منذ السطر/الهامش الأول في  رواية "الإنسان مخلوق وحيد " لعبد الله البصيص يدرك القارئ أنه إزاء رواية مختلفة وعالم مغاير للمألوف، فالرواية تبدأ بهامش طويل يحتل أكثر من صفحتين من متن الرواية ويحيل إلى الحبكة الأولى في العمل، حيث البطل يطلب من الكاتب كتابة قصته، ثم تبدأ الحكاية  مع "وحيد هادي/أمير الظلام" وتفاصيل عالمه والمواقف التي تعرض لها وجعلت منه بطلاً للرواية، ولكن ذلك الهامش لا يختفي وإنما يعود مراتٍ أخرى مع كل حكاية يتذكرها بطل الرواية وكأنها (اللاوعي) الخاص به، نجد ذلك في الهامش الذي يتذكر فيه علاقته "بحسن صواب" تحديدًا بداية بالتعرف عليه حينما كان في الثالثة عشر من عمره، وبعدها حينما قابله بعدها بسنوات عام 2000، وغيرها من مواقف تخص ردود الفعل على ما يقوم به، وهو مثلما يبدأ الرواية بهذا الهامش الطويل ينهيها به. 

ولكن الأمر لا يتعلق بتقنية كتابية بسيطة مثل ذلك الهامش، أو حتى إضافة فصول خاصة بمدرب تنمية بشرية يدعى "مصلح رشيد" تكتب ببنط مختلف وتفصل بين مواقف وتحركات بطل الرواية، وتتسم بأنها كتابة تقريرية تصف "الفيديو" الذي يشاهده بطل الرواية وتعرض لعدد من أفكار "التغيير" التي تزخر بمثلها كتب "التنمية البشرية" التي انتشرت في الآونة الأخيرة واحتلت صفوف الأكثر مبيعًا سواء ما كان منها مترجمًا أو عربيًا. ولكن الأمر يتعدى ذلك بكثير، وهو ما سيلحظه القارئ أيضًا منذ الفصول الأولى، حيث السخرية الكامنة داخل القصة التي تبدو واقعية وحقيقية جدًا، وما ينتج عنها من تحولات وتغيرات تقود البطل الهامشي الثانوي إلى أن يكون  متنًا رئيسيًا بل ويصبح هو حديث الناس! 

تتحدث الرواية عن "وحيد هادي" الذي يعيش حياة روتينية بين وظيفته الصباحية في عد الأرقام ولعب لعبة الكترونية "فورت نايت" مساءً مع أشخاص لا يعرفهم (يكني نفسه فيها بأمير الظلام)، ولكنه يتعرض لحادثة غريبة وينجو منها بشكل قدري، يجعله يفكر في حياته بشكل مختلف، بل ويفترض أنه إنما نجا لأن هناك مهمة يجب عليه التركيز عليها وتنفيذها لإنقاذ البشرية! نتعرف على تفاصيل حياة وحيد هادي وتطوراتها وطريقة بحثه عن هذه المهمة التي يظن أنه منذور لها حتى يقع عليها، ونكتشف أنها التخلص من شجر "الكونكاربس" الذي فوجئ بانتشاره من حوله، وهكذا تصبح مهمته التخلص من هذا الشجر واستبداله بشجر الياسمين، ولكن مع ذلك لا يجد وحيد في تلك المهمة ما يجعلها مهمى إنقاذ كبرى للبشرية، إذ "لا يوجد بطولة في الزراعة" ولا حماسة تشعل المواجهة، فيبدأ في اختلاق الطرق والآليات التي تجعل من مهمته تلك مهمة خطيرة! 

 لا يكتفي السارد ببطله الاستثائي، الذي يبدو وكأنه "دون كيشوت معاصر" يسعى لمحاربة طواحين الهواء، بل يتجاور مع ذلك البطل شخصيات أخرى ترسم عالمًا يبدو خاصًا بالرواية، ولعلها واحدة من سمات النص الناجحة، فنجد "حسن صواب" صديقه غريب الأطوار، وحتى أصدقاؤه في العمل الذين يحملون أسماءً تبدو رمزية مثل "متعب شديد" و "لطيف" وغيرهم، كل واحد منهم يحمل سمات هذا العالم السطحي المهتم بالمظاهر، ولذا تزخر الرواية بطرق وأساليب التهكم والسخرية من ذلك العالم الذي أصبح الناس عليه، والعلاقات الشكلية سواء من خلال حوارات البطل مع أصدقاءه بشكل مباشر، أو فيه تهكم الكاتب من عالم كتب التنمية البشرية مثلاً وما تمارسه من ترسيخ للوهم داخل البسطاء.  

((قال هامسًا: المهمة هي عودة شجر الياسمين إلى الأرض، يجب أن أزيل كل أشجار كوناكاريس السيئة وأزرع مكانها شجرة ياسمين حميدة، ,,, بقدر ما أفرحه الاكتشاف أحزنه، فلا يوجد بطولة في الزراعة، ولا فيها الحماسة التي تشعل المواجهة التي تقل فيها فرصة النجاة، تذكر الأيام التي كان يتدرب فيها، التعب الذي أضاعه، المعاناة التي قاساها .. الحيرة التي أدارت نفسه على كل حائط .. لن يهجم على أحد إذن!..)) 

 ربما يبدو التحول أو النهاية التي يختار بطل الرواية أن ينتهي إليها بالنسبة للقارئ نهاية رمزية، حيث تنتهي رحلة أمير الظلام (وحيد هادي) بأن يتحول هو بنفسه إلى شجرة أملاً في إنقاذ البشرية بهذه الطريقة، ولكنه في الوقت نفسه يترك القارئ وقد امتلاً بالعديد من التساؤلات المتعلقة بذلك العالم الذي نحيا فيه، ونتحول بوعي أو بدون وعي إلى ماكينات وأدوات ننفذ ما يقال لنا وما يبثه الآخرون من خلال وسائل التواصل وفيديوهات يوتيوب وكتب تعد الناس بأن يكونوا الأفضل والأحسن وغير ذلك. 

وهكذا يبدو لنا بوضوح أن التجريب في رواية "الإنسان مخلوق وحيد" لم يكن مجرد شكل خارجي أو تقنيات جديدة مختلفة، وإن حضرت بالفعل، وإنما كان العمدة والأساس تلك الفكرة المختلفة والمغايرة، والقدرة على تصوير شخصية البطل المنتمي لعالم اليوم وكيف أثرت فيه كل وسائل التكنولوجيا حتى جعلته على هذا النحو، ليس وحده بل طريقة رسم بقية شخصيات الرواية والتعامل معها، وفرض صوتها وطريقتها على القارئ بكل وسيلة ممكنة، بل وطرح عالم مغاير لذلك الواقع الذي نعرفه وإن كان يحاكيه في الكثير من تصرفاته ومواقفه وأفعاله، ولكنه يحمل خصوصيته في الوقت نفسه. 

تجدر الإشارة إلى أن رواية الإنسان مخلوق وحيد هي الرواية الرابعة لعبد الله البصيص، وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة كتارا لهذا العام 2023، 



0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم