هيثم حسين

في مزيج روائي محبوك بدقة، تمزج رواية “لاوروس”، بين ما هو علمي في الطب وبين الخرافات والظواهر الخارقة، حيث ترسم تفاصيل عالم مليء بمرض الطاعون، ومع ذلك يولد فيه الحب، لذا فهي تعيد إلى أذهاننا بطريقة أو بأخرى ما يحدث في العالم اليوم مع انتشار فايروس كورونا المستجد.

 يصور الكاتب الروسي يفغيني فودولازكين في أحداث روايته “لاوروس” فترة اكتشاف كولومبوس لأميركا عام 1492، وهي في الوقت نفسه قصة شاب أضاع حبيبته وحاول أن يرتحل بعيداً عن مكانه ليحاول أن يعيش هاربا من ذكرياته معها، باحثاً عن نوع من الطمأنينة التي فقدها بفقدانها.

يقسم فودولازكين، المولود في العاصمة الأوكرانية في 21 فبراير 1964، روايته، الصادرة عن منشورات دار المدى، ترجمة تحسين رزاق عزيز في بغداد، إلى أربعة أقسام، يسميها كتبا، وهي: كتاب المعرفة، كتاب الجحود، كتاب الدرب، كتاب الطمأنينة، ويحكي فيها رحلة الطبيب أرسيني من قريته الصغيرة في الريف الروسي إلى أوروبا، وتعرفه إلى جغرافيات عديدة، وثقافات مختلفة أثرت شخصيته وخبرته وحياته.

عالم جديد

يصف فودولازكين في روايته -التي فازت بجائزة الكتاب الكبير الروسية عام 2013، وهي أكبر جائزة أدبية في روسيا- كيف كان انتشار الوباء مرعباً، وكان الانتقال من نقطة لأخرى معقداً للغاية، وكان الناس يفتقرون إلى الطرق، ولم يمنع عدم وجود الطرق انتشار وباء الطاعون الذي كان يستولي على القرى، مثل جيش العدو، الواحدة تلو الأخرى، ويفتك بالناس من دون رحمة في المناطق التي يحتلها، ويشير إلى أن الجميع بقوا في أماكنهم، لأنه لم يكن ثمة مكان للهروب إليه من الوباء.

رحلة اكتشاف تاريخية
تفاصيل عالم مليء بمرض الطاعون

يثير الروائيّ أسئلة يسقطها على التاريخ القريب والراهن سواء بسواء، عن انتشار الوباء في روسيا، في الوقت الذي كان يتم فيه اكتشاف قارة جديدة، حيث نهاية العالم المتوقعة حينها في روسيا، وبداية جديدة في مكان بعيد. ويسأل على لسان أحد شخوصه الذي يصل إلى فلورنسا في الوقت الذي كان فيه كريستوف كولومبوس يكتشف أميركا، إلى أي مدى كانت الحادثتان مرتبطتين معاً، وإذا كانتا مرتبطتين فكيف؟ وألا يمكن التخمين بأن اكتشاف القارة الجديدة بداية لنهاية للعالم ممدودة في الوقت؟

يتحدث فودولازكين أن لاوروس هو المخلص، ويتحدث عن لقبي أرسيني شخصيته الرئيسة، أحد اللقبين هو الروكيني، نسبة إلى بلدة روكينا محل ولادته، والآخر الطبيب. ويحكي عن العلاقة الوثيقة بين كلمة حكيم، وما تشتمل عليه من حكمة وطب معاً، وكلمة حكى بما تشتمل عليه من حكايات، وواقع أن الكلمات تكون أدوية وعلاجات بالنسبة إلى الحكماء والأطباء.

يلفت إلى أنه معروف بأن كلمة حكيم استعملت وما تزال تستعمل مرادفاً للمفردة طبيب، ولكلمة حكيم قرابة بالفعل حكى.. ويورد أن مثل هذه القرابة تعني أن الكلمة أدت دوراً مهماً في عملية المعالجة. ويقول بأن الكلمة، كما هي وبمعانيها كلها، وبسبب قلة الأدوية ومحدوديتها، كان لها دور في العصور الوسطى أكثر أهمية مما هو عليه الآن، وكان ينبغي التحدث آنذاك كثيراً.

ويشير إلى أن الأطباء كانوا يحكون، ومع معرفتهم لبعض العقاقير التي تعالج العلل، لكنهم لم يفوتوا فرصة اللجوء إلى مخاطبة المرض مباشرة، وجعلوا يتحدثون مع المرض قائلين عبارات إيقاعية لا معنى لها على ما يبدو، يحاولون بها إقناع المرض بمغادرة جسد المريض المعالَج. وينوه إلى أن الخيط الفاصل بين الطبيب والمشعوذ في ذلك الوقت كان نسبياً.

وينبه إلى أهمية الحكي ودوره في المعالجة، وأن المرضى كانوا يحكون، وأنه بسبب نقص معدات التشخيص، كان على المرضى أن يصفوا بالتفصيل كل ما حدث في أجسادهم العليلة، وحتى في بعض الأحيان بدا لهم أنه مع الكلمات المغمورة بالألم التي تخرج من أفواههم، يخرج منهم المرض شيئاً فشيئاً. ويروي أن إتاحة الفرصة للمرضى وذويهم للحديث بالتفصيل عن الأمراض للأطباء، كانت تجعلهم يشعرون بتحسن حالتهم الصحية، وكانت الشكوى من صعوبة التعامل مع المرض والمرضى مدعاة للراحة، ذلك لأن العصور الوسطى لم تكن زمناً عاطفياً.

ويحكي أن الطبيب الروكيني الذي ولد سنة 1440، كان مختلفاً عن معاصريه، فقد كان قليل الكلام، يلجأ إلى الصمت والإصغاء غالباً، ويكتفي بالتلفظ بكلمات دقيقة قصيرة دالة، ووصف بأن يده سحرية تعالج المرضى بمجرد لمسهم، ما جعله شهيراً في تلك المرحلة. ينقل أساطير تتحدث عن الطبيب الذي قيل عنه بأنه ما يزال حياً وحاضراً في زمننا، كما في أزمنة سابقة أيضاً، وإنه يملك إكسير الحياة، وحتى من حين لآخر يقال عنه إن مَن وهب الشفاء لا يمكن أن يموت، وغيرها من الأقاويل، ويلفت إلى أن هذا الرأي استند على أن جسده بعد الموت لم يتعفن ولم تظهر عليه آثار التحلل، وظلت جثته تحتفظ بمظهرها السابق لعدة أيام وهي مطروحة في العراء.

طب وحب

{لاوروس} للروسي يفغيني فودولازكين.. رحلة اكتشاف تاريخية
"لاوروس" للروسي يفغيني فودولازكين.. رحلة اكتشاف تاريخية

 يعود للحديث عن كريسوفر، وهو جد أرسيني، الذي كان معالجاً وطبيباً، ولم تقتصر مساعدته للناس على الطب، فقد كان مقتنعاً بأن التأثير الخفي للأعشاب يمتد إلى جميع مجالات الحياة البشرية، وكان يحذر الناس من ألا يفخروا أكثر من اللازم، وأن الفخر ليس أصل كل خطيئة.

يصف كيف أن كريستوفر بدأ يعلم الصبي في سن مبكرة أمور الأعشاب، وكانا يجولان معاً في الغابات ويجمعان الأعشاب المختلفة، ويطلع أرسيني على خصائصها السحرية، وكيف يمكن أن تساهم في معالجة المرضى. ويحكي كذلك عن مصادقة أرسيني لذئب في الغابة، وقدرته على ترويضه بطريقة غريبة ومن دون أي جهد.

يكتب كريستوفر عن الصبي أرسيني أنه موهوب بلا شك، ويدرك كل شيء بسهولة وعلى الفور، وأنه علمه شغلة الأعشاب، وسوف تطعمه في الحياة، وسيقدم له العديد من المعارف الأخرى لتوسيع آفاقه، وسيعرف كيف خلق العالم، وكان يخبره بأن الإنسان مخلوق من التراب وسوف يتحول إلى تراب، لكن الجسد الممنوح له مدى الحياة جميل، ويجب أن يعرفه بأفضل ما يستطيع.

يكون كريستوفر المعلم الذي لا يبخل على تلميذه أرسيني بالحكمة والمعرفة والعلم، يخبره أن حكمة الله التي لا حد لها تنعكس في جسم الإنسان الصغير، كما تنعكس الشمس في قطرة ماء. ويستطرد بالقول إن كل عضو فيه مقصود ومدروس بالتفصيل الدقيق، ويحدثه عن مهام الأعضاء وخواصها المتفردة، وحين يسأله أرسني عن الروح، يجيبه بأنها ما ينفخه الله في الجسم، وإنها تجعلنا أحياء، ويشبهها له باللهب المنبعث من الشمعة، لكن ليس لها طبيعة دنيوية، وتسعى إلى الارتقاء لتلائم العناصر الطبيعية.

يطلب كريستوفر من أرسيني أن يبكي ويصلي، وألا يخاف من الموت، لأن الموت ليس مجرد فراق مرير، إنه كذلك فرحة التحرر والعتق، ويذكر له أن كل واحد منا يكرر طريق آدم وعندما يفقد البراءة يدرك أنه فان.

يشدد فودولازكين على دور الكلمة المكتوبة، من خلال تركيز بطله على الكتابة، وأنه كان يكتب ليس لأنه يخشى أن ينسى شيئاً ما، لكنه كان يرى أن الكلمة المكتوبة ترتّب العالم وتنظمه، وتوقف عدم استقراره، ولا تسمح للمفاهيم بأن تنطمس، لهذا كان نطاق اهتماماته واسعاً جداً، يتوافق نسبياً مع اتساع العالم.

رحيل كريستوفر أثر على أرسيني بشكل كبير، ويصف أن ما حدث له لم يكن غياب شخص ذاهب إلى المجهول، بل غياب شخص يرقد في مكان قريب، وكان أرسيني يدرك أن كريستوفر قريب منه، والشيء الوحيد الذي ساعده على تجاوز الليالي الموحشة هو قراءة رسائل كريستوفر التي كانت تحتوي الحكمة والمعرفة والعلم. أوستينا التي تهتدي إلى كوخ أرسيني، تطلب منه مساعدتها ببعض الطعام، تخبره عن أنها قادمة من مكان موبوء بالطاعون، لكنه يستحثها على الدخول، لأن البرد قارس، ويتعرف إليها أكثر لاحقاً، بحيث تسد بعضاً من الفراغ الذي أحدثه رحيل جده عنه.

يسرد فودولازكين كيف أن أرسيني بدأ حياة أخرى مليئة بالحب والخوف، الحب لأوستينا والخوف من أنها قد تختفي فجأة كما جاءت فجأة، ويحكي أنه لم يكن يعرف بالضبط ما الذي كان يخاف منه، إعصار أم برق أم نار، أم نظرة حسد شريرة، وحاول إخفاءها عن عيون الفضوليين كي لا ينكشف سرهما، ثم يصف كيف أن موت أوستينا خلّف تأثيره الكبير على أرسيني الذي لم يستوعب الصدمة، ورحل بعيداً عن الديار.

عن صحيفة العرب

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم