لعل أكثر ما يبحث عنه القارئ في الرواية هذه الأيام هو الصوت المتفرد، الذي يمكن لصحابه أن يقود قارئه بسلاسة إلى عالمه السردي مهما كانت درجة اقترابه أو بعده عن حكايته، فلم تعد الحكاية هي الأساس، وإن كانت بلا شك مهمة، ولكن الأسلوب وطريقة صوغ هذه الحكاية هو ما ينشده قراء اليوم، لكي يصلون منه إلى الرواية المختلفة عن السائد، لاسيما بعد أن امتلأت الساحة بالكثير!

في روايته الثانية وبعد نحو ست سنوات من روايته الأولى (حارس الفيسبوك) يقدّم شريف صالح للقارئ تجربة سردية شديدة الخصوصية والاختلاف، تأخذ من الواقع اليومي الكثير ولكنها تجنح إلى السريالية والخيال أكثر، بدرجة تذكرنا بعالمه القصصي الذي راوح باستمرار فيه بين الفانتازيا والخيال والأحلام.

تبدأ الراواية بثلاث عتباتٍ مختلفة، بدءًا بالعنوان الأول (ابتسامة بوذا) وما يوحي إليه، مرورًا بالعنوان الفرعي الشاعري المختلف (ناديت باسمكِ في الماء)، ينقل شريف صالح مقولة بوذا "العالم أعمى، وقلة المبصرون" وتنويه إلى أن الرواية لم تكن لتكتب لولا نصوص وأفلام التصوف الآسيوي والبوذي، مما يشير بشكل واضح إلى طبيعة تلك الرحلة التي سيخوضها القارئ بين صفحات الرواية، ولكن المفاجأة الأولى تأتي من سطور الرواية الأولى، حيث يجد محادثة بين بطل الرواية وعشيقة افتراضية، يتفقان سويًا على رحلة/لقاء خاص، ويبدو أن الرواية ستتجه إلى تلك الحالة من رصد تفاصيل العلاقة وتكونها وما يدور بين اثنين في تلك المساحة الافتراضية..

ولكن سرعان ما يتحوّل الأمر إلى تفاصيل تلك الرحلة الغريبة التي ينطلق فيها بطل الرواية، الذي يقرر أن يمنح نفسه اسم "مار" ويسمي صديقته "تاليا" ونتعرف على أجزاء من حكايته وتفاصيل حياته، من خلال فصول الرواية القصيرة الأربع وعشرين التي تبدأ بحجز التذكرة مرورًا بركوب الطائرة حتى الوصول إلى الفندق ومشاهدات بطل الرواية في تلك الرحلة حتى يستقر المقام به في الفندق، ويضع لكل مكانٍ فصل خاص وحالة خاصة حتى تحين لحظة الوداع.

رحلة البحث عن المتعة أو المعنى!

تتغيّر الحكاية مع كل محطةٍ/فصل من فصول الرواية، منذ بداية محاولاته الحصول على الإجازة مرورًا بذهابه إلى المطار ونقاط التفتيش وصولاً إلى بداية الأحداث الفانتازية على متن الطائرة في البحث عن الشيطان، وظهور شخصيات مفارقة تبدو عادية في المكان (كالركاب والمضيفات) ولكنها تحمل  أبعادًا أخرى، و ينجح البطل/الرواي في التخلص من كل تلك المحطات، وصولاً إلى المحطة الأكبر وهي ذلك الفندق، وبين كل فصلٍ من فصل الرواية نتعرف على جانب من جوانب شخصية البطل وأطرافٍ من ماضيه، وعلاقته بأمه وأبيه ومحاولاته البحث عن حبيبه، لتبدو الرحلة ملتبسة هل هي رحلة للبحث عن المتعة والحب؟ أم أن الأمر أكثر اتساعًا من ذلك؟! وهاهو يستغرق في التأمل:

(( لا يمكن أن تسترخي في جاكوزي مغمض العينين ولا تفكر في نعم الله التي لا تحصى. أعطانا الله كتبًا وأفلامًا وموسيقى عظيمة. الياسمين والغابات المطيرة والهند بلد العجائب، وأفلام كيشلوفسكي. رقص سامية جمال وتحية كاريوكا، شاي سيلان  ونبيذ شاردونيه (المفضل لتاليا) والسفر في سفينة عابرة للبحار، ومارادونا، وتشيخوف. مونيكا بيلوتشي وشعر ابن الفارض. المانجو الاسمعلاوي وضحكة نجيب محفوظ. سقراط وشمس مرا كش ."مرا كب فرح معدية" كما غنت نجاة. كثيرة هي عطايا الرب وقليل جدًا الوقت المتاح للرحلة!))

يدور بطل الرواية بين مفاجآت تلك الرحلة وعوالمها وشخصياتها الغريبة، وبين العودة في لقطات صغيرة إلى لمحاتٍ من ماضيه وعلاقاته ومشكلاته الخاصة، سواء علاقته بوالدته أو والده الذي تركه صغيرًا وسافر، أو علاقته بشيخه الذي تحرش به صغيرًا، أو مشكلات العمل التي تلاحقه، وبين هذا وذاك يبدو العالم ضبابيًا فانتازيًا، وتبدو الرحلة بكل ما فيها سريالية، تتماهى فيها الأشياء وتتعدد مستوياتها، لاسيما بعد مقابلته للحارس الذي سمى نفسه "بوذا"، ولعلنا نشير هنا إلى أن الكاتب يبدو متعمدًا لفكرة عدم تحديد الأسماء، فكل شخصيات الرواية لا تملك أسماء حقيقية، بل هو اسم وصورة أخرى مغايرة له، وكأنه يفكك ذلك الثبات والرسوخ من العالم، وكأنه يعيد القارئ إلى جملة البداية " العالم أعمى"، لايوجد حقيقة واحدة، أو ثبات لحقيقة طوال الوقت، كل شيءٍ قابل للتغير والزوال، وعلى من يسلك الرحلة أن يعي ذلك جيدًا، وإلا فيسطول به أمد التيه في هذه الرحلة!

لايقدم شريف صالح إجابات واضحة وسهلة للعالم الذي يخوض فيه مع القارئ في الرواية، ولكنه يشير إليه بشكل واضح، ويشير إلى ذلك السعي المحموم نحو الإجابات الجاهزة، والمتعة السهلة الذي أصبح سمة عالم اليوم، وهو إذ يعرض بطل روايته إلى تلك التجربة الغريبة وذلك العالم الملغز فإنما يشير بشكل واضح إلى أنه لا إجابات محددة، ولا طريق واحد سواء للمتعة أو السعادة أو حتى الحياة نفسها، بل ويلعب مع القارئ أيضًا لعبة الظهور والتخفي، فبطل الرواية كاتب روائي، يحب سعاد حسني ويحلم بكتابة رواية عنها، كما أنه يتقاطع مع الكاتب  بوضوح في مقطعٍ مثل هذا:

(( غاضب من فوز أوباما وتوكل كرمان بجائزة نوبل. ونوادي المؤمنين والضرائب والزبالة وحبيبتي التي لم تعطني فرصة كي أودعها، وأصدقاء طفولتي حين يذكرونني بابيضاض الذا كرة، والشيخوخة، والأرق، ومتاعب القولون، والناس التي تلبس رباط عنق وهي ذاهبة  إلى النوم. غاضب من التوتر والحرمان.. غاضب ممن يظلون متذكرين عثراتنا.. ومن كنا نتصورهم مصدر أمان، ونظام أمان للدفع الإلكتروني، والأقساط وفوائد البنوك، والذباب والناموس في الشيخ زايد والزبالة وزهايمر عمر الشريف، والكتب التي لم يكن لها أي داع كي تصبح كتبًا، والضعف الإنساني الذي يقول لك إنه ضعف إنساني والعلاقات التي توهمنا أنها عيش وملح وهي ملح فقط والحب ال ذي كان بحاجة إلى شجاعة لا أملكها وغرامياتي التي كانت استنزافًا لروحي .. استنزاف بطول لحية محمد حسان وحسين يعقوب معًا.. غاضب من رؤية المرضى وألم المرضى وفقر المرضى والجوائز والسيارات الفارهة وأطفال الشوارع وإعلانات التبرع والتسول في شهر رمضان، وسرطان البروستاتا والكشري وضياع القدس وبغداد واليمن وموت أمي وضياع زمن الفن الجميل ))

ولكن رغم وجود فقرة طويلة نسبيًا مثل تلك إلا أن الكاتب استطاع أن يحافظ على بطله وعالمه، بكل ما فيه من غرائبية وثراء، ورغم أن الرواية تمتلئ بالعديد من الأفكار المتعلقة بالحرية والجنس والرقابة وعلاقة الكاتب بالمجتمع والعالم، إلا أن كل ذلك لم يثقل الرواية، وإنما جاء عرضه وتناوله بشكل بسيط، في حوارٍ بين البطل وأحد شخصيات الرواية، أو في موقفٍ يتذكره من الماضي يربطه بموقف حاضر، كل ذلك سيكتشفه القارئ بسهولة أثناء تقليب صفحات الرواية التي يفاجئ مع كل فصلٍ فيها تقريبًا بمفاجأة جديدة أو تطور للرحلة لم يحسب له حساب، كل ذلك بلغةٍ بسيطة، وبأسلوبه الهل الممتنع، حتى تنتهي بنا هذه الرحلة، ولا ينتهي التفكير في بوذا وشويكار ومادونا وسعاد حسني بالتأكيد.

 تجدر الإشارة إلى أن الرواية صادرة عن دار خطوط وظلال، وهي الثانية لشريف صالح، سبقها عدد من المجموعات القصصية، أذكر منهم"مثلث العشق" التي حصل عنها على جائزة ساويرس 2011، و"بيضة على الشاطئ" الفائزة بجائزة دبي الثقافية 2011، كما صدر له مختارات قصصية بعنوان "شعر غجري تتطاير منه الحجارة" 2017 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. ودراسة نقدية بعنوان "نجيب محفوظ وتحولات الحكاية" 2013.

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم