يحضر سؤال الثورة بقوة في الرواية العربية هذه الأيام، حتى وإن وصلت بشعوبها إلى الطريق المسدود في كثيرٍ من الدول العربية، إلا أن عددًا من الروائيين لايزالون قادرين على طرح أسئلة الثورة وما تفعله في أبنائها، وبالتالي الحكام والاستبداد والتسلط وما ينتج عنه في تلك البلاد العربية التي تقع تحت وطأة الظلم لسنوات وسنوات، ولايبدو الخلاص من ذلك الظلم يسيرًا حتى لو سقطت الأنظمة وقامت على أنقاضها أنظمة أخرى بديلة!

في روايتها الجديدة تعود بنا كوثر الجهمي إلى أبطال روايتها السابقة "عايدون" الذين يبدو أنها وجدت في حكاياتهم تفاصيل أكثر أهمية وثراءً مما ذكرته من قبل، فعادت إليهم وإلى حكاياتهم وتفاصيلها شديدة التأثير والتعقيد، لتخوض بنا من خلالهم عرض أطراف هامة من تاريخ ليبيا الحديث، وذلك التمزق بين الثورة ونداءات الحرية، وبين البحث عن الهوية والانتماء لبلدٍ تعلم أبناءها على الدوام كيف يفرون منها!

منذ البداية ربما يثير العنوان لدى القارئ ذكرى "العقيد" الوحيد المعروف في العالم العربي بهذا الاسم، وهو الرئيس الليبي "معمر القذافي"، ولكن الرواية تدور حول عقيد آخر هو "علي المرابط" الذي عرفنا طرفًا من حكايته من قبل في رواية (عايدون) كمعارض ليبي وأحد أسرى حرب ليبيا مع تشاد، والذي نفاجئ منذ بداية الرواية باغتياله في أمريكا، ثم قرار ابنه الأمريكي آدم زيارة ليبيا بعد الثورة للتقصي وراء مقتل والده فيتعرف أثناء ذلك على عائلة عمه لأول مرة، ويتعرف أيضا على زوجة والده الأولى قبل حرب تشاد الإعلامية (غزالة الكريتلي) وعلى أخته غير الشقيقة (حسناء)، وتمنح الكاتبة هذه المرة الفرصة لجميع أبطالها بشهاداتهم للحديث والتعبير عن أنفسهم، وإن دار ذلك كله في إطار علاقتهم بعلي المرابط وحكايتهم معه في فترات زمنية مختلفة نتعرف من خلالها على ما دار في المجتمع الليبي من تحولات من انقلاب/ثورة 1969 وحتى ما تلا سقوط القذافي 2011.

دهاليز السياسة .. وتحولات بطل قومي! 

تبدو حكاية علي المرابط شبيهة بحكايات كثيرة لأبطالٍ استثنائيين، خرجوا من عالم قريتهم المغلق، واستطاعوا أن يتجاوزوا حدودها إلى عالم المدينة الواسع ليصبح هو مراسل القرية ومرشدهم إلى الحرية حتى نصل إلى ثورة سبتمبر 1969 فيحتفل الجميع بسقوط الملك، ونشهد بينهم ذلك التحول الذي يجري لعلي وتلك الخيبة التي تصيبه من تحولات سلطة القذافي بعد ذلك سواء من القرارات أو التجاوزات وصولاً لماسمي بعشرية القهر في الثمانينات، وينتهي الأمر باختفاء أثره في حرب تشاد، عبر كل تلك الصراعات والتحولات ترسم كوثر الجهمي بطلها من خلال شهادات الآخرين، بدءًا بزوجته غزالة وحتى صديقة بركة، نتعرف فيه على ذلك الإنسان الباحث عن الحقيقة، والذي لايمنحه الزمن ولا بلاده الفرصة لكي يهدأ ويستكين!

(فقدنا أيضًا الكثير من كرامتنا في انتظار اعتراف "القائد" بنا، كان برفقتنا سجناء على غرار عليٍّ، يؤمنون بأن "القائد" لن يخذلهم، وبأننا أبناؤه، وبأننا جيل الثورة المُعوَّل علينا لتحقيق الوحدة العربية التي يبدو أن ثمنها باهظ).

أحلام الثورة المجهضة

"ما أشبه الليلة بالبارحة"، ورغم اختلاف الأهداف والدوافع بل وتغيّر الثوار أنفسهم، إلا أن النتائج تبدو شديدة القرب والتشابه، تسرد الرواية على لسان الإعلامية غزالة ما تراه في واقعها بعد ثورة 2011 من تشرذم وشقاق وحروب مستمرة، فنجد حيرتها متجسدة، ورغبتها الخفية في أن يخفي الابن كل أثرٍ لأبيه، لا تريد أن ينكأ الجرح ويعيد فتح الملفات القديمة، تشاركه هواجسها وأفكارها:

(لستُ أدري إن كانت الإقامة هنا تريحي بعد الآن، يبدو وكأننا نمشي بالعكس... أنا منذ أبريل الماضي أعاني من حالة غثيان كلَّما تذكَّرتُ كم كنت ساذجة في أفكاري السياسية والوطنية، كيف تصوَّرتُ الأمور بهذه البساطة، وكيف تخيَّلتُ أن ما ينتظرنا في هذه البلاد حياة طوباوية لا شرَّ فيها... لا ضغائن ولا كراهية ولا دسائس... بِتُّ أراجع نفسي حيال ما اعتبرناها بديهيات، هل حقًّا ثمة ديمقراطية وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة؟ أهي لعنة الفوضى أصابت هذه المنطقة الي تتوسَّط العالم كي يلتصق بها البؤس التصاقًا؟)

لاتكتفي الرواية بعرض بل وتشريح حال الثورة والثوار والمقابلة بين عالمين يبدوان بعيدان عن بعضهما زمنيًا رغم ما يقرب بينهما من نتائج، ولكن سؤال الهوية والانتماء يحضر مرة أخرى هنا، مثلما كان حاضرًا بقوة في "عايدون"، ولكنه يبدو هذه المرة أكثر التحامًا بالواقع عبر كلمات بركة صديق والده إذ يقول:

(وها أنا ذا لم أحاول العودة إلى الديار، حتى بعد مقتل القذافي بأربع سنوات، ليس هناك ما يمنعي، ولكن أيضًا ليس هناك ما أعود لأجله، لستُ مستعدًّا لقلب حياة أطفالي، إنهم أميركيُّون، مثلك تمامًا، ولكي على عكس جدِّكَ؛ لم أغرس فيهم شعارات الوطنية والانتماء، وتركتُ لهم حرِّيَّة اختيار انتماءاتهم؛ إذ ما الذي سيدفعهم لتحمُّل الحياة في بلدٍ مُناقِضٍ تمامًا -ماديًا واجتماعيًّا- لهذا البلد؟ أنت تقول إن ليبيا وطنك الأم، ولكن كيف للوطن أن يكون أُمًّا حن لا تجد في حضنه الراحة، السكينة، الاطمئنان، والأمان؟)

هل يفتت الماء كل هذه الصخور؟! 

رغم كل تلك التفاصيل المؤلمة ومشاعر الإحباط واليأس التي تمتلئ بها الرواية وتبدو واقعية وطبيعية في سياق القصة وسياق عالم اليوم، تترك كوثر الجهمي بصيص أملٍ يبدو في كلمات المقدمة التي يبثها آدم المرابط في ذهن قراءه حين يقول (إلى المؤمنين مثلي بأثر قطرات الماء على الصخر) وهكذا تبدو تلك الكلمات، وذلك التوثيق محاولة أخيرة للنجاة رغم كل المعوقات والصعوبات، ويبدو هنا أثر ذلك الكتاب/ الرواية كسبيل وحيد للاستفادة من أخطاء ذلك الماضي، عل الأجيال القادمة تتعلم منه شيئًا .. أي شيء!

وهكذا استطاعت كوثر الجهمي أن تقدم رواية متماسكة في بنائها ولغتها، وأن تضيف إلى حكاية روايتها الأولى (عايدون) تفاصيل جديدة شديدة الثراء والأهمية، وأن تحكي أطرافًا هامة من تاريخ ليبيا المعاصر على لسان أبطال روايتيها، وأن تمنحنا مع كل هذه التفاصيل الصعبة والمؤلمة، والتي تبدو المنطقة العربية كلها متقاربة الشبه فيها، تمنحنا مع ذلك الحكي الواقعي قدرًا من الأمل حتى وإن بقي مدونًا في صفحات رواية.

كوثر الجهمي روائية ليبية، حصلت على جائزة مي غصوب في الرواية عن روايتها الأولى "عايدون" عام 2019، كما صدر لها مجموعة "حي القطط السمان" 2021.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم