تبدو الكتابة عن الشخصيات التاريخية مغامرة محفوفة بالمخاطر، ولاشك أنه عندما تكون الكتابة عن  شخصية شديدة الثراء والجمال مثل "أبو حيان التوحيدي" تكون المغامرة أكبر، ذلك أننا إزاء شخصية عرف عنه أنه "أديب الفلاسفة"، يكتب فيسحر الألباب، ورغم كل ما مر به في زمانه من صعوبات ومحن ومضايقات إلا أنه ترك لنا إرثًا أدبيًا ثريًا كاشفًا عن شخصيته وعالمه، إضافة إلى ذلك كله تلك الفترة الزمنية المأزومة التي عاش فيها التوحيدي، بين بني بويه وخلفاء العباسيين في مراحل تدهورهم وانهيار سلطانهم، كل ذلك يجعل المهمة شاقة ويجعل الكتابة عن التوحيدي وعالمه أكثر صعوبة.

ولعل أكثر ما يلفت نظر القارئ في كل رواية تستلهم قامة أو شخصية من شخصيات علمائنا سواء في الفكر أو الأدب أو الفلسفة، هو أين كنّا منهم طوال هذا الوقت، ولماذا لم يتوقف الأدباء والروائيون العرب طويلاً عند هذه الشخصيات شديدة الجمال والثراء ليصوغوا من خلال عالمهم أعمالهم الأدبية، ولعل ذلك يذكرنا على الفور بما فعله الروائي محمد حسن علوان في روايته المتميزة "موت صغير" التي عرض فيها لحياة الإمام ابن عربي، كما يذكرنا بمحاولات يوسف زيدان مؤخرًا لتقديم رؤية مغايرة لعدد من الشخصيات التاريخية في رواياته "حاكم" عن ابن الهيثم، و"فردقان" عن ابن سينا، كما صدر له مؤخرًا رواية بنفس عنوان الرواية التي نتحدث عنها وهي "الوراق" ولكنها عن ابن النفيس. كما وجدنا من الروائيين في الغرب من كتب عن هؤلاء العلماء والمفكرين المسلمين، فكتب جيلبرت سينويه عن "ابن رشد" و"ابن النفيس"، وكتبت إليف شفق روايتها الشهيرة "قواعد العشق الأربعون" عن جلال الدين الرومي، وغيرها

ولعل "أبو حيان التوحيدي" واحد من الأدباء الذين لم يحظوا بمعرفة واسعة، رغم شهرة كتاباته لاسيما "الإمتاع والمؤانسة"، ربما يعرف القراء أسماء الكتب لكن يجهل الكثير عن تاريخ الرجل وسيرة حياته، رغم أنها حافلة بالكثير من المواقف والتقلبات والصراعات، حتى يأتي أديبٌ متمكن فينفض الغبار عن أوراق التاريخ ويبحث ويدقق ويختار الشخصيات والزمان والأماكن، ويأخذنا في رحلة شيقة لا تخلو من ألم بصحبة التوحيدي، الذي كتب عن الغريب:

((يا هذا ! الغريبُ من غَرُبتْ شمس جماله، واغتَرَبَ عن حبيبه وعُذّاله، وأغرَبَ في أقوالِهِ وأفعاله، وغرَّبَ في إدباره وإقباله.. يا هذا ! الغريب من نَطَقَ وصفُهُ بالمحنةِ بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضَرَ كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه.

هذا وصفُ رجلٍ لَحِقَتْهُ الغربة، فتمنّى أهلاً يأْنسُ بهم، ووطناً يأوي إليه، وسكناً يتوادعُ عنده. فأما وصفُ الغريب الذي اكتنفتهُ الأحزان من كل جانب، واشْتَمْلَتْ عليه الأشجان من كلّ حاضرٍ وغائب، وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب، واستغرقتْهُ الحَسَرَات على كل فائتٍ وآئب، وشتّتهُ الزمان والمكان من كل ثقةٍ ورائب، وفي الجملة، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب، وحطّتهُ بأيدي العواتب عن المراتب، فوصفٌ يخفى دونه القلم، ويفنى من ورائه القرطاس، ويَشُلُّ عن بَجْسِهِ اللفظ، لأنه وصفُ الغريبِ الذي لا اسمَ له فيُذكر، ولا رسمَ لهُ فيُشْهَر، ولا طيَّ له فيُنشر، ولا عٌذرَ له فيُعذر، ولا ذنب له فيُغفر، ولا عيب عنده فيُستر))

ولعل هذا الوصف يعد أدق تعبير عن حال التوحيدي نفسه، وهو الذي سيجده القارئ في رحلته التي كتبها الروائي هشام عيد ببراعة بين ثنايا هذه الرواية، إذ استطاع بمهارة أن يسبر أغوار أبو حيان التوحيدي نفسه، ويجالس أساتذته وينطق بلسانه، بل ويخوض داخل أروقة السلطة والحكم مع بني بويه ليأتينا بأخبارهم، وكيف بدأ سلطانهم، وإلى أي شيءٍ انتهى أمرهم، بالإضافة إلى حكاية القرامطة، التي سيكتشف القارئ منهم الأمر العجيب الذي ربما لم يسمع عنه في التاريخ الإسلامي من قبل! والأمر نفسه مع أحوال الدولة العباسية والهوان الذي وصلت إليه وما كان يدور في تلك الفترة التاريخية المأزومة من صراعات على الحكم وقتل ودماء!

فترة تاريخية عصيبة، وشخصيات ثرية ومحيرة في الوقت نفسه، استطاع الكاتب أن يدور بينهم، ويعبر عنهم ببراعة، وأن يلتقط بين هذا وذاك ما يميز كل شخصية ليعبر عنها في موقف دال، أو حادثة مؤثرة، فجاءت الرواية نسيجًا واحدًا مكتملاً، ما بين التوحيدي وحكاياته، والحكام والسلاطين وأمرهم وتقلباتهم، يصف الحال على لسان رواي روايته العليم فيقول:

( موتٌ إثر موت. مؤامرة تنتهي لتبدأ أخرى. مجدٌ يستحيل إلى غثاء. سيوفٌ مشرعة وكؤوس بالسُّم مترعة. الكل عُرضة لغدر، وسمل وبتر، لا أحد يعرف من أين سيأتيه السهم. عصرٌ معتل الفؤإد أبي الخير، خالٍ من الديَّانين، قفرٌ من المحسنين، الأولياء فيه أذلة، والبخس فيه ملة. المُلك شاسع والقلوب ضيقة. جرائم بدم بارد في قاعات المرمر. سُمَّ المنتصر، ذبِح المستعين، سُد على المعتز في سرداب، حُصر المهتدي على خصيتيه حتى هلك. ما إن يلوح ضوء، حتى ينتهي إلى سوادٍ تام، وبينهما منازل لخفوت النور على خلفية ظلماء. نصب التاريخ ملعبًا للتفاهة والشك والطغيإن بدار الخلافة المُقامة على نهر دجلة ..)

التوحيدي العالم والإنسان 

استطاع هشام عيد أن يعبّر عن شخصية التوحيدي بجلاء، ورغم أن الرواية تبدأ تقريبًا من المنتصف، حيث الأزمة واقعة، وحيث يبحث ذلك العالم الكبير عن قوت يومه من خلال الوراقة والكتابة التي هي وظيفته الأثيرة التي يقتات منها، إلا أننا استطعنا معه أن نتعرّف على جوانب حياته كلها، منذ البداية مع اختيار أن يكون حديثه لأستاذه ومعلمه أبو سعيد السيرافي الذي قضى في صحبته زمنًا، ثم مع حرصه على العلم والتعلم يضع الكاتب صاحبه في بعض المواقف التي توضح اهتمامه باللغة والأدب وحرصه على الكتابة والحديث عن مهاراتها بشكل جميل،  ثم ينهي ذلك بحضور أنيسة، وهي وإن كانت من خيال الكاتب إلا أنها أضافت الكثير لشخصية العالم وعالمه،  تلك التي جاءت فأحالت سواد أيامه بياضًا، وأضافت النور لحياته أملاً بعد أن كاد اليأس أن يفتك به!  

((سيعرفُ قبرَها قلبي. ستنبتُ حوله أشجارُ زيتون، وتُورُق زهرةُ الليلك. سأسكبُ دمعة بكماء من عيني، وأنزفُ حرقة خرساء في قلبي. سأتبَعُ وقعَ أحزاني فأعرفه، نداءُ القلب يألفني وآلفه. سأسمعُ صوتك الباقي على جدران حائطنا، وأبصرُ دمعك المنثور في أطلال باحتنا. تزرعُ الأرواح آثارًا تنادينا، فينبتُ في الطريق هدى. سأبصرُ أثر عينيك. سوف أجدك لا محالة. ليس لمثل أثرك أن يضيع. سوف أجدك لا محالة.))

لا تكشف "الوراق" عن حياة التوحيدي فحسب، بل لعلها تكشف لكل قارئ أحوال العالم الإسلامي في تلك الفترة الزمنية العصيبة، وكيف عاش وتحمل ذلك العالم الكبير، حتى وصلت إلينا كتابته وأخباره، وكيف أن هذا العالم دول، وأن المصائب والرزايا أمور طبيعية تحدث باستمرار للصالح والطالح، وأن العهدة على الصبر وقوة التحمل في النهاية، رواية تقلب الأفكار وتجعل المرء متحفزًا للمزيد من المعرفة حول هذا الزمن وعلمائه ورجاله، ولعل هذا واحد من أهم ما تقدمه الروايات التاريخية المحكمة، التي يقدمها هشام عيد في هذا العمل بوعي واقتدار.

وصلت رواية "الوراق.. أبو حيان التوحيدي" للقائمة الطويلة لجائزة كتارا، وأظن أنها ستصمد طويلاً، وقد سبقها عدد من الروايات المتميزة فقد صدر له رواية "حارة سر الدين الفلواتي" عام 2017، وكمار عام 2020 ، كما صدر له في القصة القصيرة أوراق حلاق 2016، وحاز على جائزة الطيب صالح عن مجموعته "العزف على ضرع بقرة" 2022. بالإضافة إلى أنه يكتب في أدب الأطفال، وصدر له حكايات البنات، وأين ذهبت الغزالة.


0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم