تبدو الشخصيات التاريخية والدينية شديدة الثراء والجاذبية لكي ينسج الكتاب والروائيون حولها ما يشاؤون من أحداث اعتمادًا على وقائع تاريخية محددة أو إعمالاً للخيال في نسج خيوط جديدة لهذه الشخصيات تأويل تصرفاتها وحياتها على نحو آخر، ومثلما كانت شخصية "المسيح" دافعًا لعدد من الكتّاب والروائيين لكي يتناولوا حياته وينسجوا حوله عالمهم الروائي وكيف كان تعامل الناس معه، كانت شخصية "يهوذا الاسخريوطي" أيضًا على قدرٍ كبير من الثراء والغموض، دفعت البعض لتناوله والحديث عن دوافع خيانته الكبرى للمسيح، تلك الخيانة التي كانت سببًا مباشرًا لنهايته! 

في رواية "آلام يهوذا" لماجد وهيب الصادرة عن دار المرايا، نجد تتبعًا لسيرة يهوذا منذ مولده وحتى لحظة انتحاره الدرامية، ويبدو الكاتب منذ السطور الأولى للرواية مهتمًا بالجوانب الإنسانية لبطله، مد فوعًا في حكايته بالسؤال الذي أرق الكثير من أتباع الدين المسيحي، ومن عرفوا بحكاية يهوذا بشكلٍ عام، إذ لم يكن من المتوقع أن تأتي الخيانة من واحد من الاثني عشر حواريًا/ تلميذًا الذين كانوا ملازمين للمسيح، بل ومن اختصه بأمانة صندوق التبرعات، ولهذا يعود السارد إلى تتبع سيرة "يهوذا"  وحياته، ليرصد عن قرب ما واجه من مشكلات وأزمات مادية ومعنوية، أثرت في تكوينه وفي تلقيه وتعامله مع المسيح حتى بعد لقاءه، وكان أثرها جليًا في حواره معه، خرج يهوذا إلى الناس ينصحهم ويرشدهم: 

(( علّموا أولادكم الحب كما تعلمونهم الحرفة، لأن بالحرفة يكسب الإنسان غذاء جسده، وبالحب يكسب غذاء قلبه ابتسموا، لكن لا تلوموا العابسين لأنكم لا تعرفون ماذا عندهم، احترموا أوجاع الآخرين لأنها أوجاع العالم كله لا تحتقروا ولا تذموا إذا كان منكم من في قلبه قليل من غضب نحو جاره، فليصارحه خير من أن يضحك في وجهه زورًا وكذبًا لا تحسب نفسك أفضل من جارك، لأنك لا تفعل ذنبًا يفعله هو في العلن، لأن ذنبًا آخر لا يفعله جارك وتفعله أنت في الخفاء. إن أخطاء القلب والفكر ليست أقل من أخطاء الجسد، وما يُرتكب في الليل أسوأ مما يُرتكب في النهار)) 

استطاع ماجد وهيب أن يقدم حكاية متقنة لسيرة يهوذا، بل وأن يقدم تبريرًا إنسانيًا مقنعًا لخيانته، بل وحيرته الوجودية الخطيرة قبل تلك الخيانة بكثير، وعرض بشكل واقعي جدًا ذلك الصراع بين القوة والضعف وبين الحق والباطل، كيف يكون الحق ضعيفًا؟! ولماذا تكون السلطة والقوة في يد الحكام الظالمين؟! هل هذا كله يرضي الله؟! لا يقتصر الصراع عند يهوذا عند علاقته بالرب والسلطة، بل يتجاوز ذلك لعلاقاته الإنسانية كلها، فهاهو يقع في غرام فتاةٍ تعتبره جبانًا لأنه لا يقاوم الرومان بقوة، ولا ترضى به زوجًا، مما يوقعه في الخطيئة بعلاقة آثمة مع "حنة" ولكنه يفكر فيها، ويفكر معها، كيف يتجاوزون تلك العلاقة الآثمة، وهل يمكن أن تتوب وتترك الزنا،وتقوم بينهما علاقة صحيحة! 

لا يمنح القدر "يهوذا" الكثير لكي يصلح ما يشاء، بل على العكس تتوالى خطبات القدر و"آلامه" عليه، ليجد نفسه وكأنه مدفوع دفعًا لما يقدم عليه، منذ ولادته ونجاته من القتل، وحتى تلك النهاية، التي بدا أن المسيح راضٍ عنها، يعبر يهوذا عن حيرته تلك: 

((سأسلمه، لأني لست جبانًا كما قال داود وكما تظن مريم، ولأن دورًا مهمًا خُلقت من أجله، ولأجله نجوت من هيرودس، لا بد أن أفعله سأسلمه، وأنت يا رب عجل بمسيحك الحقيقي، انظر بعين الرحمة والرأفة لهذا العالم البائس التعيس، إذا رأى أب ابنه يمشي نحو النهر ويوشك أن يلقي بنفسه، هل سيتركه يا رب ويقول ابني راشد وهو حر فيما يفعله؟ لا، سيجري نحوه بكل قوته ويلحقه، وإذا سبقه الابن سيرمي نفسه وراءه غير مبال بالغرق لأجل إنقاذه إذا كان الأب سيفعل ذلك فما بال الإله الخالق؟ والعالم يا رب يمشي نحو الغرق، الناس مُتعبون من أحوال هذا العالم، فلا تقل يا رب هم اختاروا، وما يعانون منه هو جزاء أفعالهم ابعث لنا مسيحًا يغير هذا العالم تغييرًا كاملا))

جاء تركيز الكاتب الأكبر على يهوذا، وأفكاره، وصراعاته النفسية، وكان موفقًا في ذلك إلى حدٍ بعيد، إلا أن عددًا آخر من شخصيات الرواية لم يتم التعبير عنهم أو تقديمهم بشكلٍ كامل، فلم نعرف عن حبيبته مريم الكثير، وكذلك أصدقاؤه الذين يعتبر كل واحدٍ منهم طريقًا مختلفًا في التغيير، بين الأخذ بقوة التي يمثلها (داود) أو الانعزال وترك الناس تمامًا التي يمثلها (يوسف) والذي تأتي نهايته معبرة تمامًا عن ذلك الطريق! 

ليست المرة الأولى التي يتم تناول شخصية "يهوذا" فيها روائيًا، فقد سبق أن كتب عنه الروائي الفرنسي  أوبير برولونجو وصدرت بترجمة ميشال كرم عن دار الفارابي 2006، ولكن بشكل مختلف، حيث نرى يهوذا هنا وقد انضم لحركات المقاومة المسلحة بقيادة "بارباس"، ولكن الآمر يختلف معه بعد ذلك عند ظهور المسيح، إلا أن النهاية تبقى واحدة! 

كما ذكرني ذلك الصراع الذي حمله يهوذا، والذي سعى لكي يعبر عنه بشتى الطرق، وعلاقة المسيح بالناس وموقف أتباعه منه  وذلك الجدل الفكري الطويل بالحوارات التي نسجها محمد كامل حسين باقتدار في رواية "قرية ظالمة" والتي تناولت حال القرية التي صلب فيها المسيح من وجهات نظر متعددة، وكيف عبر عن أن الباطل يمكن أن يملك بيانًا قويًا يوقع الناس في شرور أعمالها! 

في النهاية استطاع ماجد وهيب أن يقدم تأويلاً إنسانيًا جيدًا لخيانة يهوذا، وأن يجعل القارئ متعاطفًا مع تلك الشخصية الجدلية الاستثنائية، وأن يلقي في ذهنه الكثير من التساؤلات والحيرة حول علاقتنا بالآخرين، ومواجهة الظلم والتعامل مع الناس، والطريقة المثلى للمواجهة، والتي تجعل المرء يعيد التفكير مرارًا في كثير مما حوله! 

رواية "آلام يهوذا" هي الرواية الثالثة لماجد وهيب، سبقها "المرج" و"أخوة الرب"، وصلت مجموعته القصصية "العالم في حفلة تنكرية" للقائمة الطويلة في جائزة ساويرس الثقافية.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم