منال عبد الأحد

يترك الروائي السوري راهيم حساوي في روايته "الباندا" (هاشيت أنطوان) قارئه في حيرة من أمره، هل العقدة الأساسية في هذه الرواية هي ضربة صائبة، في المجمل، يسدّدها في مرمى جائزة نوبل للسلام والجوائز العالمية المماثلة. وذاك التساؤل الذي يطرحه حول مشروعيتها لكونها تُمنَح لأناس معروفين أصلًا ولا تعطي فرصًا متساوية للجميع، أم هي في المرض النفسي الذي أصاب والد عمران، ومن ثمّ موته منتحرًا، بعد أن ترك مخطوطات تظهر غرابة الأفكار التي قد تراود المريض النفسي، وعدم خلوّها من المنطق أحيانًا وإن بُنيَ هذا المنطق في سياق مَرَضي؟!

في كلتا الحالتين، وأيًّا تكن العقدة الأساس، فإن زمامها يدور بالتساوي حول مشروعية جائزة كنوبل للسلام والدور الذي يلعبه الإعلام والبروباغندا في ذلك، بكل ما لكلمة اللعب من معنى، وحول ذاك المرض الذي يبدو أنه متوارث في عائلة التل، من عاصم إلى عمران، إلى جيداء الغريبة الأطوار، مرورًا بالعمة سعاد التي لا تقلّ غرابة، وصولًا إلى الجدة التي سقطت في البئر. ومما لا شكّ فيه أن حساوي يشيّد عمارته الروائية على أعمدة من السرد المفرط لسيكولوجيا شخصياته، حتى يشعر القارئ أنه يشاركه في وضع مداميك بنية هذه الشخصيات وأنها ليست حاضرة أمامه وحسب، بل هو متوغّل في أعماقها. وفي هذا ينتهج حساوي نمطًا نوعيًا من السرد الروائي القائم على إشراك القارئ في فهم هذه الشخصيات والمضيّ معها في رحلة تستغرق أبعد بكثير من 169 صفحة روائية.

وممّا لا ريب فيه أن انتحار عاصم التل، المولع بفاتن حمامة، هو المحرّك الرئيس لعجلة الأحداث في هذه الرواية. فقد كان عاصم مصابًا بمرض نفسي جعله غريب الأطوار وصامتًا في الغالب. وفيما هو مستغرق في صمته هذا كتب مخطوطاته التي تناولت بالنقد المبرِّح جائزة نوبل للسلام، والتي سيرثها عنه ابنه عمران وتصبح محور أيامه القادمة.

عمل عمران على رسم شخصية من تركيبه الخاص جعل لها اسمًا لامعًا، وجمعية خيرية، ودعمًا  إعلاميًا واجتماعيًا أهّلها لأن تصبح من الأسماء المرشحة لجائزة نوبل، وهو في مساعيه هذه يبغي إثبات حقيقة ما دوّنه أبوه عن أن هذه الجائزة تُمنَح لأيّ كان ممن حظى بدعم إعلامي ومكانة مرموقة يؤهلانه للفوز. "لم يسبق لجائزة نوبل للسلام أن ألقت القبض على رجل دون أن يدري وقالت له أنت مطلوب لاستلام جائزة نوبل للسلام، هذه خلاصة القضيّة كما يقول عاصم التل في إحدى عباراته. فكلّ الذين يحصلون على نوبل للسلام يتمتّعون بظروف حصولهم عليها"، (ص 49 - 50).

يلعب حساوي في روايته هذه على وتر المتناقضات، فرحاب، التي من الواضح أنها كانت تكره  زوجها عاصم، وتزوجت من صديقه بعد وفاته، تربطها علاقة جدلية بابنها عمران الذي يذكّرها بأبيه، علاقة قائمة على الكره المستجدّ: "لم تعد رحاب تهتم بنظراتها لعمران كما كانت تفعل من قبل، فقد باتت ترى فيه ملامح أبيه الذي صار في عالم النسيان بالنسبة إليها، وما زال أمر قتل عاصم لنفسه يشعرها بالتقزّز وبالنفور من عمران بعض الشيء حين تستمرّ نظرتها إلى عينيه للحظات أطول مما تحتملها." (ص 64)، والحب: "في اليوم الثاني جلست رحاب مع عمران على فنجان قهوة، دار الحديث عن الذكريات، وعن مدى حبها له وحبّه لها..." (ص 65).

أورث عاصم التل ابنه حبّ النجارة وكانا نجارين بارعين ينحتان أعمالهما بدقة واتقانٍ عالٍ. ولهذا  الغرض كان عاصم التل يملك ورشة نجارة ومكتبًا ليستقبل فيه الزبائن ويختلي فيه بنفسه، وعلى الأريكة في ذلك المكتب انتحر بطلقة من مسدسه سدّدها في رأسه. حاول عمران التقرّب من سارة الزين التي آلت إليها ملكية المكتب، وهي فنانة تشكيلية حوّلته إلى مرسم، أعجبت سارة بعمران فيما كان هو يبحث في مرسمها عن آثار أبيه، كان كلّ شيء هناك يذكّره به، "لكنّ رؤية الأريكة التي عند النافذة أخذه (والصحيح أخذته) قليلًا لمقارنة سريعة بين الثقب الذي أحدثته الرصاصة في صدغ أبيه وبين ثقب لمحه في بنطال سارة" (ص 68).

كان عاصم التل يحتفظ برسائل اشتراها، وهي موجهة من فاتن حمامة إلى شادن المولعة بها، حاول عاصم مراسلة شادن ليعطيها الرسائل إلا أنّه لم ينجح في العثور عليها قبل انتحاره. فتولى عمران الأمر وسلّم الرسائل إلى ابنتها كلودين في بيروت، حيث أن شادن كانت قد سافرت إلى فرنسا بعد حملها بكلودين ولم تعد إلى لبنان أبدًا. وكان مضمون المراسلات بينها وبين فاتن حمامة يدور حول قصة حبها لوالد كلودين، من دون أن يجد الكاتب صيغة مناسبة يبرر فيها عدم ارتباطهما، بخاصة وأن هذا الأخير قد زار شادن مرتين في فرنسا.

أُغرِم عمران بكلودين وبادلته هي الحب نفسه، على رغم وجود علاقة غير محددة المعالم لها مع الدكتور عزّام، صديق موريس زوج أمها. بحيث كانت تارة تضاجعه، وطورًا ترى فيه الأب الروحي، وهنا يلجأ حساوي من جديد إلى اللعب على المتناقضات الذي قد لا يبدو موفقًا. "بجانب من جوانب علاقتها به كأبٍ روحيّ ومُعلّم وناصح وحاضن لها بجميع حالاتها" (ص 130)، و"لقد طارحته السرير عدة مرات..." (ص 124).

أمّا فريدة التي كانت تعمل في معمل للخياطة قبل أن يجعل منها عمران فأرة تجربته فكانت  مجبولة بالكره لأيٍّ كان. ويمعن الكاتب في التفسير السيكولوجي لحالات الكره التي تعتريها فيجعلها أكثر غرابة. تبدو شخصية فريدة مركّبة سيكولوجيًا بإخفاق حيث لا تعرف سببًا للكره، ولا يبدو منطقيًا نجاحها السريع هذا في تمثيل كلّ ذاك الحب.

راح يرافق عمران الشعور الدائم بما كانت تردده أمه عن أنّهم عائلة مصابة بالجنون، بخاصة من  خلال مراقبته المحايدة لسلوكيات عمته سعاد التي لم تكن أقل اضطرابًا، ولمزاجية وغرابة أخته جيداء، حتى أنّه كان يشعر أحيانًا بغرابة ما يفعله هو. "شعر أنّ كل ما قام به من أفعال هي أفعال شخص آخر، كلّ التفاصيل المتعلّقة بفريدة بدت سلوكيّات شبيهة بسلوك عمته سعاد وأخته جيداء العبثيّ" (ص 115). ولعلّه أدرك ذلك فعلًا عندما تفوّقت عليه فريدة وأصبحت امرأة نافذة وبات ترشيحها لنوبل للسلام أمرًا واقعًا، "أصبحت فريدة بالنسبة إلى عمران مثل ذاك المسدس الذي اشتراه عاصم ليدافع به عن نفسه، وبدلًا من ذلك قتل نفسه به" (ص117). وتخلّى عمران عن فأرة التجربة بعد أن أصبح نفوذ فريدة أمرًا واقعًا يتجاوز قدرته على تكذيبها، "كان كلّ شيء واضحًا، مثل بياض وسواد وحجم دب الباندا المهدد بالانقراض" (ص 169).

يلج الكاتب في السرد عندما يتعلّق الأمر بتحليل سيكولوجي لشخصية أو حدث فيما ترد بعض  الأحداث والتفاصيل المهمة في مقاطع صغيرة يتنقّل بينها برشاقة من حدث إلى آخر دون أن يُشعرَنا بشرخ ما، على العكس يتماهى القارئ مع ديناميكية حركة الكاتب وتنقّله بين الأحداث. فبين بيروت حيث تعيش كلودين والدكتور عزّام كلّ في بيت منفصل، وفرنسا حيث تعيش شادن وعائلتها الجديدة وإلى حيث انتقلت سارة التي أُغرِمت بابن شادن، ودمشق حيث تعيش عائلة التل، تدور أحداث هذه الرواية التي تزخر بالكثير من التطورات المتسارعة. وفي صفحة واحدة منها قد نجدنا في بيروت حينًا، وفي فرنسا حينًا، وفي دمشق أحيانًا.

يمتاز أسلوب حساوي بكونه حيوي وعميق في آنٍ معًا، على رغم ما يعتريه من بعض التشابيه والاستعارات غير الموفقة كأن يقول: "يمنح عينيها الخضراوين مهرجانًا بديعًا من الوقار" (ص 55) أو "حرّة مثل خرساء لم يسبق لها أن حددت مبادئها أمام أحد" (ص 98).   

*نشرتها جريدة "الحياة" اللندنية بتاريخ 10 كانون الأول / ديسمبر 2017

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم