تأخذ أسئلة الحياة على كوكب آخر غير الأرض اهتمام الأدباء والكتاب والعلماء كذلك منذ وقتِ مبكر، ولكن ماذا لو كانت "الأرض" هي المكان الوحيد للحياة بالفعل؟ وهل يمكن أن تصبح مأوى لأشخاص/كائنات مختلفة، وما الذي يحدث لو استقبلت كائنات أخرى بالفعل؟!

بهذه الأسئلة وحولها، تبدأ رواية الروائي المصري محمد عبد العاطي الجديدة "المساخيط" الصادرة مؤخرًا عن دار نهضة مصر، والرواية وإن كانت تبدأ بالأسئلة الفانتازية تلك وتأخذ منها أساسًا تقوم عليه إلا أنها _ شأن الكثير من الروايات الجادة_ تنطلق من تلك الفرضيات إلى أسئلة أكثر ثراءً وتعقيدًا تخص علاقتنا بالآخر/المختلف/ المغاير من جهة، كما تناقش وتتطرق للعديد من مشكلات الواقع والمجتمع الملتبسة في عالم اليوم، في ظل سيطرة وسائل التواصل والتكنولوجيا الحديثة على الكثير من تفاصيل الحياة، وكيف يمكن لذلك كله أن يؤثر على الأفكار والمعتقدات سلبًا وإيجابًا!

الفكرة المهيمنة والبناء الممتد 

(المساخيط، أو الدوجونجواديون نسبة إلى كوكب (دوجونجواد) الذي جاؤوا منه، عرقان مختلفان في الثقافة وفي الأيديولوجية. الأغلبية منهم يسمون (يوخدوجون)، أي أهل شمال العالم، هم أصحاب بشرة داكنة )زرقاء داكنة طبعا، وعندهم يطلق عليهم «السود »)، وهؤلاء يؤمنون بعقيدة وفلسفة «الهارمونية»، التي تهدف إلى المحافظة على الكوكب وعلى التوازن البيئي عن طريق تجنب الإنتاج الضخم للغذاء وإلغاء فكرة مزارع الحيوانات والطيور تمامًا وترك كل الكائنات تعيش بطريقتها في الطبيعة والتحكم في الذات وتغيير الطبيعة النفس ية للمسخوط بحيث يتخلى عن أحاسيس التقزز والاعتماد على الحشرات والنباتات بالكامل كمصادر للغذاء. هذه الطريقة في التفكير الجماعي والاهتمام بالصورة الكبيرة وصلوا إليها بعد سنين طويلة على كوكبهم )

تبدأ الرواية منذ سطورها الأولى بفكرة وصول "المساخيط" إلى الأرض بشكل مباشر، من خلال ممثلةِ عنهم تم اختيارها "روائيًا وواقعيًا" بشكل ذكي، وهي "سيرين"، ولكن ما إن يتعرّف القارئ على تلك الفكرة التي قد يبدو لأول وهلة أنها تقليدية أو بسيطة، حتى يغوص داخل مغامرة تلك الشخصية بين شخصيات الرواية الأخرى، وحتى تصل بهم وبشعبها من "المساخيط" إلى العالم، ويكون على الكاتب/ السارد الإلمام بقدرٍ كبير من تفاصيل بناء عالم آخر مختلف موازٍ، يكون هو الذي فرض حدوده ورسم معالمه، فالأمر ليس مجرد حكاية قصيرة أو افتراض جدلي لوجود أشخاصٍ على الأرض، بل هو تلك التحديات التي يخوضها الطرفان بدءًا من فرض الوجود، وحتى التعايش، وربما بعد ذلك للهيمنة!

ابتكار العالم والتفاصيل

لاشك أن فكرة كهذه تحتاج الكثير من الإعداد والبناء، وهو الذي سيلحظه القارئ بوضح مع تقدمه في قراءة الرواية، من تفاصيل دقيقة يرسمها الكاتب ويبني عليها أحداث عالمه/روايته، فلهؤلاء "المساخيط" عادات وتقاليد، بل ولغة شديدة الغرابة والخصوصية، هي التي يبدأ استكشاف عالمهم من خلالها، وقد استعان بشخصيةِ ثرية وهي الطفلة "ليزا" التي تبدو أقدر الشخصيات على تعلم الجديد المختلف والاندماج مع الغريب غير المألوف بسلاسة ويسر، ليست اللغة والتقاليد فحسب بل كل تفاصيل ذلك العالم التي تتكشف واحدة بعد الأخرىى، حتى أننا سنجد لديهم ذلك الصراع القائم بين نوعين من المخلوقات، وكأنهم يعيدون مشكلات البشر بطرق مختلفة!

من جهةٍ أخرى تحرص الرواية على بناء علاقات الشخصيات بشكلٍ محكم، فرغم أن فكرة الرواية وأحداثها الرئيسية حلو "المساخيط" وتفاعل المجتمع معهم، إلا أننا نتعرف على عائلة "فؤاد" بطل الرواية، وطبيعة علاقته بزوجته وبناته، كما تسمح الرواية بنقل صورة شديدة الواقعية والتأثير لأثر وسائل التواصل الاجتماعي على الناس في المجتمع، وهي الفكرة التي تبدو مؤرقة وحاضر في كل أعمال محمد عبد العاطي، كما قدمها في رواية "حارة عليوة سابقًا" وقامت عليها رواية "تريند"، كما يرصد من جهةٍ أخرى وسائل التأثير في العالم اليوم سواء كان الإعلام أو أساتذة الجامعة أو فتاوى العلماء وأحاديث المؤثرين.

 حوار الشخصيات والأفكار 

يجسد الحوار في الرواية وسيلة هامة من وسائل الكشف عن طبيعة الشخصيات وعلاقاتها، ولكنه ينتقل أيضًا لمرحلة مناقشة الأفكار، ولعل ذلك مما يرقى بمستوى الرواية بشكل عام، نلاحظ ذلك في عد من مقاطع الرواية والمواجهة سواء بين فؤاد والإعلاميين الذين يدافعون عن وجودهم من جهة، أو حتى بين فؤاد وسيرين كممثلة باقية للمساخيط،

ألا يعرفون أن كل ذلك ضدهم وضد بني جلدتهم؟ كل هذا يسيء لكم جميعًا.. ماذا أفعل أنا؟ ثم لماذا يجب أن أحرص أنا على مصلحتكم أكثر منكم؟

- لأنك تقول إن هذه هي مبادئك.. أنت قلت إن هذه هي الإنسانية.. الإنسانية هي الرقي والرحمة في معاملة الإنسان وغير الإنسان.. في معاملة كل كائن حي.. الرحمة في معامل ة الحيوان اس مها إنس انية، لا حيوانية.. «الإنسانية صنعة الإنسان ».. أليس هذا كلامك؟

قلت بخفوت:

- بل كلام فؤاد حداد!

- الذي كنت تعلّمه لي.. مع اللغة العربية!

لم أنطق. كانت محقة. هززت رأسي وقلت بأسف:

- معكِ حق، لكنني فعلت كل ما بيدي.. أتدرين كم أتحمل من أجلكم؟ كم خسرت وكم أخسر من أجلكم؟

- من أجلنا نحن؟ هل تمنّ علينا بالدفاع عن مبادئك؟

- لا لم أقصد..

نهضت وقالت بانفعال: - لاحظ أنك كسبت كثيرا أيضا من وراء هذه القضية.. حين كان المزاج

العام معنا كنتَ في مقدمة المشهد وصرت نجمًا إعلاميًا..

- والآن سأخسر عملي وأخسر كل شيء لمجرد أنكم لا تبالون بمصلحتكم الخاصة وتصرون على إشعال الدنيا ضدكم.. أنتم لا تريدون توحيد صفوفكم.

على هذا النحو ينقل الحوار، وفي أكثر من مشهد في الرواية بوضوح شديد صراع الأفكار المختلفة، ووجهات النظر المتعارضة، ويبرع السارد في تمثل كل رأيٍ منهم والتعبير عنه بكل طريق ممكن، لحدٍ يصل بالرواية أحيانًا إلى مناظرة حادة بين الآراء المختلفة، ولكن كل ذلك يأتي في سياق السرد وبانسيابية شديدة، ويعمل في الوقت نفسه على توضيح الفكرة الأساسية للرواية، والتي تدور حول تلك العلاقة الملتبسة بالآخر أيًا كان نوعه!

من جهة أخرى يفتح السرد أبوابًا عديدة لتأويل عالم "المساخيط" ذلك، ورغم تمثل الواقعية الشديدة في تفاصيل عالم مغاير للبشر، إلا أن ظهور جماعات مختلفة ومارقة في أوساط معينة في الواقع ربما يشابه إلى حدٍ كبير وجود هؤلاء المساخيط في عالم الرواية، فهم منبوذون مرفوضون، لايمكن السيطرة عليهم، وسرعان ما يتم اتهامهم بالفوضى والإرهاب وتتم المطالبة بالقضاء عليهم وإعدامهم!

كما تستعين الرواية بوسائل مختلفة لعرض وجهات النظر، فهي لا تكتفي بأصوات الشخصيات، التي تأتي منجمة عبر الفصول القصيرة، ولكنها تستخدم التقارير الصحفية والمواقع الإخبارية والنشرات التلفزيونية لعرض وجهات النظر ورصد ردود الأفعال، وكل ما من شأنه أن يضع القارئ في أجواء ذلك العالم الذي لا يبدو غريبًا ولا بعيدًا عنه.

هكذا يخوض بنا محمد عبد العاطي جولة روائية شديدة الواقعية، رغم اعتماده على تفاصيل فكرة فانتازية، ولكن من يدري ربما تحولت إلى واقعية في يومٍ من الأيام!

محمد عبد العاطي روائي مصري تخرج في كلية التربية قسم اللغة العربية، جامعة ٦ أكتوبر، عمل مصححا لغويا، وصدر له رواية تريند ـ دار لوغاريتم 2019، وحصل على جائزة الدولة التشجيعية عن روايته "حارة عليوة سابقًا" 2022 والصادرة عن دار نهضة مصر.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم