منذ البداية قد يثير عنوان مجموعة أريج جمال الجديدة (الليلة الأولى من دونك) الكثير من الشجون والأفكار حول محتوى قصص المجموعة وما سيدور حوله عالمها، التي تبدو مرتبطة برصد آثار الهجر والفراق، ولكن المفاجأة أن القارئ ما إن يتجاوز العنوان ويبدأ في أول قصص المجموعة حتى يتشكّل لديه ذلك العالم المغاير تمامًا لفكرته الأولى، حيث يكتشف أن ثمة "مدينة داخلية" بالكامل تؤسسها أريج جمال من خلال قصصها، وتسمح للقارئ ببساطة أن يتعرّف على تفاصيلها والانتقال داخل أفكارها في قصص المجموعة العشرة.

في البداية نتعرّف على اغتراب بطلة القصة عن عالمها من خلال اللغة، وسيلة التواصل الأولى، والتي تختفي أو تتلاشى بشكلٍ خاص ومفاجئ، تتحدث عن "اللغة" وغيابها على هذا النحو:

((في يومٍ بعيدٍ كانت لي لغة، أتكلَّم بها فأقول نفسي وأُحبّ، كما لو أن العالم كله كان يتوقف ليسمعني، كنتُ أتحدث بسرور بين الناس، من دون أن أعرف إلى أي حدٍّ هي هشَّة، هذه اللغة لم أتوقع أن تضيع من لساني، أو أن أُمسي بلا لغة، لأني لم أكن قد جرَّبتُ من قبل أن تسوء الأوضاع في المدينة إلى هذا الحد، عندما جرى ما جرى أخذتُ ألوم نفسي فأقول كان ينبغي أن أعيش كفيفةً وصمَّاء، ومعزولةً بالكامل داخل كهف نفسي))

يحضر ذلك الاغتراب عن المجتمع في أكثر من صورة داخل قصص المجموعة، التي يمكن أن تنتظم بشكلٍ ما لتبدو معها كل قصة مكملة لحالة الأخرى، أو تعرض الفكرة بطريقة أخرى، فبطلة القصص كلها تبدو واحدة، تعاني ذلك القدر الإنساني من الاغتراب عن المجتمع وتسعى لكي تواجهه ذلك أنه لا يفهمها ولا يقدرها، ولكنها لاتنشغل بطريقة التعبير عن تلكالقسوة أو حتى الكراهية، بل الساردة والبطلة تسعى طوال الوقت للتجاوز، وتمعن في وصف حالة إنسانية شديدة الشاعرية، نجد ذلك في قصة "وسط البلد":

(تحسَّنت أحوالي مع مرور الزمن، توقفتُ عن الشكوى، وأخذتُ تدريجيًّا أصوم عن الكلام، لا أعرف كيف بدأ الأمر، وجدتُ نفسي في منتصف التجربة، أحسستُ أن طريقي سهل، فأكملتُ من دون أن أناقش الأمر مع أحد ساعدتني القراءة في المقاهي، قصص الأطفال، الروايات الإنجليزية القديمة، الكتب الفرنسية المهجورة التي لا يكتب عنها أحد في الصحف على الإنترنت وجدتُ غايتي، نبعٌ لا ينضُب من السرقات الفاخرة، نقلتُ كل تلك الكتابات إلى جهازي الصغير «الكيندل» المخصص للقراءة فقط، خفيف الوزن، لا يُضاهي حجم كتاب حقيقي من مائة صفحة، كنتُ أحمله معي أينما ذهبت، أُخرِجه كسلاح أبيض في عربة الميكروباص..)

وحتى في المرة الوحيدة التي كان بطل القصة ذلك "التلميذ النجيب" تفاجئنا الساردة بأنها تلك الفتاة التي كانت تراقبه طوال الوقت، وتتعاطف مع موقفه وحالته الخاصة.

من العزلة إلى الاندماج والنجاة. 

وهكذا نتدرج مع بطلة القصة في حالاتها المختلفة منذ الاكتشاف الأول في قصتها الأولى، وحتى طرق التعامل والمواجهة تلك التي نجدها في قصص "زهرة القطن" و"وسط البلد" وأطول نظرة ممكنة" والتي تضع رغم ما في العالم من سودواية قدرًا من الأمل، أن هناك طريقة ما للعيش والتعامل في الحياة رغم كل تلك الغربة، تبدأ في قصة "الأخوية" حيث ثمة طريقة مختلفة لجمع الناس حولها حول "الحب بلا تمييز":

شجع كثيرون فكرتي، عن القيمة المطلقة للحب بلا تمييز، أصدقاء وأشخاص في دائرة المعارف، نعم كانت أعينهم تلمع بأسئلة يخشون النطق بها، عني، عن حياتي، وأحاسيسي في الحب، وكنتُ كلما لمعت الأسئلة ناورتُ وراوغتُ كي أحصل على أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من المكاسب، من دون تقديم أي إجابات دعوات بالمشاركة على فيسبوك، صور فوتوغرافية للسماء أهداها لنا مُصوِّرون محترفون، أطفال تطوَّعوا باللعب يوم كامل في الميادين والشوارع، مطربون مشاهير روَّجوا لنا بين معجبيهم كان لعبارة: «لا يمكنك أن تمنع الحُب» مفعول السحر، واستُقبِلت الحركة، كما حلمنا بها، رسالة غير متحيزة، هادئة وتدعو إلى الأمل. كنتُ أشعر أنني سأعيش لأشهد عصر السلام، كما لو أننا في الجنة، ليس هناك أي تسمية أخرى تناسب الحدث، سوى كلمة «جنة»

ثم المفاجأة التي تضعها لنا قصة "ألين" مثلاً، وهناك يتعرّف القارئ على مصدر جملة العنوان "الليلة الأولى من دونك" وأنها من قصة للطيب صالح بعنوان (رسالة إلى إيلين) والإحالة لهذه القصة مهمة جدًا في سياق المجموعة وعالمها في ظني، ذلك الذي يتوزع فيه وعي البطلة بين بحثها عن ذاتها في آخر وبين انغماسها واكتفاءها بعالمها، عند الطيب صالح يتساءل البطل بعد أن ترك حبيبته الغربية المختلفة تمامًا عنه فيه كل شيء عن سر حبها له رغم كل هذه الاختلافات، فيما هو منغمس بين أسرته في بلاده البعيدة!

ذلك الصراع على مستويات مختلفة الذي تعيشه بطلة/ بطلات قصص المجموعة، وهاهي تعترف صراحة أنها في بلد أخرى ( كنت أنتظر العصافير التي تأتي وتزقزق أمام الشباك أو الأجرأ التي تحاول بمنقارها اختراقه للوصول إليّ. كم تمنيت على سبيل الأمل أن تنجح في مسعاها لعلها تنقل لي رسالة لا أنتظرها من بلادي البعيدة. البعيدة إلى حد أني لم أعد أعرف مكانها.. ).

ولكنها استطاعت أخيرًا أن تجد عالمها/ لغتها الخاصة، بل وأصبحت صديقتها تتعامل معها من خلال تلك اللغة:

((آلين… عاملت قصة اللغة الجديدة بجدِّية غريبة، مع أنها بدأَتْ معي كنزوة، أعني فكرة اللغة، نزوة أو لعبة أو ربما سلوان كنتُ أقدمه لنفسي السرية من دون أن أخبر به آلين، التي رأَتْ أن هذه اللغة ستدرُّ علينا، وعلى غيرنا ثروة، ثروة من الأفكار، في سبيل تحويل العالم إلى جنة، جنة تشبه حديقة بيتنا. وعلى هذا الأساس، وهبتها آلين من وقتها وعنادها، وأقنعتني أنها ستداوي جراحي القديمة كُلها))

هل يمكن أن يتحوّل العالم إلى جنة؟ لانعرف على وجه التحديد، ولا تقدم المجموعة بقصصها المختلفة تلك الوسيلة السحرية للتغلب على شعور المرء بالاغتراب والوحشة في ذلك العالم، ولكنها في المقابل تستحضر شخصيات أخرى، وتتماهى بطلات القصص مع عالمهم، فثمة حضور خاص لهنري روسو ولوحاته، والحضور الأكثر ثراء وفعالية للمغنية "نينا سيمون" وقصتها الدرامية، حتى نجد شيئًا من الخلاص في القصة الأخيرة للمجموعة، والتي تبدو كخير ختام:

‫ غير أني أكتشف الآن أن للحكايات مفعولَ السحر، فأنا بعد أن أصغيتُ، أنا نفسي، إلى حكايتي من بدايتها وتقريبًا إلى نهايتها، شعرتُ بالعطف على هذا الشبح البائس، وأتساءَل الآن ماذا سيحدث لو فتحتُ الشبَّاك، وتركتُ النور ينفُذ إلى أحلامي، لو تركتُ القمر يضيء نومي، أتساءل عن شكل الحياة، في حالِ تخليَّتُ عنه، بعد كل تلك السنوات؟ ألا تكفي كل تلك السنوات؟

هكذا استطاعت أريج جمال أن تنسج عالمها القصصي ببراعة من خلال عشر قصص مختلفة، وأن تؤكد قدرتها على الإمساك بلحظات القص الخاصة وتصويرها بدقة، وأن تقدم رؤية شديدة الواقعية للعالم من منظورها، والقدرة على مواجهته بشاعرية، رغم ما عانته وتعانيه بطلات قصصها من صراعات ومشكلات داخل ذلك المجتمع القاسي.

تجدر الإشارة إلى أن هذه المجموعة الثالثة لأريج جمال، سبقها "مائدة واحدة للمحبة" و"كنائس لا تسقط في الحرب"، وترجمت عددًا من الأعمال منها "نداهة القاهرة" لبيير جازيو، و"عبر الطرق" لسلفيان برودوم"، كما صدر لها رواية "أنا أروى يا مريم" وحصلت عنها على المركز الأول بجائزة ساويرس للرواية فرع شباب الأدباء عام 2021

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم