مع الصفحات والسطور الأولى لرواية "أسير البرتغاليين.. حكاية الناجي" لمحسن الوكيلي يجد القارئ نفسه محاطًا بالموت بكل صوره، حتى لتبدو حكاية الناجي في ذلك السياق محض محاولة من الكاتب لبث الروح في حكاية انتهت وأحاطت بها الأوبئة والحروب والدمار من كل جانب، إلا أن الوكيلي مع ذلك يلتقط خيطًا رفيعًا واهنًا، وينسج على نوله ومن خلال شخصياته وحكاياته روايته المحكمة بتفاصيلها الثرية وبكل اقتدار.

عودة جديدة للتاريخ وتوثيق هام لفترة شديدة الحساسية من تاريخ المغرب العربي، الذي ربما يجهله الكثيرون، ولكن تأتي هذه الرواية ومثيلاتها لتضع لبنة هامة في السرد الروائي التاريخي المحكم، الذي لا يكتفي باستعراض الأحداث والمشاهد التاريخية المعروفة والصراعات التي كانت قائمة في تلك الفترة، ولكنه يصوّر الحالة الاجتماعية للبلاد كلها من خلال شخصياتٍ متعددة، على كثرتها وضعت صورة عامة للمغرب في الفترة الزمنية التي تناولتها الرواية القرن السادس عشر حيث الصراع بين المحتل البرتغالي وبين الحكام السعديين والمرينيين، وكيف ينحاز بعضهم إلى المحتل ويدافع الآخرون عن بلادهم بكل ما أوتوا من قوة .

بين كل هؤلاء تتأمل الرواية عالم المهمشين والبسطاء أيضًا، فحماد الناجي لم تكن نجاته الأولى من الأسر أو الحروب، بل كانت نجاته بمحض الصدفة من قتل والده له في زمن الوباء! تلك الحكاية الأساسية التي تدور حولها الرواية وتبقى في ذهن الناجي حتى تكون سببًا في نجاته في النهاية أيضًا، هل يمكن للحكاية في هذا الزمن بين الدماء والأشلاء والأسر والقتل أن تكون سببًا للنجاة؟

لسنا إزاء شخصيات اعتيادية، بل شخصيات معقدة ومركبة، كل واحدٍ منهم يحمل إرثًا ثقيلاً من نشأته وعائلته، نراه يؤثر عليه ويفرض طريقة حياته، هكذا تعرض الرواية شخصية القائد "بيدرو" الذي كان من الممكن أن يكون مجرد منفذ لأحكام الإعدام للأسرى، إلا أن حظه العثر يجعله يغرم بالحكايات ويستبقي الرجل الذي سيكون سببًا في نهايته. كما نتعرف على العياط الرجل الذي تزوج أم الغيث وأخلص لها، ولكنه يريد منها الولد، وكيف تتحايل الزوجة في النهاية لإسعاد زوجها.

بين شخصيات الرواية ومدنها وحكاياتها ينتقل السرد بسلاسة، ويرسم صورة حية للبشر والحجر على السواء ، تطل مدينة فاس من بين السطور والحكايات، فيفرد لها الكاتب جانبًا خاصًا:

((هل زرتَ فاس من قبل؟

‫ ستشعر بأرواح الذين ماتوا خلْف الأسوار وداخلها تحفّك كالفراش فجأة، وأنت تعبُرُ باب الفتوح يمتلئ صدرُك بأفكار كثيرة وأحاسيس لم تراودك من قبل إنّهُمُ الرّاسِخُونَ إلى الأبد، الباقون معلّقين في كلّ شيءٍ، التّوّاقون للتّجلّي في فوضى الخواطِر مع كلّ زائِرٍ يعبُرُ أبوابَ المدينَةِ إلى ذاكرتِها.

‫ كلا، فاس ليست ككلّ المدن سيدي، ذلك لأنّها بأكثر من روح، وأكثر من وجه، تولي شطر الجنوب فتتلوّنُ برمال الصّحراء، لا بُدّ أن ترى القوافل تفيض بملثمي الوجوه والجِمالَ المُحمّلةِ بالتّبر والملح تجري مجرى الماء في الوادي، تتيمُّم شطرَ الغرب فتلوح قِمَمُ الأطلس بأوشحة الثلجِ البيضاء. تُلامسُ مع كلّ هبّة ريح حرّ بلاد التّكرور الشّاسعة وبردَ جليد أراضي الشّمال))

حكايات عديدة تنقلنا إليها الرواية، لتضعنا في المشهد بشكل متقن وذكي، فيرسم صورًا مختلفة لشرائح اجتماعية متعددة، ما بين القادة والجنود، والبرتغالين والأتراك، وما بين الشيوخ الذين كان لهم حضورهم وتأثيرهم في تلك المرحلة فيحضر "عبد الواحد الونشريسي" وأحمد السبتي، وغيرهم، وعلى الرغم من تعدد تلك الشخصيات، والانتقالات بين المعارك وتفاصيل الحياة الاجتماعية للأبطال إلا أن الكاتب استطاع أن يلملم كل تلك الخيوط وينسجها بعناية، وفي الوقت ذاته يبث العديد من الأفكار والحكم المتعلقة بالموت والحياة وذلك الصراع الأزلي الذي لا يبدو خلاص الإنسانية منه يسيرًا:

(( القرابين ضريبة البقاء على الأرض «بلا دم لا تنهض ممالك ولا يثبت سلطان»، يسلم هذا ويؤمن ذاك الكلّ يدفع تقرّبا واحتسابا، لا يهم ممّن تحديدا، إلى أرباب في السّموات، أو شياطين في أغوار النّفس، أو إلى المجهول الذي يسكن كلّ حبة رمل وكلّ نفَسٍ يصعد وينزل تدفعهم جميعا رغبة متأصّلة طلبًا لوجود أكثر رسوخا وتجدّرا وعظمة.

دم الضّحيّة لا يذهب سدى لا شيء يضيع كلّ قطرة دم لها مكانُها في اللّوحة الأعظم ودورُها البارز في رسم عالم يتبدّل باستمرار سيسجِّلُ الإخباريون على هوامش أخبار الملوك والدّول وأحوال الخلق أنّ الجميع مؤمن بما يجري مُسلّمٌ بنواميس الحياة، قد يُعجَبُ المنهزم بالمنتصر ويشفق المنتصر على المنهزم، لكنّ أيّا منهما لن يتوقّف عن صناعة الموت.))

لعل أجمل ما في الرواية قدرة الكاتب على الجمع بين مشاهد الموت والصراعات التي ينتجها وبين الحياة وما تمنحه من فرص ومشاعر تقوي المرء على مرور الأيام ومرارها التي يتم تصويرها بكل صدقٍ وشاعرية، تحضر مشاهد صوفي تلك الفتاة المتمردة التي تغوي القائد البرتغالي وتقع في غرام الناجي لتغيّر مصائرهما معًا، كما تحضر حكاية غيثة وانتظارها لحبيبها الناجي وبحثها عنه بكل الوسائل والطرق، بل لعل رسالة الرواية الأساسية أن هذه الحياة تمر رغم كل ما نلاقيه فيها من صعاب وأزمات قد تودي بحياة البعض إلا أنها رغم ذلك تستمر، ويجني المخلصون ثمار إخلاصهم في النهاية.

محسن الوكيلي، روائي وقاص مغربي، صدرت له مجموعتان قصصيتان، حازت روايته الأولى "رياح آب" على جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2013، كما نالت روايته "ريح الشركي" على منحة الصندوق العربي للثقافة والفنون آفاق عام 2016، ووصلت للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب. وهاهي روايته "أسير البرتغاليين" تنافس بقوة في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية هذا العام 2022.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم