هيثم حسين

تستعيد الكورية الجنوبية هان كانغ في روايتها "الكتاب الأبيض" ذكرى أختها الكبرى التي ماتت بعد ساعتين فقط من ولادتها، وظلت جرحاً دائماً في قلب والديها اللذين لم يتمكّنا من نسيانها أبداً، على الرغم من إنجابهما طفلين آخرين بعدها، عاشا وكبرا في كنفهما، وتوارثا الحزن القار في نفس والديهما على الطفلة الميتة.  

تركز كانغ التي فازت بجائزة المان بوكر الأجنبية عن روايتها "النباتية" سنة 2016، في روايتها (منشورات التنوير، ترجمة محمد نجيب، القاهرة 2019)، البياض تمنحه دور البطولة، تستعين به للبوح والاعتراف، يكون أداتها لمواجهة العالم، للتصدي للحزن، للانسياق وراء تداعياته وتأثيراته المديدة عبر الزمن، وكيف أن الأبيض لون يحتمل ألوان الحياة ومحطاتها المتناقضة كلها، ويمكن أن يشتمل على النقائض ويعبر عنها معاً، لون سحري عجائبيّ مدهش.

من القماط إلى الكفن

تقول كانغ في روايتها التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية لعام 2018، إنها عندما قررت في الربيع الكتابة عن الأشياء البيضاء، أول شيء فعلته، هو كتابة قائمة تضم أموراً عديدة، وأثار عنصر منها فيضاً من المشاعر في داخلها، وشعرت بحاجتها لكتابة كتابها، وبأن عملية كتابته لا بد أن تكون بمثابة تحول جذري، عملية ستحول الكلمات إلى شيء يشبه مرهماً أبيض تدهن به تورماً، أو ضمادة تضعها على جرح، شيء كانت بحاجة ماسة إليه.

تتحدث بصيغة الأنا عن نفسها، ثم عن الأخرى الحاضرة معها، "هي" التي ترسم مسار حياتها بصيغة ما، وتراها تضع بين فصل وآخر بعض الصور المعبرة عن الحالة النفسية التي تعيشها في الفصل، بحيث تؤدي تلك الصور رسالة كاشفة عما يجول في خاطرها، وكأنها مرسالها الشخصي الذي يسعفها بالموازاة مع الكلمات التي تدور في فلك الحالات الشعورية التي تعيشها، وهي أغلبها حزن وأسى وقهر.

وتلفت إلى أنها بعد أيام، وبينما كانت تقرأ لائحتها من جديد، سألت نفسها عن المغزى من وراء تلك المهمة، ومن ذلك التأمل العميق في لب الكلمات التي وضعتها، وما إن كان بإمكانها السماح لنفسها بالاختباء بين تلك العبارات، وهل سيخفيها شاش أبيض عن الأنظار. 

تعترف أنه من حين لآخر يبدو لها مرور الوقت محسوساً بشدة، وهي التي تعاني من صداع نصفي يؤرقها بين حين وآخر، وتشعر أن الألم الجسدي يضاعف من حدة إدراك المرء دائماً.بين القماط والكفن تدور المأساة، تستهل بالحديث عن القماط، وكيف أنه كان أبيض كالثلج، تحيط به الممرضة جسم الطفلة برفق وعناية، وكانت المرأة الشاحبة بسبب النزيف أثناء الولادة، تنظر إلى الطفلة الباكية، تمسك بجسمها الملفوف بالقماط بين ذراعيها بارتباك، وفجأة توقفت الطفلة عن البكاء من تلقاء نفسها، وخيم صمت ممزوج برائحة الدم على المكان، وكان كل ما يفصل بين الجسدين هو القماط الأبيض. 

تذكر أن والديها أخبراها أن أول طفل أنجبته أمها مات بعد أقل من ساعتين من ولادته، وأخبراها أنها كانت فتاة لها وجه أبيض مشرق ككعكة أرز على شكل هلال. وقالت لها أمها إنها لا تستطيع أن تنسى اللحظة التي فتحت فيها عينيها السوداوين وحركتهما باتجاه وجهها. تشير إلى أن أحدهم سألها في وقت سابق ما إذا كانت قد مرت بتجربة محددة في صغرها، قربتها من فهم طبيعة الحزن، وأنها عندما طرح عليها السؤال، كان موت أختها هو ما خطر في ذهنها، وكانت قصة قد كبرت معها. 

تسأل عن الأسباب التي تجعل الذكريات القديمة تطفو دائماً إلى السطح في المدينة التي تصفها بالغريبة، وأنها أحيانا تشعر بأن جسدها أشبه بسجن، أو بجزيرة صلبة ومتحركة تشق طريقها وسط زحام موحش، وتشعر به كحجرة مغلقة، تحمل بين طياتها كل ذكريات حياتها التي عاشتها، واللغة الأم التي لا تنفصل عن تلك الذكريات. 

وتشير إلى أنه كلما زادت عزلتها جموحاً زادت الذكريات التي تحاول نسيانها وضوحاً، وزاد وزنها ثقلاً، وهكذا اكتشفت أن المكان الذي فرت إليه ليس مدينة على الجانب الآخر من العالم كما ظنت، وتمنت، بل إنه مكان يجبرها على النظر أكثر في داخلها الذي تحاول تجنبه. 

أرواح هائمة

تتحدث الروائية عن أشياء معينة تظهر بيضاء في الظلام، وأنه عندما يتداخل أقل قدر من النور في الظلام، تظهر الأشياء كبريق أبيض محاط بهالة ضبابية، وأنها كل ليلة تجهز سرير الأريكة في زاوية حجرة المعيشة استعداداً للنوم ثم تستلقي عليه في قلب ذاك النور الشاحب، وتستحوذ المدينة على تفكيرها، وتتخيل الشخص الذي يشبه المدينة، مفكرة في الظل المنعكس عن وجهه وتنتظر أن تتجمع ملامح ذاك الوجه في ذهنها، كي تستطيع قراءة التعبير الذي يحمله. 

تستذكر صوتاً يتردد صداه في خيالها، صوت يكرر: لا تموتي من أجل الرب، لا تموتي. وتحكي أن هنالك لحظات تكون فيها مستلقية في حجرة مظلمة ويكون للبرودة في الجو وجود ملموس، تسمع الصوت المبهم المصدر، وتلتفت باتجاهه، فيملؤها مزيج من حب وألم، وتلتفت باتجاه غشاوة باهتة وحرارة جسد، وأنها ربما تفتح عينيها في الظلام كما فعلت، وتحدق في الفراغ. 

تفكر في أختها الميتة التي لم ترها، تفكر فيها وقد عاشت لتشرب من حليب أمها، وتفكر فيها وهي تكبر يوماً بعد يوم حتى تصبح امرأة، تجتاز كل أزمة تواجهها في الحياة، وتفكر في الموت يجر أذيال الهزيمة في كل مرة تعطيه ظهرها بينما تواصل المضي بثبات إلى الأمام، وتسمع صوت أمها يتردد، يناجيها ألا تموت، وتعيش بسبب تلك الكلمات التي تحيطها وتحميها، كتميمة على جسدها، وتفكر فيها تأتي إلى المدينة بدلاً منها، المدينة التي تصفها بأن موتها وحياتها يشبهان موت أختها وحياتها. 

تؤكد أنها ستمنح أختها أشياء بيضاء، وأنه على الرغم من أن ما هو أبيض قد يدنس، إلى أنها ستمنحها الأشياء البيضاء، ولن تتساءل بعد الآن إن كان عليها منحها هذه الحياة، وتؤكد أن القدر لا ينظر إلى حياة أي إنسان بعين التحيز أو المحاباة. 

تتساءل إن كانت اللقاءات المفاجئة مع الأشياء البسيطة جداً لا تفشل في إثارة مشاعرها بسبب كل ذلك البياض الذي لا يكف عن الحركة بداخلها، ذاك الذي لا تشوبه شائبة، الطاهر غير المدنس، كما تتساءل عن قدرة الطيور البيضاء على إثارة مشاعرها بطريقة لا تفعلها رؤية أية طيور أخرى، وتقول إنها لا تعرف السبب، ولا حتى تعرف لماذا تبدو تلك الطيور رحيمة، وحتى طاهرة أحياناً. 

تتخيل لو أن الحياة لم تكن تمتد في خط مستقيم حقاً، ربما تدرك عند نقطة من حياتها أنها سارت في مسارٍ منحنٍ، مما سيجعلها تصل إلى حقيقة أنها لن تلمح أي شيء من ذلك الماضي لو توقفت وألقت نظرة سريعة من فوق كتفها، وتتخيل لو أن الأرواح كانت كائنات فعلاً، فستكون حركتها المعادل غير المرئي للتحليق المضطرب للفراشة البيضاء.

تتحدث عن إجهاض والدتها مرتين، وأنه لو تخطت تلك الأرواح المرحلة الحرجة بأمان، ربما لم تكن لتولد بعد ذلك بثلاث سنين، ويولد أخوها بعد ذلك بأربع سنين، ولم تكن أمها لتعيش مع تلك الذكريات المرعبة بداخلها، الذكريات التي تحاول أن تمرر أصابعها بحذر شديد فوق حوافها الحادة خشية أن تنفجر في أية لحظة. 

تتأسف بأن الحياة أرادت أن تعيش واحدة منهما فقط، وأنه لو تمكنت أختها من العيش بعد تلك الساعات القلقة الأولى، لم تكن هي موجودة الآن، وأن حياتها كانت تعني استحالة حياة أختها، وبحرقة تقول إنه فقط في الفراغ بين الظلام والنور، في فجوة مخضبة بالأزرق، يمكنهما أن تتخيلا وجوه بعضهما البعض.

المدن

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم