ضياء الدين عثمان

كل عام وأنتم بخير، و دعواتنا بأتم الشفاء لروائينا الكبير الأستاذ ابراهيم إسحق. من النادر أن أجد دراسة أو نقدا  لروايته الجميلة: فضيحة آل نورين، ولأن الرواية تدور حول أيام عيد الأضحى في كافا التي يعود إليها بطل الرواية الشاب المراهق عثمان عمر لقضاء العيد مع أسرته، رأيت أن أعود لأن رأها للمرة الثانية، ووجدت ذات المتعة الباهية.

يعود عثمان ليجد فضيحة تطير ارتداداتها في أنحاء القرية. الفضيحة تخص أحد أفراد شلة أصدقاء عمر من البدو الساكنين على سفح جبل مطل على القرية، و الفضيحة هي التي تتسبب في هجرة البدو من القرية، وفي هجرة صديقه طاهرين شبه منفي نحو مكان أبعد. يحتار عثمان، ويبدأ في فك طلاسم الفضيحة و التي تترامي شباكها عند أطراف عديدة. هنا تكمن روعة الرواية، فعلى بساطة  الحبكة يشرع ابراهيم اسحق في رسم صورة مزركشة و بهية و فاحصة لجميع ألوان سودانوية الحياة في (قرية الدكة) القابعة في (مقاطعة كافا) /المكان الروائي المتخيل الذي اخترعه ابراهيم إسحق، المكان المخترع بالكامل في تجربة روائية جغرافية ضخمة مليئة بأجيال من الشخصيلت فيما يشبه (بلدة جيفرسون) التي اخترعها الروائي الأمريكي العتيد وليام فوكنر في (مقاطعة يوكنا باتاوفا) التي يعرف الروائي أركانه ركنا ركنا و شخصياتها جيلا جيلا، مع أنها خيال في خيال مبني على واقع ولايات الجنوب الأمريكي، و لا ننسى (قرية دومة ود حامد) التي اخترعها روائينا الكبير الطيب صالح لتكونا مسرخا لأجيال من شخصياته الروائية .

يرسم الروائي ابراهيم اسحق بحس ديني صوفي صورا للاحتفالات الشعبية و روابط القربى المتينة بين أفراد الدكة، و التعالقات الاجتماعية الحميمة بين نسائها و رجالها، وأوزان القوى الاجتماعية وأساليب اتخاذ القرار الأهلية والعشائرية.
يأتي كل ذلك مفعما بوصف ماتع للحياة البيئية و الإيكولوجية والجغرافية للمحيط الطبيعي للدكة، و يأتي السرد مندغما في الحكي الشفوي وسيرورة القص و ذلك في تبادل حميم لخيوط السرد بين البطل و بين المحيطين و المتلصصين على الفضيحة.

الرواية المتقنة تستخدم اللهجة المحلية في محاولة لنقل صدق الإحساس و صدق التعابير الصوتية، و ذلك في محاولة من الكاتب لنقل الصورة الفنية لأحداث القرية من غياهب النسيان لبقعة ضوء السرد في أسلوب  ما بعد حداثوي تنتقل فيه أزمان السرد، وتتبادل في السرد شخصيات ثانوية، و تتم فيه الإشارة إلى خلفيات غامضة بعيدة لا يكتنه سرها. و يظهر التناص في متن الرواية في مشهد بديع يقرأ فيه البطل نصوصا صوفية مركبة فاخرة مستلة من كتاب مشهور أمام رهط من أهل الدكة الغيورين  على دينهم، فيما يقوم الفكي البصير المتنور يشرح المحتوى بلغة دارجية بسيطة مشعة عذبة تنزل على فهومهم البسيطة مشروحة مؤيدة بالأمثلة و البراهين المحلية.

في هذه الرواية لا تسير الأحداث مع خط الزمن الكرونولوجي إلا على مستوى الأطار العام والقشرة السطحية، إلا أن الأحداث الأكثر أهمية تأتي من الخلفيات، وتأتي من الحبكات الثانوية البسيطة، والشخصيات تتخذ قرارتها بناءا على خبراتها المكتسبة من ماضيها ومن خبرتها في الحياة و من التعايش البيني و من رؤية الذات للحياة. رغم أن الكلام المثقف قد يبدو متشابها و على درجة من التعقيد عالية قد لا تتناسب من المستوى التعليمي لبعض الشخصيات القروية البسيطة، إلا أن الروائي كأنه يطالب القارئ بالتساهل في هذا، وذلك في سبيل الاندماج مع التجربة الروائية القرائية.

هذا هو أسلوب ابراهيم اسحق المعتاد، بمعنى أنه سرد مليئ بالتركيب و الرؤى، يتوزع على أبطال قرويين يكابدون مشاق الحياة، و يملكون رؤية شاملة لمعاني الأخلاق البين-ذاتية و الأخلاق المشتركة و مدى تأثيرها على أنماط التعايش السلمي بين جميع المكونات الإثنية المتعايشة و المتضامنة.
المراهق عثمان عمر لا ينفك يسائل بينه وبين نفسه : ما هو دور المثقف تجاه الريف.

يسأله من حوله عن المدينة و يتذكر عنتريات شلته السرية فوق الأشجار مستأسدين على وفود الرحلات الشبابية الاستجمامية، وفي نفس الوقت تتشاهق أمامه معضلة الأخلاق الشخصية مقابل الأخلاق العامة. يبدو عثمان مقبولا لمن حوله وهو يستقصي حول فضيحة آل نورين، فيما هم يتشككون حول ما إذا كان قد تغير بسبب مكوثه بالمدينة.
ابراهيم اسحق  في نصه يسرد وكأن القارئ يعرف عالمه وشخوصه، و هذا الأسلوب حيلة ماكرة؛ إذ أن القارئ سيجد نفسه مستدرجا لحل أحجية الأسماء و العلاقات و الأزمان و الأمكنة و دوافع الشخصيات. بقدر ما تبدو المهمة صعبة؛ إلا أنها أيضا لذيذة للقارئ الصبور، إذ أنه كلما اكتشف علاقة فيزالنص وجد نفسه متعاطفا معها بسبب طول البحث ورائها. و هذه حيلة سردية ماكرة!
و لا يكتفي النص ما بعد الحداثي بذلك و حسب، بل يمارس لعبة الغموض باتقان في ربع الرواية الأخير و هو ينسج لحظة انفجار بطل الرواية بين شلته تحت ظلال القمر فوق الرمال. يجد القارئ نفسه واعيا بجميع الشخصيات في المشهد إلا واحدا تركه ابراهيم اسحق حتى نهاية النص مجهولا فلا ينساه القارئ حتى نهاية الرواية، و لعله يتوقعه سيظهر في نص روائي أو قصصي قادم.
تنتهي الرواية بنهاية مغلقة في الظاهر ومغلفة بالحنين والتساؤل كما هو الحال لأي مثقف تواجهه معضلة الريف و الحضر.
يا لها من رواية!

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم