ونهايته ماثلة أمام عينيه، ولكنه يحكي حكايته ويترك أثره حتى وإن بقي ذلك كله في أوراق التحقيقات! وإذا كانت الحياة على هذا النحو في المدينة، فإن العادلي يأخذنا في رحلة أخرى، لاتبتعد كثيرًا عن عالم السادة والعبيد، ولكنها هناك في البحر، وعلى متن تلك السفينة، وفي حكايةٍ يلعب فيها السارد لعبة مختلفة فيسميها "حكاية حكيت بالخطأ" فنتعرف على "يومبا" و "فيلكا" وعوالم السادة والعبيد، والرجل الأبيض الذي لا يتورع في استخدام العبيد لإتمام مصالحه على أكمل وجه!

تبدو قصة "حكاية حكيت بالخطأ" من أكثر قصص المجموعة ثراءٍ، ويبدو للقارئ أن وراء حكاية يومبا وما يرويه من قصص يسعى لأن يسترضي بها تلك المخلوقات التي يقابلها في رحلته، حكايات أخرى، يمكن التوغل في تفاصيلها، ولكن السارد يختار تلك الحكاية المركزة، والتي لا تبتعد كثيرًا عن الجو العام للمجموعة.

ثم إذا به يقفز بنا دفعة واحدة إلى مواجهة تبدو غير متكافئة بين عالمين شديدي التباعد، يجمع بينهما القدر في لحظةٍ استثنائية رأسمالية أيضًا، شاب يستأذن أرملة في نشر إعلان على واجهة منزلها! وفي رأيي أن قصة "شركة الدخان" بكل تفاصيلها الدقيقة واختيارات الكاتب في رسم عالم بطليها تمثل ذروة هذه المجموعة، لدرجة أني أرى أن المجموعة يمكن أن تسمى بشركة الدخان، بكل ما تمثله تلك الشركة من "حرق" حقيقي ومعنوي لنفوس الناس عاملين فيها أو غير عاملين! يضع القدر بطلي العمل في عدد من المفارقات الطريفة في الوقت نفسه، والجميل بعد كل تلك المشادات وحرص السيدة المسكينة على التمسك برأيها أن يأتي تنويه الكاتب، وكأنه يكمل عالم القصة، ويضع أملاً للمساكين في العالم ليذكر أن (أحداث القصة تدور قبل أيام قليلة من توقيع مصر على اتفاقية حظر إعلانات السجائر عام 2003)

ماجاء في مواجهة التوحش! 

في كل القصص السابقة يبدو عالم الرأسمالية ضاغطًا ومتوحشًا، ويبدو ألا قدرة للفرد على الفرار منه، أو حتى مواجهته، إلا أن السارد أراد أن يلتقط أيضًا وبقدرة استثنائية أملاً، ربما يبدو بعيدًا وغريبًا بعد كل ما عرضه وذكره من تشريح للواقع والمجتمع، إلا أن قصة "الجمال الخالص" بعد أن يستعرض تلك الحالة الاستثنائية من وقوع أستاذ الجامعة الخمسيني في غرام شابة أصغر منه بعشرين عامًا، وكيف يحارب تلك الفكرة في نفسه، حتى أنه يذهب إلى الطبيب النفسي يشكو حاله، وإذا بالأخير يطمأنه في مفاجأة تبدو سارة للقارئ وبطل الحكاية على السواء:

(كل منّا يا دكتور لديه حاسة خيالية يشكل منها مايناسب خلقته، وإن لم يوجد ما نتخيله فسننتزعه من اللاشيء، نخلقه على هوانا، صدقني، لا توجد في هذه الحياة أي فتاةٍ بتلك المواصفات، لأن خيالك هو الذي أنبتها .. لايوجد لديك ما يمكن أن يقلق أو يخيف، أنت إنسان طبيعي، طبيعي جدًا، كل ما هنالك أنك أصبحت أكثر رقة فتحاول أن تتجنب ضجيج العالم، وتبحث مثلما نبحث كلنا، عن الجمال الخالص!)

وكأني بذلك الطبيب يردد مقولة نزار "الحب في الأرض بعضٌ من تخلينا، لو لم نجده عليها لاخترعناه" يمكننا إذًا أن نجد سبيلاً للنجاة من خلال ذلك الخيال، ولحسن الحظ لن يقتصر الخيال على فتاةٍ صغيرة يتعلق بها أحدهم ، ولكن كل ما في الخيال من إمكانات وكل ما في الفن من مساحات، هي محاولاتنا الدؤوبة للتغلب على ما في العالم من ضيق وضجيج، ومحاولاتنا أيضًا لامتلاك قدرٍ من السعادة .. ولو "مسروقة"، تلك المعزوفة الأخيرة التي يختتم بها العادلي مجموعته، في قصةٍ تبدو في البداية مرثية لصديقٍ يختطفه الموت فجأة، وإذا بها تتحوّل إلى فلسفة حياة ورسالة خاصة في أنه ثم طريقً للنجاة والإفلات حتى من الموت نفسه، ليتردد في النهاية أيضًا صوت درويش: هزمتك يا موت الفنون جميعها!

هكذا بدت "بائع السخانات" وكأنها عريضة قوية ومحاولة أخيرة لمواجهة الرأسمالية، تنتهي بنا وبصاحبها إلى الالتفات إلى مواطن الجمال ومقدرات النجاة من كل تلك الصراعات التي تقيد حياتنا وتلتهمها بكل قسوة، وتشير ولو في النهاية إلى أن لنا في الخيال حياة، وفي لحظات السعادة القليلة أمل ونجاة.

عمرو العادلي روائي وقاص مصري، يبدو حريصًا على ألا يبتعد عن مجال القصة القصيرة، التي يبرع فيها براعته في الرواية، ويلتقط منها عوالم شديدة الخصوصية ويعبر عنها بكل اقتدار، حصلت مجموعته "حكاية يوسف إدريس" على جائزة ساويرس فرع كبار الكتاب 2016، ويصدر له قريبًا مجموعة "الهروب خارج الرأس" التي فازت بجائزة الطيب صالح عام 2021 عن دار الشروق. كما صدر له تسع روايات.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم