هيثم حسين

يحكي الأرجنتيني فيديريكو جانمير في روايته “أخف من الهواء” عن شاب في الرابعة عشرة من عمره يسطو على امرأة مسنة في الثالثة والتسعين. وقبل أن يتمكن الشاب من إتمام مهمته يتم سجنه في الحمام. ويترتب عليه أن يسمع قصة حياة تقترب من نهايتها. تحدثه العجوز وعليه أن يستمع لها بعد أن أقدم على محاولة سطوه الفاشلة.

من خلال طرح فلسفي يتناول جانمير في روايته، فكرتي الحياة والموت، ولعبة الزمن التي يرويها على لسان المرأة العجوز التي يفيض بها الحزن والوحشة لتضع حدا لحياتها بطريقة غريبة مثيرة.

القوة والضعف

يقلب الروائي مفهومي القوة والضعف، فالبطلة التي يفترض بها أنها عجوز ضعيفة تستلم زمام الأمور وتحتجز الفتى الذي يفترض أنه قوي ويظن أن بمقدوره التنكيل بها وسرقتها ببساطة، ويبدأ بالسرد على لسانها والتعبير عن فلسفة الحياة والموت، ولغز الوجود نفسه.

تترجى بطلة الرواية الشاب الذي يحاول سرقتها وتهديدها بالقتل أن يجلس فوق غطاء المرحاض، وتطلب منه ألا يحسب بأنها تجبره، بل تقول إنها تظن بأنه سيرتاح فوقه أكثر، وإنها ستجلب مقعدا وتضعه بجوار الباب، وستقص عليه أمرا ما، وتطلب منه ألا يزمجر، لأنه لن يكسب شيئا، تؤكد أن هناك حكاية ستقصها عليه، وترغب بشدة في البوح بها.

“أخف من الهواء” حصلت سابقا على جائزة كلارين للرواية عام 2009
“أخف من الهواء” حصلت سابقا على جائزة كلارين للرواية عام 2009

تطلب منه أن يتأدب ويصمت ويهدأ، وأن يتوقف عن الضرب على الباب كأبله، وأن ينصت بهدوء، ولن يضيره الإنصات، بل سيكون أفضل له، وأنها تعرف ما تقول، وأن الكبار هم نبع المعرفة. وتلفت إلى أن العمر يمرّ سريعا، وأن أي امرأة بمجرد أن تدرك أنها حية تجد فجأة أن ساعتها قد حانت.

تخبره أنها ستقص عليه حكاية بخصوص أمها ديليا، والتي تسميها دليتا، ويعجبها أنه بدأ ينصت إليها، وأنه يفهم، ويتركها تروي، وتشير إليه أنه ما زال شابا، وأنها متأكدة من أنه يعتقد أن الحياة أمامه بطولها وعرضها، بل امتداد لزمنها، وتلفت إلى أن هذه كذبة كبيرة مثلها مثل الزمن. وتخبره كذلك بحقيقة أنها وحيدة للغاية، وحيدة طوال أيام حياتها، لكنها تعتقد أن القصة يجب أن تهمّ الشاب الذي تحتجزه، وتخاطبه بأنه لا يزال يظن أن حياته كلها لا تزال أمامه، وأن هناك أمورا كثيرة قد يفعلها، وأن لديه مستقبلا ومصيرا، وترجو منه أن يدرك بأن كل ما لديه هو العدم ولا شيء سواه.

وتطلب منه أيضا أن يأخذ الأمور بصبر ويتقبل واقع أنها تحبسه في دورة المياه وتجبره على الإصغاء، وأن عليه أن يتقبل الأمر ويأخذه بصبر، لأن الصبر هو رأس كل الفضائل، وتتساءل عن فائدة القلق والإحباط، وضرورة تحاشيهما بشتى السبل.

كما تسأله أن يهدأ، ويستعيد رشده، وألا يتوهم، حتى وإن صرخ أو ضرب الباب بأقصى ما لديه، فلن يسمعه سواها، وتؤكد له أنه في الطابق الأخير، ولا أحد يعيش في الأسفل منذ سنوات طويلة. وتقول له إنه لا طائل من الصراخ وضرب الباب وكأنه إنسان الغاب، وتشير إلى أنها لم تكن تتحدث عن هذا النوع من الضعف، لأن أي شخص يعرف أن الرجل أقوى من المرأة جسديا، وأن البهيمية التي أظهرها ليس لها أيّ فائدة سوى التعبير الكامل عن ضعفه أمامها.

وتنوه إلى أنّها تتحكم بالقصة، وأن هذا هو نوع الضعف الذي كانت تتحدث عنه، ضعف الشخصية، أو العجز المطلق الذي يبديه الذكور كلما اضطروا إلى مواجهة العالم، بصفة عامة أو أي امرأة بصفة خاصة. تتذكر أن المرأة لم تكن سوى مجرد حيوان منزلي مستأنس، ثقيل الظل لكنه ضروري من أجل تكاثر الفصيلة أو الحفاظ على ثروات الأقارب أو إرضاء أحط الرغبات الذكورية، أو ربما ضروري لشيء آخر لا تتذكره. وتتحدث عن تبدل الأزمنة والبشر فيها.

الهوس بالحكايات

فيديريكو جانمير قلب مفهومي القوة والضعف، فالبطلة العجوز الضعيفة تستلم زمام الأمور وتحتجز الفتى الذي يفترض أنه قوي
فيديريكو جانمير قلب مفهومي القوة والضعف، فالبطلة العجوز الضعيفة تستلم زمام الأمور وتحتجز الفتى الذي يفترض أنه قوي

تتحدى البطلة العجوز الفتى الطائش بالقول إنها إذا كانت قد اضطرت إلى خداعه وإخباره بأنها تحتفظ بكل أموالها في خزانة الحمام الصغير الملتصق بالمطبخ، فهذا بكل بساطة أنها رفضت التخلي له عما لديها من مال، وتسأله باستنكار لماذا عليها أن تعطيه مالها، هل لأنه كان قادرا على قتلها بالسكين الذي يحمله، أو بأيّ من ذاك الذي كان ينوي قتلها به.

تحمّله الذنب، وأنه ارتكب أخطاء كثيرة وحماقة واحدة أساسية، وهي الاعتقاد بأن حياة أيِّ إنسان لها قيمة أكبر، أهو في عمر الثالثة والتسعين مثلها، أم وهو في الخامسة عشرة أو السادسة عشرة مثله، أو أقل؟

وتشير إلى أن الحياة لم تعد لها قيمة بالنسبة إليها. ولا فرق عندها إن هي ماتت بطعنة سكين في ظهرها أو بعد زمن لا تعرفه. وتصارحه بنوع من التشفي أنه لم يتمكن من قتلها أو سرقتها، وانتهى الحال أنها سرقت منه وقته.

تعرف نفسها أنها ليست عجوزا قذرة، وأنه مخطئ بتقديره وحكمه، وأنها مجرد امرأة كبيرة في السن ووحيدة، فجأة هجم عليها مجرم في الشارع، وداخل ظروف بائسة تمكنت من الدفاع عن نفسها قدر استطاعتها. وتبقيه داخل محبسه، لتمارس بعض طقوسها اليومية المعتادة وتستريح قليلا ثم تعود لاحقا.

تحكي عن رغبة أمها القاتلة في الطيران، تلك الخطيئة التي دفعتها إلى أحضان رجل ليعلمها قيادة الطائرة، وبعد أن حصل منها على ما أراده، قالت له أمها إن رغبة المرأة أخف من الهواء، وتشير إلى أن أمها لم تكن تعرف أن ما بدر عن الرجل كان إيماءة جديدة أو أن وجهه لم يتغير، وتشك أنها لم تكن لتهتم بأي من الخيارين.

يلفت الروائي إلى أن الهوس بالحكايات هو ما يقود بطلته العجوز، ويفرض عليها إبقاء المعتدي عليها مسجونا، والتحدث معه وعنه في الوقت نفسه، وهو الحاضر الغائب، لا يملك من أمره شيئا، ولا يقوى على المعارضة أو الرفض، ولا حتى على عدم الاستماع.

تقول إن هناك غاية ما من وجود الخيال، وإن الحدس الأنثوي مثير للغرابة ومؤثر، وأن الحكاية أحد أشكال الحقيقة، وتخبره إن كان يظن بأنها لو تركته يحكي لها عن معاناته من الجوع، أو مدى قسوة والديه، أو المشقة التي ينظمون بها حياتهم ونومهم وهم ثلاثة عشر شخصا في الأسرة في مكان صغير بائس، سيكون ما يقوله حقيقيا.. تؤكد له أنه لن يكون كذلك، وأنه سيملأ الفراغات أيضا قدر استطاعته بخياله، أو أنه سيفعلها من دون أن يدري أنه يملأ ما يملؤه.

تصارحه أنها تنسى أنه يعجز عن سماعها، وأنها تتحدث في النهاية وحدها كمجنونة، وتستدرك أنها ستخبره بالحقيقة، وأنها دوما كانت تتحدث وحدها، تفكر بصوت مرتفع جدا، وأنها وحيدة طوال حياتها، حتى حينما كانت تعيش مع خالتها. تسر له أن الوحدة مؤلمة، وأن ألمها مختلف عن الألم المعتاد.

يكون مشهد النهاية قاسيا، تستحوذ عليها فكرة الموت، والقضاء عليه معها بالغاز، وتسرّ له كذلك أنها تظن أن الفكرة الوحيدة التي هيمنت على رأسها منذ بدأت تدرك فكرة الموت، الفكرة الوحيدة، الموت مرة واحدة وإلى الأبد، لكنها تظن أن الموت لا يمكن اعتباره تحت أي ظرف حلما، وأنها لم تتمكن حتى من الموت، ولم تحظ حتى بالحظ الكافي لتحقيق المسألة.

ونذكر أن رواية “أخف من الهواء” لفيديريكو جانمير حصلت سابقا على جائزة كلارين للرواية عام 2009، بينما صدرت في نسختها العربية عن منشورات دار مسعى – كندا، بترجمة محمد الفولي.

عن العرب اللندنية

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم