هيثم حسين

فتح الكاتب الصيني مو يان عوالم الريف الصيني على العالمية من خلال رواياته، وقد كان لولادته في أسرة تعمل في الزراعة وظروف طفولته القاسية الدور الكبير في التأثير على كتاباته، وعبر رواياته لم يصوّر الوجه الخفي من الريف فحسب، بل تمكّن كذلك من تقديم ما يشبه النقد للمجتمع والسلطة والعادات البالية، كل ذلك بهدوء وذكاء كما يظهر في روايته الشهيرة “الضفادع”.

يتناول مو يان؛ الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2012، في روايته “الضفادع” موضوع سياسة تنظيم الأسرة في الصين، أي سياسة الطفل الواحد التي ظلت سارية حتى العام 2015، لتستبدل في العام 2016، وتعوّضها سياسة الطفلين، ويغوص في بنية المجتمع الصيني ملتقطا التغيّرات التي أثرت فيه وبلورته طوال عقود.

يرسل الراوي تيتار الملقب بالشرغوف – ويعني الضفدع الصغير – رسالة إلى أستاذ الأدب، يخبره فيها أنه اقتنع بفكرته لتناول حياة العمة تيتار التي كانت تعمل طبيبة نسائية في الأرياف، والكتابة عنها، لأنها حياة ثرية تشتمل على تفاصيل كثيرة تكشف عن خبايا المجتمع الريفي في منطقتها، وذهنية الناس هناك، ناهيك عن كل ما يتعلق بالأسر الباحثة عن الإنجاب، أو تلك المتهربة من التصريح بالحمل أو الولادة، لأنه كانت هناك قوانين تحدّد النسل.

العمة البطلة

يركز مو يان في روايته، الصادرة عن منشورات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بترجمة ميراي يونس، على شخصية العمة من خلال منظار تيتار لها، ويستخدمها أداته لسبر أغوار المجتمع وكشف أسراره، للوقوف على مكامن العلل فيه، وكيف أنها ظلت مؤثرة بشكل عميق على نفسيات الشخصيات لاحقا، حيث رسمتها بصيغة مقموعة تبحث عن أي ملاذ أو انفراجة.

مو يان يسرد الكثير من الحكايات التي تظهر مختلف الجوانب من التاريخ الاجتماعي والسياسي للصين في القرن العشرين
مو يان يسرد الكثير من الحكايات التي تظهر مختلف الجوانب من التاريخ الاجتماعي والسياسي للصين في القرن العشرين

يحدد الراوي في رسالته الافتتاحية لمعمله أنه ينوي كتابة مسرحية يستلهمها من حياة العمّة الطبيبة، وأن هناك زميلا آخر له قرر أن يتناول حياتها في رواية، لذلك فإنه ينوي في ما يتعلق به، أن يؤلف مسرحية تُستمدّ مادتها من حياتها، ويبين له بأنه ينوي كتابة مسرحيات توازي ببراعتها مسرحيات عالمية، لينطلق بجرأة في هذا المجال، ويغدو كاتبا مسرحيا كبيرا.

يؤكد الراوي لأستاذه أنه سيتّبع نصائحه، وأنه لن يتسرع، وسيخطو ببطء، متحليا بصبر الضفدع الجالس بلا حراك على ورقة اللوتس في انتظار حشرة، وأنه عندما تنضج الفكرة، سيتناول الريشة، بسرعة هذا الضفدع نفسه وهو يهمّ بالتقاط فريسته. ثم يقوم بالتذكير بعرف قديم عندهم في المنطقة، حيث يلقب الأطفال عند ولادتهم باسم عضو أو جزء من الجسم البشري، وكان يمكن أن يسمى أحدهم مثلا شين الأنف، زاو العين، وو المعي الغليظ، صن الكتف، ولا يدري من أين أتت تلك العادة التي لم يبحث في أصلها ومرجعها. ويشير إلى أنها لا بدّ كانت تتعلق باعتقاد باطني فحواه أن مَن يحمل اسما متواضعا يعيش طويلا، ويلفت إلى أن سببها تطوّر عقلية الأمهات ليعتبرن أولادهن فلذات منهن.

ينوّه إلى اختلاف ذهنية الأجيال، وكيف أن هناك عادات اندثرت، وظهرت عادات أخرى مواكبة لتطور العصر الحديث، وأن عادة تلك الأسماء الغريبة ما عادت تطبق في الوقت الحاضر، وأن الآباء الجدد لا يريدون أن تحمل ذريتهم أسماء غريبة إلى هذا الحد، وأن أسماء معظم الأولاد عندهم أصبحت ظريفة ومبتكرة، من أسماء المسلسلات الأجنبية، وأن أولئك الذين كانوا يحملون اسم عضو أو جزء من الجسم، فجميعهم تقريبا أبدلوه بآخر أكثر أناقة، لكن بعضهم أبقى على اسمه الأصلي.

يعود الراوي كذلك إلى سنوات الحرب ضد الاحتلال الياباني، وبطولات جده الطبيب الذي قضى فيها، ومن ثم كيف أن العمة واصلت مسيرته الطبية، حيث ذهبت سنة 1953 إلى مركز المقاطعة لتتعلم أساليب التوليد الجديدة، وأصبحت قابلة قانونية في القضاء، وكان القرويون حينها لا يزالون يعارضون بقوة أساليب التوليد الجديدة تلك، وأتى رفضهم نتيجة للشائعات التي أطلقتها سرا القابلات العجائز بحسب قولهن، أن جميع الأطفال المولودين سيصابون بمرض الهواء، وكان ذلك انطلاقا من دفاعهن عن لقمة عيشهن، وأن تعميم الأساليب الجديدة سيحرمهن منها.

تذكر العمة أن القابلات العجائز لم يكن يملكن أية معارف عن بنية الجسم، ولا يفقهن شيئا عن فيزيولوجية المرأة، وأنه حين تواجه القابلة حالة مستعصية، تولج يدها في القناة التناسلية وتسحب بشدة حتى الرحم مع المولود. ويسرّ الراوي أنه ظل لفترة طويلة مقتنعا أنه لو طلب منه أن يختار مجموعة أشخاص كريهين يستحقون الإعدام لأجاب من دون تردد: القابلات العجائز، وذلك انطلاقا من مبالغات عمته، وأنه كانت هناك قابلات أدّين خدمات جليلة للنساء في تلك المرحلة والمراحل التي سبقتها.

محطات مفصلية

العمة التي تحدت كل شيء
العمة التي تحدت كل شيء

يحكي مو يان الكثير من الحكايات التي تظهر مختلف الجوانب من التاريخ الاجتماعي والسياسي للصين في القرن العشرين، وكيف رسمت ملامح البشر من خلال تلك الحكايات والمفارقات التي كانت تشكل هوياتهم المستقبلية، وتحدد لهم دروبهم الحياتية، ومصائرهم بمعنى من المعاني.

يشير إلى أن البلاد شهدت في المرحلة الممتدة من 1953 إلى 1957 ارتفاع نسبة المواليد، وكانت حقبة ازدهار اقتصادي، وفي ناحيتهم أتى الطقس مواتيا للحصاد، وكانت الغلال وافرة لأعوام متتالية، أكل الناس حتى الشبع، وارتدوا الملابس الدافئة، وعمّ بينهم السرور، وحبلت النسوة وأنجبن ما استطعن، وأما العمة فأنهكت نفسها في العمل، وحفرت آثار عجلات دراجتها في كل طريق وزقاق من القرى الثماني عشرة التابعة لمقاطعة دونغبي، كمثل آثار دعساتها في معظم أفنية مساكنها.

الرواية تسبر بشكل غير مباشر أغوار المجتمع الصيني وتكشف أسراره، متوقفة على مكامن العلل المؤثرة فيه
الرواية تسبر بشكل غير مباشر أغوار المجتمع الصيني وتكشف أسراره، متوقفة على مكامن العلل المؤثرة فيه

ثم ينتقل إلى وصف سنة 1961 وما بعدها، وأنه لم يولد طفل طوال العامين التاليين في المنطقة التي تعمل فيها العمة، وكانت المجاعة هي السبب، وما عادت النساء يحضن، وبات الرجال في حكم المخصيين، ولم يشغّل القسم الخاص بأمراض النساء في المركز الطبي في المنطقة سوى العمة وطبيبة اسمها هوانغ، كانت غريبة الأطوار، ومعاقبة بالعمل هناك.

يحلل نفسية العمة التي لم يكن يتجرأ أحد على التقدم لخطبتها في تلك الفترة، وحكايتها مع الطيار، وأنها حين بلغت مرحلة الشيخوخة، كانت تستذكر أيامها الخوالي التي كانت تسميها عصر الصين الذهبي، وعصرها كذلك. يصفها وهي تصرح لنفسها بسرور وتستسلم لأحلام اليقظة العذبة وقالت وعيناها تلمعان، إنها في تلك الحقبة اعتبرت إنسانا كاملا، كانت إلهة الخصب التي تجلب الصبيان، انبعث من جسدها أريج الزهر، ورافقتها أسراب النحل، وأطياف الفراشات.. وحين تصل إلى الحديث عن الواقع تبوح بأسى أن ما يؤلمها اليوم هو الذباب الفاجر.

يستعيد مو يان عبر راويه؛ الشرغوف الذي يعيش دور الكاتب، والعمة التي تكون مسباره لاكتشاف الأسرار والخبايا، حقبة ما قبل الثورة الثقافية في الصين، تلك التي عرفت بالتعديلية، حين اتهمت الصين الاتحاد السوفييتي بالتعديلية، وهي حركة ماركسية تؤيد التطور، ولم يكن أطفال القرية النائية يعرفون أن العلاقات الصينية السوفييتية تتدهور، وأن الثورة الثقافية على وشك الانفجار.

يلتقط الروائي محطات مفصلية من تاريخ بلاده، ويتخذها عتبات للولوج إلى عوالمه الحكائية، بطريقة فنية لافتة، وغير مباشرة، ومن دون التورط في مواجهة مباشرة مع السلطات، بحيث يمرر المراد من دون إثارة حفيظة أحد، باعتباره يسترجع التاريخ القريب ويجعله أداته لفهم المتغيرات التي طالت مختلف جوانب، وشرائح وطبقات المجتمع الصيني الذي تمكن من بناء دولة تعدّ اليوم من بين أبرز الدول العظمى في العالم.

عن صحيفة العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم