لاشيء يقود تفاصيل هذه الرواية الشيقة الجميلة غير الحنين، الخط الواصل بين بدايتها ونهايتها، وبراعة كاتبها في استحضار ذلك الزمن الغائب البعيد الجميل بشخوصه ومغامراته وبراءته، وبشكلٍ شديد الخصوصية في تفاصيل نتعرف من خلالها على مدينة القامشلي السورية حين كانت معبرة عن حالة من تقارب الأجناس والألوان قل أن تكون موجودة في مدن اليوم، ليس الأمر أمر عازار الفتى اليهودي المفقود فحسب، وإنما هو تلك القدرة على رصد تفاصيل ذلك العالم القديم بكل ما فيه من جمال وصدق وبراءة.

في أكثر من 400 صفحة تتناول رواية "البحث عن عازار" الصادرة في العام الماضي عن الكتب خان، قصة الفتى الإيزيدي "عيد كوري" وعلاقة الصداقة والحب التي ربطته لمدة عامين تقريبًا بصديقه اليهودي "عازار ناحوم" وعائلته، وكيف كان بوابته في تلك المرحلة المبكرة من عمره على التعرف على الحياة بشكل خاص، وكيف كانت محبته تلك لصديقه مفتاحًا للعالم

يكتشف عيد في وجود صديقه مشاعر الحب والصداقة ويتعرف من خلاله على جمال الحياة:

(فجأة شعرت بالحرية، الحرية المطلقة. الحرية التي يشعر بها الطائر في الأعالي. صرت أشعر أن بوسعي أن أرقص من دون أي حرج. أن أغني، أن أصرخ، أن أقفز وأهرول وأنا أضحك، دون خجل أو ارتباك.

‫ إنها تجربة فريدة تلك التي تجعلك تشعر بأن حياتك التي كنت تعتبرها عقيمة وفارغة من المعنى باتت غنية وساطعة وزاخرة بكل شيء.

‫ الحياة مع صديق تحبه ويحبك أشبه بحياة المؤمن الذي يغمره اليقين بأن الله يسير معه ويسهر عليه. لم يسبق أن شعرت بمثل هذا الأمان والرضا.

‫ الآن يلوح لي أن الصداقة نعمة إلهية ومن لم يتوفر عليها لا يعرف كنهها. إدراكي أن عازار سوف يصير صديقي كان يحولني إلى شخص متحمس ومندفع. كنت أخوض معركة. أشحذ قواي، أهيئ سلاحي، أسهر وأستعد. كانت معركة حياة أو موت ‫ وقد صار صديقي. كسبت المعركة. معركة الحياة. لن أموت أبدًا.)

.هي قصة حب وصداقة استثنائية، جمعت بين عيد وعازار في البداية، ثم بين عيد وبين إيفون أخته، حيق تعرف على مشاعر حب الأنثى من خلالها، لكن بقي حبه لعازار لامثيل له، يدور العالم حوله.

تقسم الرواية إلى ثلاث أقسام، في الأول نتعرف على عيد وعالمه الصغير وانتقاله بين قريته والقامشلي، وبدايات تعرفه على "عازار" وعائلته، وكيف تمضي أيامهم سويًا، ونعيش مغامراتهم ومواقفهم ورحلااتهم الصغيرة، حتى نفاجئ مع بطلنا باختفاء عازار وعائلته بدون مقدمات، في القسم الثاني يتغير حال عيد وينتقل إلى المدرسة الثانوية، ولكنه لايزال يذكر صديقه وصاحبه، ويكتب له يوميات، ويحكي له عن كل شيء يمر به في حياته الجديدة بعده، حتى أنه يتعرف على زهير الذي يذكره به، وتتغير به الأحوال فيدخل كلية الآداب وينضم للجماعات السياسية الماركسية، فيهرب إلى لبنان ومنها إلى النرويج ويعمل مترجمًا هناك، ونفاجئ أنه تزوج وأصبح لديه ابنة، في القسم الثالث تعثر البنت (التي جاء ذكرها في بداية الرواية) على عازار ناحوم من خلال البحث عنه على وسائل التواصل الاجتماعي وتتعرف على ابنه، فيأتيه صوته عبر الهاتف بعد كل هذه السنوات والانتظار، يلتقي الصديقان الحبيبان، ويقرر الكاتب أن ينهي الرواية عند هذا الحد.

ويبدو أن إخلاص الراوي لصديقه طوال تلك الفترة، جعل الكاتب أيضًا يغض الطرف عن كل ما حدث لعيد بعد ترك صديقه له، فيبدو للقارئ أن هناك قفزات زمنية ومكانية بل واجتماعية هامة قرر الكاتب أن يقفز عليها ويثبت فقط كل ما له علاقة بعازار وذكرياته مع عيد، فلم نعرف مثلاً لماذا انخرط عيد وهو الفتى المسالم الذي أحب صديقه اليهودي، ولم يرى في يهوديته ما يتعارض مع صداقته، كيف انخرط فجأة في الجماعات المسلحة، وكيف أًصبح واحدًا منهم، لدرجة أنه هرب خوفًا من الملاحقات الأمنية، ولم نعرف حتى بعد ذلك كيف تعرف على زوجته وتزوجها، وأنجب منها ابنته، وهذا ربما يكون أغرب ما في الرواية، إذ كان من المتوقع أن يتوقف السرد طويلاً عند هذه النقطة بالذات، ويعرض كيف تم هذا الزواج وكيف حكى عيد لزوجته عن صديقه، ثم بعد هذا كله، لماذا تنتهي الرواية أصلاً، كنّا نود أن نعرف ماذا حدث بعد هذا اللقاء المفاجئ والتاريخي بين الصديقين، ما الذي فعلاه معًا، لماذا أغلق الستار فجأة بعد هذه الرحلة الشيقة؟!

تحضر في الرواية التي تبدأ من سبعينيات القرن الماضي عددًا من الأفلام والأغاني المصرية بشكل خاص، مثل "خللي بالك من زوزو" الذي يشاهده الأصدقاء معًا، وأغاني أم كلثوم وعبد الحليم من خلال شرائط الكاسيت التي يبتادلوها سويًا تلك التي غدت بمثابة الموسيقى التصويرية المصاحبه لمشاهد الحب واللقاء، وكذلك الهجر والفراق بعد ذلك، بالإضافة إلى أشعار ابن الفارض وكلمات جلال الدين الرومي، وروايات المنفلوطي وغيرها .. كما حضرت سوريا القديمة بتفاصيل حاراتها ولعب أطفالها الشيقة مثل البلياردو والبيبي فوت وغيرها من ألعاب الصبيان والمراهقين التي ربما يفتقد الجيل الحالي وجودها أصلاً، وجاء في الرواية رسم تفصيلي للأماكن سواء لمدينة القامشلي السروية ومافيها من تعددية ثقافية في ذلك الزمن أو عامودا وغيرها من المناطق والحارات بشكل يجعل القارئ وكأنه يركض معهم هنا وهناك .

في النهاية نحن إزاي عمل روائي جميل، يرصد فيه الكاتب من خلال بطل روايته ذلك الزمن الجميل، دون أن يقع في فخ البكائيات، ويستغرض كيف كان جو التسامح موجودًا رغم كل المنغصات، ونستعيد معه ومن خلاله قيمة كبرى ضاعت منا وسط عالم السوشيال ميديا والأقنعة الكاذبة، إنه عالم الصداقة البريء بجماله وتفاصيله التي نحن إليها دومًا.

من جهةٍ أخرى أحب كثيرًا تلك اللحظة التي أتعرّف فيها على عالم روائي مميز لأول مرة، وهو الروائي السوري الكردي "نزار آغري" وهو مترجم وناقد أيضًا، ترجم عددًا من الروايات عن الإيطالية مثل روايات "جبل الرب" و"باسم الأم" للروائي الإيطالي دي لوكا وغيره، كما يكتب بشكل دوري عن الكتب والروايات في موقع المدن يرصد فيها عددًا من الظواهر الأدبية والثقافية.

شكرًا نزار آغري على هذه الرواية التي ستبقى في البال طويلاً والتي سعدت بوصولها للقائمة الطويلة لبوكر هذا العام.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم