وأنا ألاحظ التفاف أصدقاء الكاتبة  حول نصها منذ صدوره بشكل لافت ومثير للإعجاب أن هناك من الأرواح الصفية التي ما زال من الممكن الوثوق أن سعادتها بالمنجز قد تفوق تلك التي تعتمل في صدر صاحبها، ولعلها الحافز الذي ما انفك يدفع لكتابة نص له من حظوظ الاحتفاء رصيدا قبليا محترما واطمئنانا على أنه سيحظى بحسن الاعتناء، ولن يترك إلى اللامبالاة والتجاهل تتقاذفانه كقنفذ يُهزأ من لحم فكرته ولا يُعبأ بشوك فرادته، تذكرت في مرحلة أولى متفحصة غلافا بالغ من اختاره في البساطة حد غياب أي مجهود إبداعي يذكر، حيث الاكتفاء بالاسم والعنوان ودار النشر في مواقعها المعهودة وإضافة لون للخلفية، ولوهلة قلت في نفسي:" لا تتعجلي، لعله اختيار حمّال تأويل على الأقل، ويتمثل في تجسيد النسيان بمنع الكتاب من حقه في رسم أو صورة تمنحه هوية جاذبة، وتعلي حظوظه أكثر بعيدا عن المعارف الذين سيقبلونه وإن جرّد من غلافه..غير أن التقاعس الجلي حتى في اللعب بالأحرف وجعلها تعبر عن رسالة ما غير مستساغ، خاصة حين يتم التأكيد أن فلان قام بالتصميم..عن أي تصميم تمت الإشارة؟..إلا إذا كان القصد التصميم على عدم التصميم!".


فلأعد إلى ما ذكرني به الغلاف، وهو تفصيل في حكاية من حكايات عبد العزيز العروي التي تعرض مرارا وتكرارا على القناة الوطنية، وهي تحديدا "المكتوب على الجبين" والإصرار على ذكر أمر من الممكن تحاشيه لأنه لا يضيف، غير أن التشبث بإيراده مع توجيه عدسة الكاميرا التي بينت تناقضا، فما زعم عن قسامة الوليد الآسرة جمالا يفوق الوصف لم تنسجم مع الطفل المختار، فملامحه عادية حسب المقاييس الجمالية - دون خوض في الخلق الرباني-.
 تنبري المراجعات في الإشادة بالمنجز، فعدت إلى الحديث مع نفسي عاتبة: "يبدو أنك استعجلت وأردت الحكم على نص من غلافه - لم تصمت نفسي بطبيعة الحال، واحتجت وحاججت بالأهمية البالغة للغلاف وما يجب أن يولى إليه من اعتناء، فهو ليس من الكماليات أو ديكورا بل عنصر له قيمته التي يلزم وهبها ما تستحقه، وغير ذلك من حجج بليغة لن أوردها تماديا في غبطها حقها في التعبير الحر- والإشادة بالنص من قراء كثر تشجع على الاطلاع عليه لنيل نصيب من الاستمتاع وتقاسم ما استساغوه من طرافة الفكرة وجذالة اللغة وتمكن القريحة"...فليكن!

طالعت النص الذي سبق وأجابت صاحبته على تعليق أوردته على إحدى القراءات أن القراءة على القراءة أسعدتها، وأن صدرها الرحب وروحها الجميلة التي تبعث طاقة إيجابية تترقب بحفاوة قراءتي الخاصة، وترددت حقا في فعل ذلك، لا لشيء إلا لشعور أن الجهد الذي أبذله سدى، فرأيي سيضيع في زحمة الآراء المهللة التي تجيد الثناء، وتعتبره الوسيلة الوحيدة للتشجيع، واعتبار البعض أن الرأي الذي يؤخذ به يجب أن يصدر من ناقد معترف به ذاع صيته لسبب أو لآخر، أما أن تقرأ وتدلي بملاحظاتك فعليك أن تنتظر إما تجاهلا أو استنكارا : "من أنت حتى...؟"، غير أني ملت إلى كفة التدوين لإيداع كلمة في ما سأكتب علها بذلك تفارق الذاكرة التي لا يستعصي عليها النسيان غير أنها ترفضه..لعلها تتخلص من لعنة الخذلان.

خذلان الفكرة:

يمكن أن أورد هذا المقتطف كخلاصة للنص:"لكن، إن لم يكن لدينا بأنفسنا ما يكفي للثقة بقدرتنا على ذلك؟ 
- حينها دعي ذلك لغيرك ...إن كان من حولك يؤمنون بك وبقدرتك فثقي بهم على الأقل...لأنهم من موقعهم يرون فيك ما تعجزين لخوفك من الفشل عن إدراكه" (ص.130)، وهو مواصلة في ذات الفكرة التي انطلقت منها وتدعمها إذ تصرح بها الكاتبة على لسان شخصيتها، ومسألة التشجيع إيجابية لا ريب، مع عدم الانسياق حد إقصاء الموضوعية والانحياز للشخص عوض النظر بتأمل وتبصر في نصه، حينها سينقلب التحفيز إلى عملية إغراق عن سابق عشق - والعشق علة تعمي على عكس المحبة التي تمنح عيونا لإبصار الجيد والسيء والاعتراف بكليهما لتثمين الأول ومجابهة الثاني عوض التغاضي الذي يؤبده ويرفعه إلى منزلة قدر-.

 قد يتم الاعتقاد أن شخصا قادر على الكتابة وهو بالفعل مؤهل غير أن تجربته لا تكلل بالتوفيق المرجو أو لا تبلغ بالفكرة إلى ما تحتاجه لتتشكل نصا سويا - لا يعني كاملا وإنما مزدانا بالنقائص التي تعتبر سمة لا هنة-، وتماما كما احتفى أصدقاء الكاتبة بنصها، أجد ذات التسرع غير المدروس وغير المبرر وإن وردت تعلات فهي ليست مقنعة، فمن حول شخصية ياسمين يحثونها على المواصلة ويجزمون أن ما ستكتبه سيكون جديرا بالنشر لا ريب..قبل الاطلاع عليه - ويذكرني هذا أيضا بوعد منح لكاتب أن التتويج العام المقبل من نصيبه قبل أن يرسل مشاركته حتى.. مع اتفاق سري مع الغيب أن النفس لن يخذله ولا النبض في انتظار الموعد-، والملاحظة الوحيدة التي يتم التشديد عليها هي المواصلة لا لشيء إلا ليطول النص من جهة، ومنح الحكاية قفلة أو خاتمة وإيجاد مخرج ملائم لا يخالف النهايات السعيدة بشكل أو بآخر، وكأن الهدف من الكتابة الانطلاق من الألف لبلوغ الياء ومحاولة الاجتهاد كي لا يحصل ذلك في قفزة واحدة، والإيهام بتجشم عناء السفر ومجابهة مطبات وتعثر في العراقيل، على أن الجلي هو الاقتصار على التفكير المقولب: لا بد للحكاية من قفلة ما!
 من سن هذا القانون وجعله شرطا وهل المبدع مجبر على الالتزام وتقديم إجابات؟
يبدو أن الاستفهام لم يتبادر إلى الذهن المشغول بتنفيذ المهمة على أكمل وجه - الوجه المعهود الذي ما عاد مستساغا.

لعل اللعنة المزدوجة "الذاكرة - النسيان" تتبع هذا النص خاصة حين يتم الاطلاع عليه بعد كتاب il y a deux fois le petit prince، وهو أمر ليس في صالحه البتة، إذ لا يخفى التشابه الجلي بين منبت الفكرتين الدافعتين للكتابة، وإن أمسك الكتاب باللغة الفرنسية بالفكرة وتوسع فيها ولم يحصرها في زاوية الكاتب "سانت اكسبيري" الذي عثر على حطام مروحيته ولم  توجد جثته، وتمادى مستلهما من عنوان في موقع يعلن عن احتمال تركه لمخطوط ضمنه الجزء الثاني من حكاية أميره الصغير، غير أن نقاط التشابه بين الفكرتين عديدة حتى في طريقة التناول، ولعل أهم ما يمكن ذكره دون التعمق في الإفصاح، تشارك كل من بطلي حكايتي الكاتب والكاتبة أنهما زارا تونس إضافة إلى الأسلوب المعتمد القريب من الذي يعتمده المحقق كونان- ولي عودة للتوسع في هذه النقطة-  والنصان يدفعان لطرح قضية الفاصل الدقيق بين الإلهام والاستلهام  تماما كالخلق والاختلاق.
لا يمكن الجزم باطلاع الكاتبة على العمل رغم أنه احتمال وارد خاصة مع حضور شخصية الناشر صاحب الكتاب في حكاية منسيها، وقد أعلنت علاقة الصداقة التي تربط بينهما في الواقع في صفحة خصصتها للشكر والعرفان وبعد اطلاعه، يحضر السؤال: لماذا لم يحثها على الابتعاد عن النسج على منواله؟ لماذا لم يدفعها للبحث بطريقتها ما دام هناك كنز يخصها، ومن المحتمل أن تثمر المغامرة نصا فريدا لا نسخة مرسكلة من نصوص أخرى، ترشح من حبكتها السردية الحيرة وتبرز في بحث مستميت عن طريقة للجمع حتى يحصل تناسق ما، والغراء تكرار وصدف، يجف بعضه فيسقط الإمتاع ويترك بعضه الآخر بقعا تشوه الإقناع؟

 كان باستطاعتها النأي ولم تفعل رغم تركيزها على عنصر مختلف ألهمها نصها، فهي ما اعتنت بقصة جزيرة الكنز ولا كاتبها، وإنما التفتت إلى جهة كنز مخبوء مثّله صاحب الرسوم المرافقة للقصة، قرأت الخريطة وجذب اهتمامها كنز منسي، غير أن طريقتها في البحث جعلتها تحيد تماما وتخذل في أكثر من مناسبة الفكرة التي تخفي في جوهرها الفرادة. كيف؟

حاولت الكاتبة البحث عن كنزها وإيجاده، غير أن انشغالها بترصيف كنوز الآخرين ألهاها عن مهمتها الأصلية والأصيلة، لأنها انبهرت بكنوز غيرها انبهار منعها من اكتشاف القيمة الحقيقية للكنز المخبوء في قريحتها، وجعلتها تقتفي عنوة آثار الآخرين خشية أن تسلك طريقها الخاص فتتوه، وهو ما أرصده في اختيار عناوين الفصول الذي لا جدة فيه - حين اطلعت على كافكا في طنجة لمحمد سعيد أحجيوج الذي اعتمد عناوين مؤلفات أسماء لفصول روايته، راقتني الفكرة كثيرا، بعدها، اعترضتني ثانية وثالثة في نصوص أخرى وما عادت تثير في النفس إعجابا، تماما كتشبيه "الجميلة بالبدر" أو "صهيل الحرف/ صهيل المشاعر..."، ففي اقتراحها الأول تلفت بجذوتها ثم تخبو مع تكرارها، كدعابة قيلت مرارا وما عادت قادرة على الإضحاك، إضافة إلى تغول المقتطفات السردية التي اختارت الكاتبة تصدير الفصول بها، إذ لم يقتصر الأمر على سطر أو سطرين أو حتى ثلاثة وإنما منحت صفحة كاملة، وهو ما لا يتلاءم مع نصها الذي لا يتسم بالطول ولا حاجة له بهذا الطول متى اعتمد على ذاته، غير أن الكاتبة ركبت سفينة الغير, ولم تكن الربان بل سمحت بالتوجه والتوقف طويلا عند مرافئ الغير، حتى بحر الإبداع ظلت تنظر إلى موجه من شرفاتهم مكتفية متى خرجت أن ترسم على رمال شاطئه ما لن يقوى على الرسوخ في الذاكرة .. هي نسيت نفسها مبدعة حين أصرت على تذكر الآخرين بشكل طاغ.

أورد مثالا عن التكرار الذي لا يعتبر الوحيد، وإنما غزا جل مواطن النص الذي غدا في هذا السياق بحاجة إلى مراجعة لأن درويش الذي أهدت إلى روحه ما كتبت، قد اعتبر أن " الكتابة هي فن الحذف"، واخترت هذا المثال تحديدا لا لإبراز التكرار فحسب، :"أنتبه إلى الساعة، علي الإسراع بالاستعداد والخروج وإلا علقت في زحمة المرور الصباحية" (ص.29)، وإنما لتبيان عدم المسك بزمام الحبكة فيما يتعلق بالشخصية التي نحسب أنها تعيش بمفردها، لينبت فجأة صغيران مكلفان بمهمة، لتحقق الكاتبة غاية تتمثل في نقد كثرة الواجبات المدرسية والفوضى التي يحدثانها بغزو ألعابهما غرفتها الخاصة التي لا زوج فيها، رغم التأكيد على وجوده في إشارة خاطفة، فمن المستبعد أن يكون طليقها وتطرق بابه قبل السابعة صباحا لترك الطفلين ليعتني بهما دون سبب جلل:"أستعد بسرعة وأخرج من المنزل، لا أعمل اليوم قبل الواحدة وهذا يعني أن لي فرصة الجلوس قليلا والتفكير في قراءة جديدة للحكاية. أترك الصغار لوالدهم..إن لم أخرج قبل السابعة فهذا يعني انتظار ساعتين من الازدحام المروري"( ص.52)، ليختفي هذا الجو الأسري الخاطف كما برق بغتة " أنهي بسرعة قياسية الضروري من أعمال البيت" (ص.15)

تجلى خذلان الفكرة أيضا في المبالغة من جهة والتناقض من جهة ثانية، وهو ما مثله موقف الناشر الذي أكد بعد اطلاعه على مخطوطها الذي أرسلته إليه: "أسلوب رائع..رواية ممتازة..فكرة مبتكرة جدا"، وما بعثته امتد على تسعين صفحة، والسرد انطلق من الصفحة 15، بقيت 75 منها 20 بين عناوين فصول وتصديرات ورسوم مأخوذة من قصة جزيرة الكنز وأوراق فارغة، ظلت 55 صفحة فحسب! أين الرواية؟ إنما الأعمال بالنيات..فهل ينطبق ذلك على كتابة الروايات؟، ليعود بعد ذلك وينسى ما نسبه من امتياز وروعة وفرادة -لا يمكن أن يوهب نص هذه الصفات إلا إذا استحقها فعلا أي أنه جاهز للنشر دون مراجعة حتى-, لكنه، يكتب في رده:"لا بد من بعض التعديلات..هذا النص يبدو متعجلا..ما هذه الأفكار الهدامة لدى الكاتبات؟ (ص.99).


ليس هذا التناقض الوحيد، بل نجد تناقضين حاضرين معا، ويعلن عنهما هذان المقتطفان:"وأنا في اليوم العاشر منذ بدأ كل شيء، وأشعر أن طاقتي على احتمال هذا الأرق تكاد تنتهي وأنا مستعدة لإعطاء كل ما أملكه من أجل ليلة هانئة من النوم المسترسل" (ص.114)/ "إنها السابعة، لا أصدق، تدمع عيناي، كانت دموع الفرح والراحة وأخيرا ليلة من النوم الهادئ دون تلك الأصوات في رأسي". ( ص.90), أي أنها حصلت على ليلة من النوم المريح في اليوم السابع أي بعد إرسالها للمخطوط في نسخته الأولى، كما ورد مجددا ما لا يستقيم مع تسلسل الأحداث: "التحاور معها بشأن الرسالة وموقف الناشر منها ومن النص الذي كتبته..في النهاية، كوابيسي الليلية انتهت..."(ص.123)، رغم التأكيد السابق أن صاحبة المقهى- التي يبدو أنه لا يوجد سواها فهي النادلة أيضا- أوصتها ألا تواصل الكتابة إلا بعد أن تطلع هي والناشر على الرسالة وتوجيهها للخيار السردي الذي يجب أن تتوخاه، أي أنها في انتظار التعليمات، واللعنة ما تزال ما دامت لم تخط القفلة ولم تشر أنها فعلت استجابة لنداء القريحة ملقية عرض التمرد هذا التحكم الذي لا يليق بذات مبدعة الانصياع إليه.
محطتان أخريان للخذلان..وأهم بالتخاذل عن مواصلة القراءة، غير أني أقرر عبورهما وإن لن أتوقف مطولا تشريحا وتفصيلا. 

خذلان اللغة:
لا أريد الربط بين كاتبة النص والأستاذة التي تعترضني منشوراتها على صفحة الفايسبوك, وهي تعرض المحاولات  الجدية لضخ دماء مختلفة في شرايين البرنامج التعليمي التي سدت أغلبها، وكادت تحول المعرفة إلى مريض ميت سريريا ولا يسمح له بمواصلة العيش سوى قيود حياة لم تكرمه سوى بهذا الأسر أو هذه الزيارات المؤمنة به وتستمر في الحديث إليه مقتنعة أنه يصغي ولا بد يهبّ من رقدته.

 لا أستسيغ الربط في جميع الحالات، لسببين أساسيين، أولهما عدم اقتناع بأن عملية الاطلاع على نص لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار أنه نصها الأول وبداية التجربة، فالمسألة ليست اختبارا وارتقاء في درجات الحذق، وهنا يكمن الاختلاف بين عملية تعليمية والفعل الإبداعي، لذلك لكل منهما مقاييسه التي ينظر من خلالها إليه، ولعل هذا "التسامح" الذي دأب البعض على وهبه لتجربة أولى، هو ما جعل كما مهولا من النصوص تسجل حضورا لا يضيف سوى عدا لا جدوى منه، لذلك وجب الاطلاع دون هذا الاعتبار الذي يهب تأشيرة الاستسهال، يمكن للكاتب أن يخط ما يشاء من نصوص بطبيعة الحال، غير أنه لا ينشر منها سوى ذاك الذي فيه عصارة الموهبة التي جربت طويلا قبل أن تعثر على رقصتها الخاصة على أنغام موسيقى معتادة، والسبب الثاني يرتبط بالأول، وهو الانطلاق في قراءة النص من اسم صاحبه لا من النص مجردا منه، وهو ما يتم اتباعه مع المؤلفين الذين ذاع صيتهم، وعمت بداهة خادعة مفادها من حاز مثلا على اعتراف نوبلي تتساوى كل أعماله في قيمتها الفنية ولا يمكن مناقشته أو اعتبار أحدها أقل جودة أو مفتقرا للفرادة، وهو جزم لا صحة له ولا يرتبط بأي منطق مضوعي، لأن كتابة عمل متميز لا يمنح صاحبه أية حصانة.

أعود إلى أسلوب الكاتبة الذي وجدته صدقا أشد متانة وسلاسة في منشوراتها الفايسبوكية من الذي صاغت به هذا النص الذي يشتم فيه ضوع العامية الذي ترتكز عليه لملء قناني الفصحى، غير أنه ينعتق ويكشف عن هويته التي لا يمكن التستر عنها، فحين ترد جملة مثل " أعد قهوة لي"، فهي تستوقف لا شك، لأن "لي" لا محل لها ولا موجب، تماما ك"الأطفال الصغيرين" فهل هناك أطفال كبيرين - وانشداد إلى لفظ العامية "الصغار" الذي دفع إلى الوقوع في الخطإ فهما طفلان لا غير،  إضافة إلى التعابير، هناك ثقل في تراكيب الجمل التي تحتاج إعادة تنظيم عناصرها لتغدو مقبولة مثلا:"هل يمكن أن فيك كنزا مخفيا ينتظرني"، وتتكرر زلة "نفاذ صبر" أربع مرات، والانسياق إلى ما درج عليه الاعتقاد أن بين يوم ما في الأسبوع ويوم آخر في المقبل سبع أيام لا غير وهي في الحقيقة ثمانية: "فجأة يتداعى إلى ذاكرتي مشهد الطفل مع أمه يوم الاثنين الماضي، منذ أسبوع تماما، منذ سبعة أيام" (ص.94) - ما الداعي لهذا التدقيق الذي يوشك أن يعد الساعات بدقاءقها؟- ..اليوم هو الاثنين من جديد"(ص.98).."منذ أسبوع مضى"(ص.99)، وهو ما يجعل النص بحاجة ماسة إلى المراجعة لغويا على مستويات عدة.

خذلان القريحة:
عرضت شذرات من هذا الخذلان فيما أسلفت، وأكتفي في هذا الإطار، بالإشارة إلى ثلاثة مواطن تجلى فيها بملاحظات مختصرة:
أولا، تعامل الشخصية مع الناشر، ولا بد من الاستفهام : هل الناشر هو الذي يطلع على المخطوطات ويتخذ قرارا فرديا بشأنها أم من الضروري التعويل على لجنة قراءة، وإذا تجاوزت هذه النقطة، لا يمكن الاستمرار في التجاوز عند الإصرار أن الفعل الإبداعي تحول إلى عملية مخابراتية فيه من يتخذ القرار ومن يتكفل بالتنفيذ حسب التعليمات الموجهة إليه دون أن يتخذ زمام المبادرة، دون أن يناقش، دون أن يبدع:"أخذت هاتفي، كتبت إلى الناشر: وجدت الرسالة، ما هو المطلوب الآن؟" انتظرت قليلا، جاءني الرد في شكل  جملتي أمر"(ص.108)، وتكرر التأكيد على الدور المحدود للباحثة عن كنزها، فالجزيرة جزيرتها غير أنها تسلمها بكل سماحة نفس/ باستسلام/ بتواكل...-لا يهم السبب، فالنتيجة واحدة وهي ضياع كنزها منها وإن ظنت أنها تتلقى المساعدة لاستخراجه والحصول عليه-: "لكن، أليس علي أن أنهي كتابة الحكاية أولا" أسألها، -قبل ذلك أطلعيني على الرسالة لأفكر معك وأظن الناشر بدوره يحتاج رؤيتها حتى يوجهك في نصك" (ص.119).

ثانيا، مغالطة الشخصية لقريحتها التي أشارت عليها بمكان كنز تفطنت إليه، والمقصود هو صاحب رسوم قصة جزيرة الكنز وطفله مهما كانت القرابة التي تجمعهما، لتحيد عنه تماما وتقرأ مفتاح خريطة معهودة ليست معنية بها، فلا هي غاصت في أحداث قصة الجزيرة ولا إلى شخصياتها:"لقد كتبت نصا تخييليا، فسقطت في مصيدته وأصبحت بدوري شخصية من شخصياته أو ربما شخصياته هي التي غادرت صفحات كتابها وجاءت إلى عالمي فصارت جزءا منه" (ص.141)
قلت مغالطتين ولم أشر إلا لواحدة فحسب..حسنا ..تكمن المغالطة الأخرى في السطر الأول من المقتطف واعتبار ما كتبته نتاج المخيلة، يمكن للكاتبة أن تعتبر ذلك أما شخصيتها فلا تستطيع أن تدعي أمرا شبيها، وهنا يظهر تدخل سافر يفسد على الإقناع مهمته مجددا، وفي هذا السياق، من المستحسن إدراج مداخلات الكاتبة بصفة مسترسلة في ذات موطن الفقرة عوض إيرادها أسفل الصفحة، فهو استقطاع لا يخدم ما أريد به "تغييرا للجو" والاقتصار في الهوامش على ذكر المراجع.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم