أحمد صلال - الرواية نت - باريس

عالم غريب، هو عالم الرواية الأخيرة للروائي السوري-الفرنسي خليل النعيمي، بمرونة سردية واضحة يدخل 

 القارئ في أجواء (قصاص الأثر) الصادرة مؤخراً عن المؤسسة العربية للدراسات في بيروت. 

البطل والذئب.. بين واقعي ومتخيّل! 

البطل يعيش في ريف مدينة (الحسكة) السورية، وفيما زوجته راقدة في الفراش في إحدى ليالي الشتاء القارص البرودة بانتظار ولادة نهار جديد، يتلقى البطل رسالة من أعماق نفسه، هذا النداء يدفعه للهجرة نحو البادية للبحث عن نفسه، بدعم من ذئب يرافقه في البحث/الهجرة!

لمحات من الصوفية في العلاقة بين إنسان وذئب، يعمل النعيمي على إبرازها، وهنا يتجلى المزاج الشخصي للرواية. بين البطل والذئب، تبدو مساحة من الخيال، تتقاطع مع المدى الواقعي للحدث السوري اليوم، بين الخيالي والواقعي يروي النعيمي الهجرة السورية، بمقدار ما هو عالم قريب وشخصي نعيشه في أحداث الرواية وبنبرة محلية في صوغ الحدث، بمقدار ما تتسع المساحة على عالم أكبر، يحكي فيه النعيمي هجرته/هجرتنا.

الزمن السوري!

يختار النعيمي وعلى غير عادة مزاجه السردي في رواياته الصادرة سابقاً، العلاقة بين فسحة الخيال وعالم الواقع، في محاولة للتجريب السردي، أمام قوة التاريخ السوري اليوم، لا يمكن لتقنيات الكتابة التقليدية التعبير، بمقدار ما يكون التحديث طريق للتعبير عن المسارات النصية، وتحديداً بما يخص اللغة والحوار، وذلك بتنويع طرق السرد والرؤى والاحتفاء بالتجريب والتحديث، انطلاقاً من عالم البادية كعالم شخصي وقريب نحو عالم أوسع يتجلى في سورية، بمعرفته المكينة لمجريات التاريخ والواقع في هذه الأمكنة.

الذاكرة الجمعية التاريخ والحلم الفردي، أشياء تنسج الرواية منها واقعها ومتخيلها، الحكاية التي تبدأ بسيطة وتنتهي بسيطة، تعكس صور ومشاهد تدل على الإنسان السوري اليوم، الهجرة بوصفها الحكاية التي يعيشها-زماناً ومكاناً-السوري اليوم، بالجسد والذاكرة. استحضار الماضي والحاضر لواقع الناس في ريف الحسكه ومعيشهم، ناقلاً إلى القارئ مظاهر مجتمعية وتاريخية لهذا المجتمع، حيث الراوي يرى ما لا يراه الآخرين، ويحكي ما لا يستطيع الآخرين حكايته، قدر الراوي أن ينقل لنا مشاهداته وهو يقطع البادية متجهاً صوب الشام، مستمعاً من أبيه خلال هذه الرحلة إلى العديد من الخرافات، بهذا المعنى يتماهى المكان/البداية، بوصفه عالم قريب وشخصي، مع المكان الأوسع/سوريا، ويتماهى التاريخ الشخصي مع التاريخ الجمعي، والوقائع المجتمعية والمعاش اليومي مع الحدث التاريخي، الذي آلت إليه البلد، ضمن حاضر الكتابة/ الحلم إلى الزمن الماضي.

سؤال الدهشة!

لا يمكن لقارئ أن لا يصطدم بكم الدهشة التي تعتريه أمام التاريخ الذي تصنعه الرواية، البحث عن الإنسان الذي لا يتغير بالمعنى الإنساني حتى لو تغير كل شيء من حوله، حيث تبقى المتغيرات بمنأى عن الفرح والحزن بوصفها أشياء لا يطالها التاريخ، ودهشة استحضار الماضي في الحاضر، والتعلق بإيقاع الزمن البعيد، بوصف التاريخ عصي على الاستشراف يبقى الحاضر بموقع التقدير للماضي، ونعثر في السرد على لغة الماضي بينما تبقى لغة الحاضر المشدودين إليه برغبة، ضائعاً كلما وجدناه، ضاع، وكل ذلك لا يقال دفعةً واحدةً ولا بعدد هائل من الشخصيات، كما هو الحال عليه في التقنيات التقليدية.

تبذل الرواية جهداً كبيراً في البحث عن روح السوري، حيث يرمز إليها الراوي بتلك المسافات التي قطعها البطل في البادية بحثاً عن النداء العميق الصادر عن أعماق نفسه، وهنا تفتح الرواية على أفق تشويقي وخيالي، كرحلة مصغرة عن حيواتنا، ونلاحظ في مستويات السرد أن الإيحاءات والرموز تجد لها سنداً، حيث تهشيم الزمن واعتماد على تقنيات الإرث الحكائي الشرقي.

العالم الروائي في رواية(قصاص الأثر) للروائي السوري-الفرنسي خليل النعيمي، عالم يحركه التجديد ويسعى لإحداث قطيعة مع التقنيات السردية التقليدية التي تعترض المسارات النصية، عالم مشدود إلى مجاله الفني والرؤيوي، ممتلكاً طابعاً خاصاً، متمثلاً ما يرى وجوبه من تجديد إبداعي، ونزعة رافضة لكل تقليد.


صحفي وكاتب وناقد سوري

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم