منال عبد الأحد

اختار الكاتب والصحافي اللبناني جهاد بزي أن يلقي الضوء في روايته الثانية "المحجبة" (هاشيت أنطوان) على موضوع، يقبع أصلًا تحت المجهر، وهو ارتداء الفتاة للحجاب في سنّ مبكّرة، قبل أن يتشكّل لديها الوعي الكامل بما يعنيه ذلك، وتبعات هذا الأمر على عالميها الداخلي والخارجي.

لا بدّ، في البداية، من التوقّف عند عنوان الرواية إذ إنّه يلعب لا شكّ على وتر المتناقضات في المجتمع اللبناني الذي تدور في أوساطه أحداثها، والمنقسم على نفسه بشرخ طائفي بالغ، تصبح معه هذه التصنيفات أمرًا مسلَّمًا به، وتغدو عناوين مثل "المحجبة" عناوين جاذبة ومثيرة لاهتمام القارئ، على رغم كونها مباشرة جدًّا ولا تعبّر عن خصوصية لا شكّ ما من رواية إلا وتتمتّع بها، وإن بدرجات متفاوتة.

سلمى إذًا هي فتاة في السادسة والعشرين من العمر، ارتدت الحجاب وهي في الثانية عشرة، وتعيش الآن صراعًا معه لا يقلّ وطأة عن صراعها مع نفسها، حبيبها، عملها وبيروت. يضيقها أن تقضي وقتها تنتظر في حياتها المرتبة هذه.

الرواية هي نوع من المونولوغ الداخلي، بحيث تقضي سلمى وقتها وهي تراسل أناها التي في المستقبل وتكتب نوعًا من اليوميات العابقة بالبوح المسطّح والأحداث العادية التي لم تكفِ هنا لتشكّل عقدة متماسكة، فيبدو زمام الحبكة متفلّتًا ورخوًا، ولا يساعد استخدام الجنس غير الموظَّف في انتشال الرواية من التكرار الذي تغرق فيه.

هذا وبالعودة إلى المونولوغ نتوقّف عند ما قاله روبرت همفري، في كتابه "تيار الوعي في الرواية الحديثة"، فيعرِّفه بأنّه "ذلك التكنيك المستخدم في القصص بُغية تقديم المحتوى النفسي للشخصية، والعمليات النفسية لديها – من دون التكلّم بذلك على نحو كليّ أو جزئيّ - وذلك في اللحظة التي توجد فيها هذه العمليات في المستويات المختلفة للانضباط الواعي قبل أن تتشكّل للتعبير عنها بالكلام على نحو مقصود". وفي توصيفه الدقيق هذا للمونولوغ يلقي همفري الأضواء على التفكك الحاصل في الرواية المونولوغية – إن صحّ التعبير – التي بين أيدينا. فسلمى لا تقدِّم محتواها النفسي على ما تقصّه من أخبار حدثت وتحدث معها يوميًا، وهنا يتّخذ البوح الشكل السطحي – كما أسلفنا – بحيث لا تحاول البطلة أن تغوص في أعماقها من خلال مونولوغها المكتوب هذا ولا أن تدوِّن بوحًا بما يخالجها في قعر ذاتها، بقدر ما تقصّ على نفسها أفعالها الشنيعة، إلى غيرتها حتى من ريما - صديقتها الوحيدة - كون أحمد سيطلب يدها للزواج. لا يتّخذ البوح مهمة إخبارنا بطبيعة هذه المشاعر وكوامنها، فلا ندري لما يستخدم الكاتب المونولوغ على امتداد الرواية من دون أن يستغل هذا "التكنيك" للانغماس في أعماق الذات البشرية ورسم أبعاد سيكولوجية نفسية لشخصية البطلة. إذ ما كان قارئه ليجد من فارق في حال قام هو أو أيّ راوٍ آخر بقصّ ما يدور من أحداث. بمعنى آخر، لا يحتاج الكاتب إلى جعل سلمى "تبوح" بما سردته لأن ما قالته لا يرقى إلى مستوى البوح الحقيقي مع ما يكتنزه من أسرار تعرّي الذات البشرية، فكل ما قالته باستطاعة غيرها من الشخصيات – والتي تبدو هنا جميعها ثانوية في الرواية - قوله نتيجة معرفتها بها. فقصة معاشرتها رجلين في الفترة عينها، على سبيل المثال، لم تتحدث كثيرًا عنها وعن دوافعها النفسية واكتفت بأن هذا جسمها وهي حرّة فيه. والحق نقول هنا إن أناها التي في المستقبل كانت قد أسرّت لها بأن ما تفعله شنيع، أي أنّ الكاتب لم يتبنَّ نظرة بطلته للموضوع بالكامل، بل تركه مفتوحًا على احتمالات الآخرين، ونعني بهم هنا القراء.

وبعد سجال محيّر مع الذات، تخلع سلمى حجابها، إذ عيّرها حبيبها بأنّها محجبة. تخبرنا سلمى، فيما تقصّ على أناها التي في المستقبل، تبعات الموضوع لدى أخيها المتديّن وصراعه مع أبيها الملحد الذي انتفض فجأة وصدفةً بعد أن كان مستسلمًا لرغبة زوجته وابنه المعيل لهم منذ زمن. وهنا يستحضرنا قول كونديرا "وحدها الصدفة يمكن أن تكون ذات مغزى. فما يحدث بالضرورة، ما هو متوقع ويتكرر يوميًا يبقى شيئًا أبكمَ. وحدها الصدفة ناطقة". فيا ليت بزي ابتكر العديد من هذه الصدف.

هذا ولا يفسح الكاتب في المجال للتعرف إلى الشخصيات الأخرى بشكل واضح، فلكم رغبنا في التعرّف أكثر إلى إلهام (الأم المتديّنة) وعبد الكريم (الأب الملحد) وقمر وغاية المنى وجبران وريما وأحمد وميشو وحتى حسن، كلّها شخصيات تبدو كالأطياف حاضرة غائبة، لتوظّفها البطلة في قصّ يومياتها دون أن يكون لانفعالاتها حيّز في الرواية. هي تظهر فقط في مجريات الأحداث كما ترويها سلمى من دون أدنى اهتمام بما يخالجها أو يراودها.

نحار هنا إن كان المونولوغ المستمرّ هو ما خطف أنفاس الآخرين في الرواية وجعلها يوميات بحتة، أو هي الحبكة التي لم يُعقَد زمامها بالشكل الكافي ما جعل الرواية تبدو مفككة ومنتقصَة.

والمؤلم حقًّا هو أن الكاتب يخنق لغته الجميلة وانسيابيتها بمحاولة تحديثها وتطعيمها بالإنكليزية والمحكية اللتين جاءتا بغير موضعهما. وهنا نستذكر قول تولستوي "إذا وجد المضمون، انصاع الشكل" – وإن جاء في سياق آخر- لندرك أن الخلل الأساسي يكمن في النقص بالمضمون الذي حاول الكاتب على امتداد صفحات الرواية تعويضه بفيض الجنس والعبارات التي ذكرنا.

*نشرتها الحياة اللندنية بتاريخ 28 شباط/ فبراير 2018

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم