أحمد صلال - باريس

لغة حالمة بحياة أفضل.. سرد رشيق من الواقع المرير.. رغبة بتعرية المسكوت عنه وكشف المستور.. كشف العلاقات المجتمعية ومنظومة بناءها في ظل القمع والخوف والاستبداد.. وحضور للمواضيع التي تهم الحياة اليومية للناس.. مساءلة الحياة الشخصية من أجل الشك والمساءلة التي تقود إلى فضاء عام أشمل.. ينقذ الحاضر من ماضي مأزوم، هكذا تبدو رواية "مَن لا يعرف سيمون؟!" للروائي السوري عمر قدور.

"من لا يعرف سيمون؟!"، رواية يمكن أن تصنفها في خانة ما بات يعرف بـ"الرواية السورية الجديدة"، رواية تحاول أن تحفر في الواقع المرير لحياتنا وتتحدى سلطة القهر، لا تبحث عن السلام المفرط الراكن للمهادنة، رواية تقاوم من أجل سلام شجاع، وما يميزها حضور النقد الحارق والمتمرد، وكأنها رواية تحارب من أجل أن تهزم كل فنون السرد القديمة، وبالأخص خرق كل المحرمات من أجل المصالحة مع واقع جديد صنعته النيف وسنتين من عمر الثورة السورية.

السرد الروائي يشتغل على حكاية شابة مراهقة تشتبك مع الحياة تدعى "سيمون" بطلة الرواية، تشبه كل الشخوص، هي أنا وأنت والآخرين، حياة سيمون الخاصة معترك يتداخل فيه الخاص والعام حد الاشتباك، ويرغب بتعرية الواقع عبر نقده، نقد يصل به الجرأة حتى الجرح، لا محرمات كل شيء يجب أن يكون موضع وموطن للنقاش.. لا شيء يكرس بالعتمة كل شيء يجب أن يرى الشمس ويبصر عيوبه تحت أشعتها.

الرواية تتشارك مساحة واسعة من إشكاليات حياتنا اليومية في ظل القهر البعثي، بطريقة تميط اللثام عن دراية بأساليب الطرح الروائي الذكي، والابتعاد عن الفجاجة بالتناول والمباشرة بالطرح. حيث تجد الفساد والكابوس الأمني والاستخباراتي وقمع الإبداع والمثقف، ثيمات يشتغل السرد الروائي عليها من خلال الحفر والطرح في حضورها وأسبابها، مواضيع تتنوع وتتكامل من أجل فسحة روائية تصبو للنضج.

ما يلفت النظر في هذه الرواية قدرتها على أن تكون قريبة من كل الشرائح العمرية، أنها تخص كل المجتمع لا تخص شريحة بعينها، وإن كان المتلقي الشاب الأبرز في حضورها، الشاب الأكثر إقبالاً على رواية تمارس النقد على المحرمات والمباح في العقل الشعبوي، طالما كان المسكوت عنه والمحرمات وكشف المستور، مجرد موضوعة في النقد الروائي، ولكن أجزم أن هذه الرواية يمكن أن تشكل فتح في الرواية السورية الجديدة، ليس من حيث كونها تفرد لا يمكن أن يقارن به عمل روائي آخر، ولكن من حيث أن الموضوعة فيها، تقارب المجتمع وتبيئه، وتضع شحنتها الثقافية والمعرفية والحياتية في سياقاتها الحضارية والثقافية الصحيحة.

بدأ الحديث والتنظير عن الرواية الجديدة في سوريا قبيل الثورة، ولكنها بقيت أسيرة تنظير خاوٍ لم يقرن بتجارب جادة قاربت ثيمات المحكي عنه. وتشكل سورية المجتمعية الآن أو إعادة تشكلها، لا بد وأن يترافق مع رواية جديدة تحدث قطيعة مع موروث السرد الروائي الرث، الذي لم يتمكن من أن يكون على مستوى النتاج والمنتج، صوت وضمير للفرد المقهور والمسلوب والمهمش، طالما كانت الرواية مجرد فسحة للنتاج الذاتي المعزول عن بيئته المجتمعية في سوريا قبل الثورة، وهذا ما أثبته الواقع المعاش وسلوك الروائيين السلبي والمناصر للنظام في التعاطي مع ما تشهده البلاد من تغييرات جذرية.

مقاربة النقد في هذه الرواية وكشف المستور والمسكوت عنه، لم يكتفِ بقيمة الموضوعة النبيلة، بل حاول وأجتهد أن يقارب المسرود باشتراطات منتجة سرد نموذجي، الموضوعات والشخوص والحالات، حضرت عبر تقنيات تجسد حضور المحكي عنه، حضور حسي يقارب حضور المجتمع، ولم تنزح إلى المضمون بشكل يعفيها من مراعاة الشكل، المضمون والشكل لا ينفصلان خلال السرد الرشيق والمسبوك بلغة تصويرية ذات جملة قصيرة محملة بمخزون ثقافي لا يستهان به، تخرج معرفتنا للواقع عن الشكل النمطي المشبع، لا تصنع واقعاً مزيفاً بل تحاول أن تعقلن الواقع وتشرحه.

الروائي والرواية لم يصنعا الرواية السورية الجديدة، كما تبدو مع هذه التجربة، بل أن الواقع ومتلقي الواقع، بدا يفرض نفسه بقوة على واقع السرد الروائي، وكأن "قدور" عبر روايته الأخيرة يريد أن يفتح نافذة للتجريب، تجريب يقوم على أفق جديد لا يعتاش على أمجاد الماضي ويكتفي باجتراحه بطريقة مشوهة، بل يريد أن يجسد السرد الروائي بطريقة تعيش الواقع في العالم الحسي.

الواقع المنقود في رواية "من لا يعرف سيمون؟!"، واقع يجب أن يحظى بالاهتمام، نقد يبحث عن أدوات جديدة لكي تتناسب مع واقع جديد، لا مكان للبديهيات واليقينيات فيه، وعيوبه مجال للنافذ إلى واقع فاسد يجب تغييره، حيث تمسي الرواية شريكة في إسقاط الأنظمة الثقافية مثلما أسقطت الأنظمة السياسية.

كاتب وصحفي وناقد سوري

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).

مواضيع أخرى ربما تعجبكم